أبحاث

في ضرورة حفظ الذاكرة السورية/ حسان الأسود

منذ بداية الثورة السورية، وربما قبل انطلاقتها فعلياً في 18 مارس/ آذار 2011، أي منذ تباشير الحراك المدني الاحتجاجي الذي بدأت ملامحه تظهر في مدن وقرى سورية عديدة مع وصول أصداء صرخات شباب الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن، دأبت أجهزة النظام، والتي هي بالمناسبة أجهزة الدولة السورية ذاتها، على صناعة محتوى خاص بها عن هذه الثورة، تدرّجت بإطلاق التسميات عليها بما يتناسب وتطوّر نظرتها إلى هذه الثورة، فبدأت بتعبير أحداثٍ ثم انتقلت إلى استعمال كلمة أزمة، حتى وصلت إلى إطلاق توصيف الحرب الكونية.

ارتكز هذا المحتوى على جوهر واضح لدى مركز صنع القرار في النظام، وهذا يمكن أن نُطلق عليه تسمية العقل الجمعي أو التشغيلي أو البنية المسيّرة أو المنظومة الحاملة التي يعمل بها النظام تلقائياً. وكلمة تلقائياً ليست مجازاً، بل هي توصيف حقيقي للآليات والأدوات والإجراءات التي تسير فيها الأفعال وردود الأفعال. بمعنى آخر، أي سلوك أو تصرّف أو قرار يصدر عن هذا النظام لا بدّ له من المرور بهذه الدورة المتكاملة، انطلاقاً من النقطة ألف وصولاً إلى النقطة ياء. وقد تمّ، بناء هذه الدورة المتكاملة عبر تراكمات كثيرة بدأت منذ عهد الوحدة مع مصر، ثمّ تدرّجت بين العفوية والإدراك من القائمين عليها في عهد “البعث”، حتى باتت نهجاً ذاتيّ التسيير مع استلام حافظ الأسد ومن بعده وريثه بشار.

جوهر المحتوى المذكور هو الكذب وتزييف الواقع وتحريفه وإنتاج رواية بديلة مدعّمة بالأسانيد والحجج والأدلّة. وبغضّ النظر عن إتقان هذه الرواية بتفاصيلها الدقيقة، والتي بدا وكأنّ النظام غير مهتمّ بها، إلى درجة أنّ المراقب كان يلاحظ أنّ الأمر ليس مجرّد نقص كفاءة أو سهوٍ، بل هو منهجيّة واضحة في أذهان القائمين عليها، فإنّ الرواية صمدت أمام امتحانات الزمن وتراكم القصص والأحداث. صمدت لا بسبب كونها حقيقة، ولا بسبب أنها متقنة الصنع، ولا بسبب أنها مقنعة، بل لهذه الأسباب جميعها التي بغيابها عوّضت عن حضورها، أي وفق المبدأ السياسي المشوّه الذي يصف حال لبنان بأنّ قوته تكمن في ضعفه، أي صمدت لجميع الأسباب التي تدعو إلى انهيارها، وهي مفارقةٌ لا تخلو من سخريةٍ مرّة مرارة واقعنا هذا. هكذا كانت رواية النظام قويّة، راسخة، مدعّمة بالأسانيد، مربوطة بحبالٍ لا تقوى على حملها، لكنها تمنعها من السقوط مع ذلك كلّه.

سيكون من المفيد ضرب بعض الأمثلة عن هذا السلوك أو عن هذه المنهجية بالأحرى، وسنختار موضوع الضبوط الأمنية التي كانت تنظمها أجهزة النظام – الدولة في كل واقعة صغُرت أو كبُرت، بدءاً من مخافر الشرطة وصولاً إلى أحكام أعلى هيئة قضائية، التسمية واضحة لكلّ من خرج في وجه النظام؛ إرهابي، جماعة إرهابية، جرمٌ فعلٌ حدثٌ تصرّفٌ إرهابي، كل شيء كان إرهابياً، بدءاً بالتفكير وانتقالاً إلى الفعل، وصولاً إلى النتائج. عند تسليم جثث الشهداء مثلاً لذويهم، أو القتلى أو الضحايا (مهما كانت التسمية الملحقة بالشخص بناءً على اصطفافه الذي سبق وفاته)، توجّب كتابة محضرٍ يُذكر فيه أنّه سقط على يد الجماعات الإرهابية، أو نتيجة عملٍ إرهابي. عند تقديم طلبٍ لتثبيت حالة فقدانٍ أو وفاةٍ غير طبيعية، وجب أن يُدلي أصحاب الطلب بتصريح خطيّ بأنّ السبب شخصٌ أو مجموعة أو فعلٌ إرهابي. يُقاس على ذلك كلّ تصريح صحافي أو لقاء تلفزيوني أو عملية افتتاح نشاطٍ مدني مثل معرضِ كتبٍ أو تدشين صرحٍ تذكاريٍ أو مخبزٍ أو مدرسة .. أيّ شيء كان يتم القيام به تحت عنوانِ الإرهاب أو محاربة الإرهاب.

تولّد الرواية هذه مع الزمن آثاراً نفسية عند القائمين عليها والخاضعين لها على السواء، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة، تؤدي هذه الآثار إلى تثبيت مفاهيم معيّنة عن الذات وعن الآخر في الذهنية الفردية والجمعية، وتكرارها يجعل النمطيّة السائدة تلقائيّة التداول وعفوية القبول. من هنا بات المشاهد من خارج الصندوق السوري المغلق، وهو صندوق يحوط الخاضعين لسيطرة قوات نظام الأسد الفعلية والمعنوية، يرى عجائب وغرائب عجزت عنها مخيّلة كارل دودسون في روايته “أليسْ في بلاد العجائب” أو مخيلة روبيرت جيلمور في روايته الفيزيائيّة “أليسْ في بلاد الكمّ”. من مثلِ وزيرٍ يتحدّث عن تعميم تجربة بطاقة التموين الذكية على روسيا وألمانيا، أو من معلّق ومحلل استراتيجي يعلن أخذ بوتين موافقة بشّار قبل غزو أوكرانيا بقوله: “روحوا، اتكلوا على الله” بعد أن شرح له وزير دفاعه الخطوات الثلاث التي تختصر القصّة، مروراً بمئات، بل آلاف التهويمات المعبّرة بصدق عن عالم سورية الأسد، كانت الرواية تُنسج على مهل وبأناة وصبرٍ شديدين، ويبدو أنّ مخالطة النسّاجين الفرس قد أثمرت في اكتساب الصبر بانتظار نتائج الحياكة.

من هنا، أي خطورة تطاول الزمن وامتداده على هذه الصناعة وعلى هذا التراكم، تبرزُ الحاجة لفهمها أولاً، ثم التفكّرُ بأساليب مقاومتها ثانياً، والانتقال ثالثاً إلى صناعة محتوى الرواية الأخرى، روايتنا نحن المعذّبين في الأرض، المصلوبة أجسادنا على جدران الزنازين أو حبال الخيام، المعلّقة أفئدتنا على أغصان الشوارع في المنافي وفي لوحات الكاريكاتير وصفحات الجرائد، المستلبة عقولنا بخطوط الخلاف والاختلاف وحدود الصراع والمصالح والقيامة المقبلة. سيكون علينا أن نبحث في ما أنجزناه من روايتنا أيضاً في أثناء استماعنا إلى معزوفة العدو وقراءتنا روايته ومشاهدتنا مسرحيته.

العربي الجديد

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button