مراجعات الكتب

“حياة العقل” لحنه آرندت وصية فكرية لتلخيص الحياة ودروسها/ إبراهيم العريس

الكتاب الذي رحلت صاحبة “جذور التوتاليتارية” من دون استكمال قسمه الأخير

إذا كانت المفكرة الألمانية – الأميركية حنه آرندت قد تمكنت من استكمال القسمين الأولين من الكتاب الذي ختمت به حياتها الفكرية وأعطته صديقتها الكاتبة الأميركية ماري ماكارثي عنوانه النهائي بعد تردد طويل، “حياة العقل”، انطلاقاً من كونها قد عينت من قبل الكاتبة نفسها منفذة لوصيتها، فإنها في المقابل لم تتمكن أبداً من إنجاز القسم الثالث الذي وجدت منه صفحته الأولى فقط على آلة آرندت الكاتبة في تلك الليلة التي أصابتها تلك الذبحة القلبية الثانية التي قضت عليها في ديسمبر (كانون الأول) 1975. وكانت تلك الصفحة تحمل قولاً مستعاراً من سيسرون ينقل عبارة لكاتو. مهما يكن، وعلى الرغم من السجالات الطويلة التي دارت بين أصدقاء آرندت من كبار الكتاب والمفكرين من حول المواد التي كان يفترض بذلك الجزء أن يضمها لا تزال عناوين وتفاصيل تلك المواد مجهولة حتى اليوم، وإن كانت آرندت نفسها قد أعلنت مراراً أنها ستجعله يتعلق بموضوعة “الحكم على الأمور” بعدما كان القسم الأول يتعلق بـ”إعمال الفكر” والثاني بـ”الإرادة”. ومن نافل القول هنا أن هذه الأقسام الثلاثة إنما أرادت آرندت بها أن ترسم خاتمة لنتاجها الفكري ككل تلخص كل ما حملته في حياتها واشتغلت عليه من أفكار فلسفية تنطلق تحديداً من سقراط لتصل في نهاية الأمر إلى صديقيها وأستاذيها مارتن هايدغر وكارل ياسبرز، مروراً بالفكر الوجودي كا أدركته في انطلاقة من كيركغارد.

نوع من تصفية ختامية

مهما يكن من أمر لا شك أن المطلعين على الأعمال الرئيسة لصاحبة “إيخمان في القدس” و”الوضع الإنساني” و”جذور التوتاليتارية” و”من الكذب إلى العنف” لن يكونوا في حاجة إلى الكثير من التخمين حتى يدركوا ما الذي كان يمكن أن يشكله ذلك العمل “الثلاثي”، بخاصة إن قيض لهم أن يطلعوا على الكتاب الضخم الصادر حديثاً مترجماً إلى العربية عن دار الساقي تحت عنوان “إضاءات لفهم الواقع”، فحتى إن كانت هذه الدار قد اختصرته إلى جزء واحد وبدلت عنوانه الذي كان في الأصل رائعاً، “التفكير من دون شبكة أمان”، فإن الكتاب الذي يضم في أصله الإنجليزي نحو مئة دراسة كتبتها آرندت طوال عقود لا تقل عن ثلث قرن، يمكنه أن يشكل الأساس الفكري الذي ستبني عليه المفكرة ذلك الكتاب الذي صدر بعد رحيلها بثلاث سنوات والذي نتحدث عنه هنا. ففي نهاية الأمر لا بد أن نتذكر دائماً أن ثمة ترابطاً وثيقاً يجمع بين كتابات آرندت ويطل من كتاب إلى آخر حول عدد محدد من المواضيع الفكرية والسياسية وحتى الأدبية، إنما من دون أن نصل إلى حد الحديث عن المواضيع الفلسفية بالنظر إلى أن آرندت كانت تصر دائماً على أنها مفكرة سياسية وباحثة اجتماعية لكنها ليست فيلسوفة.

فلسفة على الرغم من أنفها

ومع ذلك سنلاحظ بسرعة أن كتاب “حياة العقل” كتاب فلسفي، بل إن جذور وضعه تغوص في رغبة جامعة آبردين الاسكتلندية في دعوة المفكرة لإلقاء سلسلة محاضرت فلسفية ضمن إطار برنامج كان مخصصاً لذلك النوع من المحاضرت. ولقد كانت حنه آرندت أول مفكرة امرأة تلقي تلك المحاضرات في تاريخ الجامعة. وهي محاضرات عادت واستكملتها في “المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي” في نيويورك خلال الموسم الدراسي لعام 1967. غير أن الجذور الحقيقية لرغبتها في وضع مؤلف عن حياة العقل تعود إلى المرحلة التي تابعت فيها محاكمة إيخمان في القدس لحساب مجلة “نيويوركر”، ما أسفر عن كتابها حول تلك المحاكمة الذي أثار من السجالات أضعاف أضعاف ما أثاره أي مؤلف آخر لها، وأفقدها كثراً من أصدقائها اليهود الذين اعتبروها “خائنة لجذورها الصهيونية” ومن بينهم غرشوم شالوم الذي رفض “مسامحتها” حتى وهو على فراش الموت! والحقيقة أن حنه آرندت انطلقت بفكرة “حياة العقل” خلال تأملها لما يحدث تحديداً خلال تلك المحاكمة التي ولدت لديها مفهوم “عادية الشر”، إذ وجدت النازي إيخمان الذي اعتقله الإسرائيليون وحاكموه وأعدموه بوصفه من كبار أصحاب القرار النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، مجرد موظف بيروقراطي صغير ينفذ أوامر رؤسائه دون أية عواطف… وهو ما لم تكن السلطات الإسرائيلية لتوافق عليه إذ أرادت من المحاكمة أن تكون خبطة العصر السياسية.

