حافظ الأسد بوصفه مايسترو الطوائف/ عمر قدور
لم يكن قرار حافظ الأسد إقالة رئيس الوزراء آنذاك عبدالرؤوف الكسم قراراً روتينياً، فالكسم تولى رئاسة ثلاث حكومات متعاقبة خلال ثماني سنوات، بين 1980-1987، وعُرف كرئيس حكومة قوي مدعوم من الأسد. المفاجأة الأكبر كانت في تكليف محمود الزعبي خلفاً للكسم؛ لا أهمية للاسمين هنا بقدر أهمية انتزاع المنصب من شامي وتعيين حوراني مكانه. من يعرف الحساسيات المناطقية السورية يدرك أن حافظ الأسد تعمد توجيه ضربة معنوية مزدوجة للاستعلاء الشامي التقليدي على الحوارنة، هو الذي عُرف بإدراكه الجيد مختلف الحساسيات الأهلية، وبإقامة التوازنات فيما بينها أو اللعب عليها.
لا مكانة سياسية على الإطلاق لرئيس الوزراء، لكنه يملك نظرياً صلاحيات اقتصادية واسعة، وهذه الصلاحيات هي الأداة التنفيذية لما كان يوصف بتحالف حافظ الأسد مع بقايا البرجوازية المدينية. لذا كان المنصب منذ انقلاب الأسد قد أُسند إلى شامي “سُني”، الأصل الكردي لمحمود الأيوبي لم يكن في الحسبان، ولا الأصل الجزائري عبد الرحمن خليفاوي. الأخير أيضاً سبق الكسم بأن نال سمعة رئيس الوزراء القوي، ويُقال أن حافظ الأسد سخر منه أمام أعضاء الوفد المرافق، للمصادفة في رحلة العودة من قمة ثنائية في الجزائر، فقال أن الخليفاوي يظن نفسه رئيس حكومة مثل مناحيم بيغن. كانت تلك نهاية الخليفاوي، قبل عشر سنوات من الإجهاز على قوة المنصب الذي كان يرمز إلى مكانة الشوام من ضمن قسمة كعكة السلطة.
حسبما يُروى، كانت غرفة مدير مكتب أمين فرع الحزب في حلب مكتظة بالطامحين لنيل عضوية مجلس الشعب في أيار 1973، عندما خرج أمين الفرع مطالباً باستياء بمغادرة كل من لا طائفة أو عشيرة تدعمه. كان مصدر الاستياء التوجيه الآتي من “القيادة” بمراعاة العشائر والطوائف، ولم يكن ذلك التوجيه “الذي يُفهم منه الإلزام” من مألوف أدبيات البعث قبل انقلاب الأسد.
نحو ربع قرن من عهد حافظ الأسد أمضاها حكمت الشهابي رئيساً للأركان، بينما استمر مصطفى طلاس وزيراً للدفاع لاثنين وثلاثين عاماً في عهدي الأب والابن. بعد الاثنين، شغل حسن تركماني منصب رئاسة الأركان، ثم منصب وزير الدفاع، لتتعزز الفكرة السائدة بأن وزارة الدفاع ورئاسة الأركان من حصة السُنة. ذلك سيثقل من دلالة تعيين علي أصلان العلوي رئيساً للأركان، ثم تعيين علي حبيب وزيراً للدفاع، رغم أن المنصبين لم يكن يُنظر إليهما بتقدير، ولم يكونا خلال عقود مركزَ القوة أو القرار العسكريين.
سرايا الدفاع، الوحدات الخاصة، الفرقة الثالثة، سرايا الصراع، ولاحقاً الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة؛ تلك كانت هي الإقطاعيات العسكرية غير الخاضعة للأركان أو وزارة الدفاع “السُنيتين”، وأمراؤها “وغيرهم أقل شأناً” علويون بدرجات قرب متفاوتة من حافظ الأسد، لكنهم ليسوا خارج حساب التوازنات الخاص به. ربما لاعتبارات عاطفية عائلية استوعب محاولة شقيقه رفعت قائد سرايا الدفاع الانقلاب عليه، لكنه لاعتبارات عشائرية كان مستعداً أيضاً لتحمل زلات لسان الحليف اللدود علي حيدر قائد الوحدات الخاصة، حتى وهو يقول في عشاء حافل أن السوريين يموتون من الفقر بينما الخديوي ذاهب لتدشين منشآت دورة ألعاب المتوسط.
في عام 1988 سيُعفى علي حيدر من منصبه، وتنتهي الهيبة القديمة للوحدات الخاصة، وكان المؤتمر الثامن لحزب البعث 1985 قد كلف نائب رئيس الأركان علي أصلان بإعادة هيكلة الجيش. إقصاء رفعت استدعى وضع مشروع توريث الابن على نار حامية، وهذا استدعى بدوره إطاحة أمراء الإقطاعيات مع الوضعية المميزة لقطعاتهم، وترفيع البعض منهم إلى مناصب إدارية أعلى كان عملياً إزاحة لهم عن مراكز القوة. أما استعادة هؤلاء من قبل بشار بعد اندلاع الثورة، كمستشارين عسكريين أو أمنيين، فقد قُرئت خطأ على أنها استفادة من خبراتهم في قمع انتفاضة الإخوان قبل ثلاثة عقود من الثورة، والأقرب إلى الواقع أن خبراتهم وكفاءاتهم تقادمت، وأنه حاول استعادة إرث أبيه المقترن بإرضاء الحيثيات الاجتماعية لهم، أي لتحقيق اصطفاف طائفي أمتن.
الأحوال العامة لأبناء الطوائف المسيحية لا تنبئ بحصولهم على أية ميزات، فمنذ السبعينات تزايدت هجرتهم إلى خارج سوريا، أي قبل تفاقم الأزمة الاقتصادية التي عانى منها الجميع بين منتصف الثمانينات ومنتصف التسعينات تقريباً. أما على الصعيد الحكومي فقد كانت للطوائف المسيحية حصة من المناصب المتدنية، كأعضاء في مجلس الشعب أو وزراء في وزارات هامشية. الاستثناء الوحيد أتى في عهد بشار، مع تعيين داوود راجحة في منصب رئيس الأركان، ثم وصوله إلى منصب وزير الدفاع. في القناة الخلفية، لقادة الطوائف المسيحية الروحيين خط اتصال بالقصر، ومن خلاله كان حافظ الأسد يمنحهم الشعور برعايته الخاصة لهم.
لرؤساء العشائر الميزة نفسها التي لقادة الطوائف المسيحية ولشيوخ العقل الدروز، فللكبار منهم خط اتصال بالقصر، وهذا الخط يعني تلقائياً اكتساب صاحبه مزايا شخصية ضمن سلطة تقوم على المحسوبيات. ما هو قابل للتعميم أنهم جميعاً استفادوا “لمصلحتهم الشخصية وللمقربين جداً منهم” من مغانم السلطة الاقتصادية، واستفادوا بتعزيز وجاهتهم التقليدية التي صارت مدعومة من أعلى مستوى في السلطة. بموجب هذه الوضعية لم يعد الأسد هو الذي يقسم ويوزع الكعكة فحسب، فهو أيضاً الذي بات يختار للطوائف والعشائر قادتها.
من المعتاد، ونحن نقرأ أو نستمع لمعارضين، أن نصادف ذلك الإعجاب “المضمر أو المعلن” بحافظ الأسد مقارنة بوريثه. بل لا يندر لدى كثر الإعجاب بدهاء حافظ الأسد؛ فقط لو لم يكن علَوياً! في رأس مبررات الإعجاب بحافظ الأسد تبرز مهارته في نسج التوازنات بحيث كان يرضي طيفاً واسعاً من المجموعات الأهلية، أي مهارته كمايسترو للطوائف. وفي رأس أسباب الثورة على وريثه ما هو متداول عن استئثاره بالسلطة، وعدم اكتراثه بالتوازنات التي أرساها الأب.
من دون أن تُسمّى باسمها، ثمة امتداح للمحاصصة الطائفية للأسد الأب، وهي كانت مقبولة سُنياً رغم التحفظ على اختلال شقها العسكري، وغير بعيد عنها تلك الفكرة الرائجة عن تحالفه مع البرجوازية السنية، الفكرة التي تُستخدم أحياناً لدحض اتهامه بالطائفية. ربما يجدر التفكير في أمرين؛ امتداح حافظ الأسد بوصفه مايسترو للطوائف، وتلك المقارنة الظالمة بينه وبين وريثه لجهة الاستئثار بالسلطة، الظالمة لأنها عديمة الانتباه لكون المايسترو “الأب” هو الذي شرع في النصف الثاني من الثمانينات بإنهاء التوازنات السابقة لئلا تشكّل خطراً على مشروع التوريث.
المدن