بين الفعل والإرادة

أمام ذلك الحدث السياسي انطلقت آرندت لتفكر الفعل والإرادة في وقت واحد ولكن بالاستناد الواضح إلى كتابات عديدة سابقة لها، وبخاصة في ما يتعلق بما سمته “حياة التفكير” و”حياة التأمل” ولكن في خط أضافت إليه فيه تجربتها مع محاكمة إيخمان، حيث توصلت إلى أن “غياب التفكير في أي فعل سيكون مآله أن يوصل إلى الشر”. وتلكم هي على أية حال الفكرة الرئيسة التي حركت “حياة العقل” رابطة إياه بحالة إيخمان. والحقيقة أننا مهما قلنا عن هذه الأفكار سيظل تفسيرنا للكتاب الثلاثي بوصفه وصية فكرية متكاملة لحنه آرندت ناقصاً، وبخاصة أن من المعروف أنها اشتغلت في التمهيد للقسم الثالث الذي لا نزال في حاجة إليه قبل اعتبار النص مكتملاً، انطلاقاً من كتاب كانط “نقد ملكة الحكم”، ونعرف أن أحداً لم يعثر حتى اليوم على مسودات أو تمهيدات يمكن أن تفيدنا هنا، وإن كان في إمكاننا أن نتصور كم أن التجديد في هذا السياق كان يمكنه أن يكون كبيراً، ويخرج “الثلاثية” في مجملها من إطار توضع فيه بوصفها مجرد إعادة ترتيب واستكمال لمجمل الأفكار التي لم تتوقف آرندت عن التعبير عنها، محققة دائماً ومهما كان من شأن تلك الأفكار وتبعاتها نوعاً من توليف وتوضيح لا أكثر لما هو معروف ومتتابع من أفكارها.

ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من الإشارة إلى أن كثراً من دارسي عمل حنه آرندت يعتبرون الكتاب الذي يحمل اليوم عنوان “حياة العقل” أشبه بجزء ثانٍ مكمل لكتاب سابق لحنه آرندت هو “وضع الإنسان الحديث”، وذلك بالنظر إلى أن “حياة العقل” وبالشكل المبتور الذي انتهى إليه إنما يعالج الحياة غير العملية بل تحديداً “تلك الإمكانات البشرية التي لا تصل إلى حد الانخراط العملي في الحياة الواقعية، وبالتالي لا تسهم في إحداث أي تبديل جذري في مجرى الأمور”. وفي هذا الإطار ترى آرندت أن الأمور الثلاثة التي تجتمع هنا وهي التفكير والإرادة والحكم، باعتبارها الإمكانات الأساسية إنما تتطور داخل البعد الذاتي وحده، وبالتالي هي تملك نوعاً من استقلالية خاصة بكل واحدة منها من دون أن تمتلك مصدراً موحداً يجمع بينها. وتتابع آرندت هنا مؤكدة أن “في عالم الظواهر الذي تدور فيه رحى الحياة، يمكن أن يكون الكائن البشري ممتلكاً القدرة على التفكير التي تتخذ بعدين أولهما التفهم بالمعنى الإدراكي، وثانيهما التأمل الفلسفي. حيث يهتم البعد الأول بالظواهر يقوده الظمأ إلى المعرفة، فيما يهتم الثاني بالتأمل الفكري العميق إذ يتعامل مع المعاني كما مع الأفكار. ومن الغريب هنا أن تؤكد آرندت أن شكلي ممارسة التفكير هذين يتطلبان شيئاً من الابتعاد عن العالم الذي يفرض نفسه على الأحاسيس ويدير شؤون الاحتياجات اليومية”.

حياة صاحبة حياة العقل

يبقى أن نذكر هنا أخيراً أن حنه آرندت قد ولدت عام 1906 في مدينة هانوفر ابنة لأب مهندس وأم عرفت بانتمائها إلى الحلقات المناضلة الاشتراكية في المدينة. غير أن تلك العائلة الصغيرة سرعان ما انتقلت عام 1909 إلى كونغسبرغ، مدينة كانط ثم في عام 1924 إلى مدينة ماربرغ، حيث درست حنه الفلسفة على مارن هايدغر، لتبدأ معه حكاية حب ستدوم طويلاً. ولسوف تنال شهادة الدكتوراه عام 1928 عن أطروحة حول القديس أغسطينوس ومفهوم الحب لديه. ومع سيطرة النازيين على السلطة وهي في برلين عام 1933 ستسجن حنه بسبب نشاطاتها السياسية لكن سراحها سرعان ما يطلق وتهاجر إلى باريس حيث تبقى سنوات تهاجر بعدها في عام 1941 مع زوجها الثاني هينر بلوخر إلى الولايات المتحدة، حيث لم تلبث أن تصدر هناك بعد عامين كتابها الأهم “جذور التوتاليتارية”، لتتبعه خلال السنوات التالية بعدد من أهم كتبها ولا سيما في مجال الفكر السياسي، وتقوم بالتدريس في العديد من الجامعات، حتى بدايات السبعينيات حيث ستتلاحق عليها الأزمات القلبية وتسابق هي الزمن لنشر كتبها ودراساتها حتى رحيلها في عام 1975.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى