كارلوس فوينتيس: أعظم درس في الأدب موجود عند شهرزاد
ترجمة حسونة المصباحي
في جل رواياته التي حظيت بشهرة عالمية واسعة، وترجمت إلى العديد من اللغات، يتطرق الكاتب المكسيكي الكبير كارلوس فوينتيس (1928-2012) إلى العديد من المواضيع الهامة المتصلة بالتراجيديا والتاريخ، والجنس، والذاكرة، وهوية المكسيك، والكذب “المرفوض في السياسة وفي الأخلاق، والمقبول في الخلق الفني والأدبي”.
هذا حوار أجرته معه “المجلة الأدبية الفرنسية” في عددها رقم 287، الصادر في أبريل 1991:
في كتابك الأول:” الأيام المقنّعة”،أنت تطرح سؤالا يتردد دائما: ماذا خلف الأقنعة؟
من الصعب عليّ أن أتصوّر عالما طبيعيّا. منذ ولادتي-وهذا ما يقوله كريستوف بطل روايتي- نحن نميل إلى التنكر. ومثلما كتبت في آخر روايتي: هذا النسيان يمثل قناع الذاكرة. حين نتقنّعُ، نحن نعيد اكتشاف، ونستعيد ما ينقصنا على مدى تسعة أشهر من الابتكار الأدبي واللغوي في تلك الغرفة البدائية من الذاكرة، في تلك الغرفة من الأصداء. الطبيعة “الطبيعية” لا وجود لها. وأنا لا أرى غير أقنعة تتخفّى، لكنها تدعو أيضا، وتغوي، وتدعو إلى الحب.، إلى التقبيل، إلى الاكتشاف، وفي النهاية هي تدعونا إلى أن نكون انسانيين. وأحيانا أتصور أن هناك قناعا خلف القناع، وخلف القناع الثاني هناك قناع آخر، والذي هو وجه الموت. لكن عندكم حق، هذا الانجذاب إلى القناع هو الذي يحرضني على القيام ببحوث لغوية، وأخلاقية، وسياسية. الانسان الطبيعي، الكامل، الخالي تماما من الشوائب والعيوب، يمكن أن يقتل فيّ كل رغبة في البحث، والتقصّي، وكل رغبة في المعرفة. هل هذا الانسان موجود؟ هل وجد من قبل؟ لست أدري.
هل تفرق بين القناع والكذب؟ نحن نشعر أنك تتعامل مع العالم مثلما يتعامل معه العالم النفساني: أي من دون أن تكون هناك قضية أخلاقية…
بالضبط…أنا لا أستطيع أن أتصور أدبا من دون كذب. وأعتقد أن دستويفسكي قال بشأن رواية “دون كيخوتي” أنها عمل فيه تمكّن الكذب من انقاذ الحقيقة. من دون هذا العنصر الهام الذي يمثله الكذب عند سارفانتس، لن يكون باستطاعتنا ادراك الحقيقة. والكذب الذي يمكن أن يكون غير محتمل في الحياة الأخلاقية والسياسية، قد يكون مقبولا كعنصر فعّال في الخلق الأدبي. عندئذ يُسمّى خيال.
في المقدمة التي خصصها لروايتك “نشيد العميان”، كتب أوكتافيو باث يقول بإن الأدب ليس إلاّ “قناع الكاتب والعلم”…
أعتقد أن على الكاتب أن يبتعد، وأن يَتَقنّع، وأن يمنح الكلمة للعالم. أنا أحاول أن أمارس أدب انعدام التجربة وليس أدب التجربة. أنا لا أعرف شيئا، وأنطلق بحثا عن المغامرة مثل دون كيخوتي، وتريسترام ساندي أو جاك القدري. أنا أنتمي إلى موروث كتّاب يسعون إلى كتابة رواية عدم المعرفة، ولا ينطلقون من حقيقة “مُوثّقَة”، ومُعدّة على طريقة زولا مثلا. أنا لا أظهر شيئا. العالم الماني الذي هو العالم الأخلاقي لزمننا، والذي قد يكون عالم الحداثة، يزعجني. نحن فقدنا معنى التراجيدي، وعوّضْنا الصراعات التي يقوم عليها، بمعادلة أخلاقية بين الخير والشر. مثل هذا التبسيط يجعل الحياة الإنسانية التي هي تراجيديّة قبل كل شيء، مستحيلة تقريبا. إن سيرورة التراجيديا الاغريقية غير ممكنة التصور من خلال وجهة نظر أخلاقية بحتة، إذ أن انتيغون وكريون هما على حق في النهاية. إن هذا الصراع بين نظم عدة من القيم يفتح شرخا في المجموعة، وفي المدينة، المجسدة “حرفيّا” بفضل عملية تطهير، كان يُتيح إعادة خلق قيم المجتمع. تلك هي من وجهة نظري السيرورة الإنسانية التي تربط بين الأدب وبين الحياة الاجتماعية. مع اختفاء هذا الصراع، أصبح الانسان رقيبا على الآخر قائلا:”أنت سيء… أما أنا فطيب… لذا يحقّ لي أن أدينك…وأن أسحنك”. نخن نعوّض ما هو تراجيدي بالجريمة، ونفرض الرعب… أن أكبر كذبة في القرن العشرين هو جعل الناس يعتقدون أن السعادة والتاريخ يمكنهما أن يتلاحمأ ويتلاقيا. غير أن الوعي التراجيدي يدرك أن التفاوت موجود، لذا لا يمكن ردْمُ الحفرة .ويضع نيتشه هذا التّرَجُحَ في عصر سقراط. وأنا أعتقد أن المسيحية مسؤولة جزئيّا عن هذا الخطأ، خصوصا عندما تدعم الفكرة التي تقول بإن السعادة مُحْتَمَلَة في مستقبل قد يكون قريبا إلى حدّ ما. وعلينا ألاّ ننسى أن هذه الفكرة تَعَلْمَنتْ خلال القرن الثامن عشر. وفي الحقيقة، الرسالة هي التالية: العصر الذهبي متوفر، لكن إذا ما أنتم رفضتم مرافقتنا في اندفاعنا للبحث عن الذهب، فإننا سنلغيكم…
أين تحدّدون زمنيا هذه ّالقطيعة ّ في تطور المجتمع المكسيكي؟
موضوعيا هناك القطيعة مع العالم الهندي في فترة الغزو الاسباني. والحقيقة أن الهنود المهزومون هم الذين انتصروا في النهاية خصوصا في المكسيك، وفي اليرو إذ أنهم-أي الهنود- تمكنوا من المحافظة على وجودهم، ليفرضوا أنفسهم في الليل، وفي السواد، وفي الأقبية والكهوف. وأنا أستعيد هذه الثمات في روايتي” المنطقة الأكثر صفاء” الصادرة عام1958. هذه الثقافة التي تعكس الهزيمة انتهت بأن تفرض نفسها لتصبح ثقافة مُقدّسة. إن عذراء “غوادلوب” لها ملامح هندية. وهي تجسد اللقاء بين الغزو، وبين مناهضة الغزو. ونفس العملية حدثت مع الباروكي الذي ملأ الفراغ الذي كان بين الغزاة، وضحايا الغزو.
من ضمن محاور أعمالكم هو من دون شك ما يمكن أن نسميه بالابتكار اللغوي لنقد اللغة. عندك نوع من الانجذاب إلى ما هو غريب وبشع ومُتَنَافر، وإلى الرعب، إلى ما هو فظيع ومرعب، وإلى تدنيس المقدسات. في روايته”:” كريستوف وبيضته” هناك سيل هادر معاد للعبادات والتقاليد يفيض سعيدا…نحن في قلب بابل. أفكر في خوان غويتوسلو الذي يقول بأنه يتوجب علينا اخصاب اللغة بمفردات من خارجها…
أنا مع غويتوسلو في هذا التوجّه. أحداث “كريستوف وبيضته” تدور في نفس الوقت الذي يستعدّ فيه الناس للاحتفال بمرور خمسة قرون على اكتشاف أمريكا. إن سنة1492، تعتبر مفصليّة في تاريخ الإنسانية، وأيضا بالنسبة للعالم الاسباني. وبموازاة مع اكتشاف أمريكا، علينا أن نذكر بطرد اليهود من اسبانيا، وبانقراض آخر الممالك العربية، وبأن “نيبريّا” أصدر في غرناطة أول كتاب نحو في اللغة الاسبانية، وفيه يؤكد أن اللغة هي “رفيق الإمبراطورية”. عندئذ أصبحت اللغة الاسبانية واثقة من نفسها، ومن كونيّتها، وقادرة على أن تكون ناشرة لأدب عظيم، وأن تكون أيضا لغة ديبلوماسية، ولغة تُفْرَضُ على المهزومين. وتلك اللغة الامبريالية هي التي حاولت أن أعبر عنها في روايتي:”Terra Nostra” لكن اليوم، في “كريستوف وبيضته” نحن إزاء لغة تنفي لغة روايتي المذكورة آنفا. بعد خمسة قرون، لم تعد اللغة الاسبانية اللغة الامبريالية، وإنما لغة مُدَمَّرَة، مَخرّبة، ومضحكة، أي أنها لم تعد لغة القرن الذهبي، وإنما لغة الآخر، لغة الخلاسيين…وأنا أشعر بأنني قريب من خوان غويتوسولو عندما يكتب عن العرب… وفي انسجام كامل مع سلمان رشدي حينما يصف في الصفحات الأولى من روايته” الآيات الشيطانية” الممثلين القادمين من ستوديوهات كالكوتا، ويسقطان من طائرة البوينغ على لندن، ووجهاهما مُخْتفيان خلف قناع إله على شكل فيل. إن مثل هذه اللقاءات مع لغات الآخرين هي بالنسبة لي العنصر المركزي للقرن المقبل: عوْلمة العالم الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. وهذا اللقاء لن يكون حقيقيا وناجعا إلاّ حين نقبل الآخر بيننا، باختلافه عنا، ذلك أن حضوره نفسه سواء كان فوريا أم بعيدا، يصبح مكوّنا لنا. وهذا ما يحدث في لوس أنجلس، وهي مدينة لقاءات بيزنطية بين لغات اسبانية، وصينية، وأرمينية، ويابانية، وكورية. وحامل اللغات في لوس أنجلس هو دائما الآخر.
يقول خوان غويتوسولو بإن الوطن الوحيد للكاتب هو اللغة…
ومثلما لاحظ ذلك خوزيه ايميليو باخيتو قائلا:” الوطن بضعة أنهار، واد أو اثنان أحبهما، أناس، هضبة، سكة حديد، وكاتب”. وطني هو المكسيك بطبيعة الحال. لكني أنتمي إلى وطن أكثر اتساعا من اللغة الاسبانية. وإذن أنا لست كاتبا مكسيكيا، ولا كاتبا من أمريكا اللاتينية، وإنما انا كاتب وكفى…كاتب في اللغة الاسبانية…
عندما حصل اوكتافيو باث على جائزة نوبل للآداب، كثيرون قالوا إن هذه الجائزة منحت تقديرا لأعمال، وأيضا للغة …
الأمر يتعلق باعتراف مضاعف…وللمرة الثانية في ظرف عامين تمنح هذه الجائزة لكاتب باللغة الاسبانية. وعلينا أن نذكّرَ بأن البعض كانوا قد أعلنوا أن اللغة الاسبانية باتت من ضمن اللغات الميتة. الاسبانية هي اللغة الوحيدة التي تمكنت من تحقيق انجازين عظيمين: فهي التي ابتكرت الرواية الحديثة من خلال “دون كيخوتي”، ثم توقفت على مدى قرنين. وكان علينا أن ننتظر “غالدوس” و”كلارين”، ثم روبن داريو من نيغاراكوا لكي يجد كل من كيفيدو، وغونغورا، وايناس دو لاكروز أسلافهم. هذه الجائزة أثبتت أنه يمكن العثور من جديد على المستقبل في الماضي، وأنه يمكن تصور الماضي، وأن تعقد الصلة بقوته الخلاقة لكي ننطلق في التأكيد على لغة لها بطبيعة الحال بعد أدبي، وأيضا بعد روحاني، وسياسي، واجتماعي بما أن هذه اللغة تغزو راهنا الولايات المتحدة. الاسبانية أصبحت لغة عظيمة، لغة تتحرك، يتكلمها في الولايات المتحدة تسعة وعشرون مليون نسمة. هي لغة تجد قوتها في التهجين والتخليط. وعلينا أن نعلم أن لوس أنجلس هي المدينة الثانية في لعالم التي تتكلم الاسبانية بعد بيونس آيرس، وقبل مدريد…
خوزيه ليزيما ليما كان كوبيا، وإذن صينيا، وافريقيا، واسبانيا، لكن كوبي بالخصوص…ونحن نشعر أنك تحتل مكانة خاصة على هامش ثقافات متعددة. مع ميل أكثر للثقافة الأنجلو-ساكسونية…
لقد درست جزءا من المرحلة الابتدائية في الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن أمريكا الجنوبية كان لها تأثير كبير عليّ في فترة التكوين. في الحادية عشرة من عمري، ذهبت إلى الشيلي، وفي الخامسة عشرة من عمري، كنت في بيونس آيرس. وفي السابعة عشرة من عمري، كنت طالبا في مكسيكو. وبسرعة كنت في مواجهة مع العديد من المشاكل المتصلة بالاختلاط اللغوي داخل العالم الاسباني نفسه. ومبكرا أدركت أن اللغات كانت مرايا مُشَوّهة، وأنها تتبادل صورا بدائية إلى حد ما. واللغة التي فرضتها اسبانيا في العالم الجديد كانت لغة الطهارة، جعلت لكي تفرض نوعا من تدرّّج المراتب. أما لغة الخلق الأدبي -لغة سارفانتس وغونغورا وكيفيدو-فتحاول بالعكس أن تعثر على استثناء لما هو ساكن ودوغمائي، ولما يحيل للتدرج الاجتماعي، مُنْفًَتحة على اللغة الشعبية، أو اللغة السوقية، لغة التجديف، ولغة الحلم والكذب. ذلك هو الدرس لكبير للغة الاسبانية. مثل هذه الظاهرة لم تعرفها اللغة الإنجليزية التي عرفت منذ نشأتها نقدها الخاص بها: على خلاف سارفانتس، لم يسبح دانيال دوفو ضد التيار العام السياسي والاجتماعي في عصره. ونحن باستطاعتنا أن نؤكد من دون أن نعرض أنفسنا للخطأ، أن كل الكتاب المهمين باللغة الاسبانية سبحوا دائما ضد التيار العام. وبطل روايتي”كريستوف وبيضته” يذهب إلى نهاية هذا المنطق، وهذا المفهوم، ليكون قريبا من الفراغ، ومن الهاوية، بل أحيانا يذهب طوعيّا إلى أبعد ما يكون. وعندئذ لا يتعلق الأمر بتمرد ما، وإنما بسقوط في العدم.
أنت لا تضيّعُ أبدا معنى السرد… رغم أن “كريستوف وبيضته” عمل حداثي من دون شطك، غير أننا لا نستطيع أن ننعتك في هذا العمل أو ذاك ب”الطليعي”…
لقد اخترت في هذا العمل عن طواعية السجل “الكوميدي” إذ أنه “يتجاوب ” مع المجتمع. إن الكوميدي يفجّرُ تدرج المراتب، ويُبَلّغُ الرسالة أيضا. هو يقول:”نحن لم نعد نفهم شيئا”. الأدب الكلاسيكي العظيم- هوميروس-مُؤسّس على الانسجام: الجميع من العمالقة إلى الأبطال-ربما باستثناء جنيات البحر-يتكلمون نفس اللغة. إن أبرز عنصر من عناصر الحداثة هو اللافهم. التواصل منقطع. دون كيخوتي يتكلم لغة لا يتكلمها سانشو بانشا. والرواية هي المجال المميّز الذي يمكن أن تدور فيه معركة اللافهم. شارل بوفاري لا يفهم ما تقوله إمّا بوفاري. وأنّا كرينينا لا تجد من يفهمها. الروائي يستكشف عالم اللافهم واللادراك. وإذن من المؤكد أنه يمكن أن نبني ، لكن انطلاقا من تجربة تقبل الاختلاف، والغزارة، وليس وحدة مفروضة لا يمكن أن تكون إلاّ خاطئة. وعندما أكتب، ليس لي سوى هدف واحد: قبول المتعدد، والمُتنافر، والبعيد عن المركز…
في “كريستوف وبيضته” هناك حيوية مدهشة. الجنس فرح، ومشعّ، وليس سقيما أبدا…
حقيقة، ولأول مرة في هذا الحوار، ليس باستطاعتي أن أجيب (ينفجر ضاحكا). هذا يأتيني بشكل عفوي تماما. الجنس يجعلني في أقصى درجات الانتشاء والحبور. وأنا أحتفي به في كل أعمالي مثلما أحتفي بالطعام، وبالشمس. إنه مصدر مزاج رائق. وهذا ليس مكسيكيا. أغاني الحب المكسيكية حزينة يشكل لا يصدق. والمكسيكيون يمارسون الجنس وهم يبكون. لكن ليست هذه حالتي. ومن دون أدنى شك أن ذلك يعود إلى أنني لست قادما من وسط المكسيك. أنا من “فيراكروز” على ساحل الباسيفيك. إنه الجنوب. الأمواج التي تولد في إيطاليا، وفي اليونان، وفي اسبانيا، تأتي لتتكسّر على خليج المكسيك. أنا نصف أندلسي، نصف صقلي، وأنا مارسيليا (نسبة الى مارسيليا) من المكسيك.
في كل أعمالك أنت تبدو مفتونا بالنسيان، وبالذاكرة، وبالذكرى…
أنتم على حق. ويمكن أن نسمي ذلك حفرة سوداء. وكنت دائما مهتما بالعلاقة بين الخيال والذاكرة. ونحن نحيل الذاكرة خطأ إلى الماضي، والخيال إلى المستقبل. علينا ألاّ ننسى أنه توجد أيضا ذاكرة للمستقبل، وخيال للماضي. بماض ميّت نحن لا نصنع سوى مستقبلا ميّتا. بفضل جويس وبيكت قرأت فيكو. رواياتي تتضمن رؤى فلسفية. ومثل فيكو، أنا أعتقد أنه يتعبن علينا نحن الذين نعيش في التاريخ أن نبحث دوما عن ما هو جديد في الماضي، وهو عمل جوهري. وعندما قرأت “دون كيخوتي” لأول مرة، كان لديّ شعور بأن “دون كيخوتي” يقرأ للمرة الأولى منذ صدوره. نحن جميعا بيار مينار الذي أراد أن يعيد كتابة “دون كيخوتي” بطريقته الخاصة. الكتاب الميّت لا وجود له. الكتاب يدعونا دائما لاكتشاف الماضي. لذلك فإن دور الأدب حاسم وباتّ لأنه يضعنا في مفترق الطرق حيث يلتقي خيال الماضي بذاكرة المستقبل وبما يتعارض معهما. إن اعظم درس في الأدب موجود عند شهرزاد: إنها حكاية في الماضي تُرْوى في الحاضر، وتُنْقذُ المستقبل. وهناك أشياء لا يمكن أن تقال إلاّ في الرواية. والرواية هي المجال الأفضل للقاء بين اللغة، والزمن، والحضارة، والناس، والشخصيات. وأنا اعتبر أن رواية خوزيه ايميليو باخيكو:” ستموت بعيدا” مثالية من هذه الناحية…
-لقد صدرت هذه الرواية في فرنسا سنة1988، لكنها لم تثر لا اهتمام النقاد ولا القراء…
هذه جريمة… هذه الرواية عمل عظيم.
ليس مسموحا لكاتب من المكسيك أن يكتب عن أوروبا…وأن يتحدث عن النازية، وعن المعسكرات في حين أن أوروبا أمضت الوقت في الحديث عن أمريكا اللاتينية…
هذه القارة ستنقرض. الثقافة المعزولة والمنغلقة على نفسها مهددة بالاندثار والموت، وهذا ما يحدث في أوروبا. وحدها الثقافات التي تتلاقح قادرة على البقاء وعلى التجدد. بهذا المعنى كانت روايتي Terra Nostra تجربة مكسيكية. بطلها مكسيكي يتحدث عن اسبانيا وعن أوروبا. وقد حازت هذه الرواية على اعجاب الكثير من القراء في أوروبا نفسها. والحقيقة أنه لا بد من النضال لكي يقبل الآخرون في النهاية النظر إليك. لقد أمضت أوروبا وقتا في النظر إلى أمريكا اللاتينية، والكتابة عنها، وعن الهند، وعن افريقيا…
أنت قارئ كبير…ورجل ثقافة مرموق…ما هي الكتب التي أثرت في تكوينك؟ وماذا تقرأ اليوم؟
روى لي كاتب أمريكي أنه راغبا ذات يوم في كتابة سيرته، سأل سارتر عن كتب طفولته، وإذا به يصاب بالدهشة لأنه لم يعرف أي واحد من تلك الكتب التي ذكرها سارتر. هناك أدب طفولة يختلف من بلد إلى آخر. وقد أسعفني الحظ بأن أنشأ بين ثقافتين. من ناحية تلك الثقافة التي يهبها لنا كبار الكتاب الذين يقرؤهم كل أطفال العالم على ما أظن أي ستيفنسون، وتوين، ودوماس، وجيل فارن… من ناحية أخرى، ثقافة أسميها ثقافة الموروث اللاتيني المتمثلة في “ساغاري”، وفي “زيفاكو”، وفي بول فيفال… وفي ما بعد اكتشفت أدب أمريكا اللاتينية في الفترة التي أمضيتها في كل من الشيلي والأرجنتين. وذات يوم، وكنت في الخامسة عشرة من عمري، عثرت في مكتبة في بيونس آيرس على كتاب يتضمن قصص بورخيس. وقد جعلني أدرك أنني أحلم بالإسبانية وليس بالإنجليزية، وأنه عليّ أن أكتب بالإسبانية . وعند عودتي إلى المكسيك، غرقت في قراءة الأدب المكسيكي، ثم في “دون كيخوتي” وهو الكتاب الذي أثّر فيّ أكثر من غيره من الكتب. وأنا الآن أحرص على قراءته مرة كل سنة. وفي كل مرة أشعر أنها القراءة الأولى. في التاسعة عشرة من عمري، تلقيت صدمة عنيفة باكتشافي ل”أوليسيس” جيمس جويس، ول “ثلاثية” جون دوس باسوس . ثم جاء بالزاك، وفوكنر الذي كنت أحاول ان اقرأه في لغته الأصلية لكن بصعوبة. وأنا أتذكر الأيام التي أمضيتها مع ألفونسو رياس في “سارنافاكا” والتي كان يلومني خلالها على عدم قراءتي لستاندال …”أنت أحمق وغبي” كان يقول لي. كل هذه القراءات كان لها تأثير كبير عليّ. نحن مثل الحقول: القراءات تزرع فينا أشياء كثيرة. أنا أنتسب إلى أدب كتّاب يعتقدون أن الكتب تتناسل من كتب أخرى، وأن الكتب التي ألّفوها هي أبناء واحفاد كتب أخرى. وأنا أخصص كل يوم أربع ساعات للقراءة… وأنا اعتقد أننا نعيش فترة بلغ فيها الأدب ذروته بفضل كتاب من طينة غونتر غراس، وبريس شتاوين، وايطالو كالفينوـ ومبلان كونديرا، ونادين غورديمير، وجوليان بارناس…
هل تعتقد أن للكاتب دورا في مجتمع اليوم؟
على الكاتب أن ينتسب إلى ما يسمى بالمجتمع المدني. إنه-أي الكاتب-ليس كائنا استثنائيا. في فترة كان فيها هذا المجتمع المدني في أمريكا اللاتينية ضعيفا، كان الكاتب يتحول إلى ناطق باسمه. وهو يحتل في مثل هذه الحال، مكانة الصحافي، والزعيم النقابي. وكان منقذ المجتمع. الآن أصبح الأمر مختلفا. الكاتب لم يعد له دور سوى الحرص على الحفاظ على اللغة وعلى قنوات الاتصال مفتوحة، وأتمنى أن تكون تجربة فارغاس يوسا الذي ترشح للرئاسة في بلاده التجربة الأخيرة. وأنا أعتقد أن خسارته في الانتخابات كانت إيجابية بالنسبة لللبيرو، وللأدب بصفة عامة. أما بالنسبة لنا نحن الكتّاب، فإنه يتوجب علينا أن نواصل التأكيد على أهمية اللغة، والخيال، والكلمات، والتواصل عبر اللغة. المجتمع يتغير، وإذن تتغير أيضا مكانة الكاتب في المجتمع خصوصا في أوقات الأزمات مثل التي نعيشها راهنا…
هل أنت متشائم؟
أرغب في أن أكون متشائما إن كان التشاؤم تفاؤلا يمتلك معلومات دقيقة. أرغب في أن أكون متفائلا. ومؤخرا تحدثت مع رجل سياسة أميركي، وبينما كنت أمَجّد ما فعله غورباتشيف، كان هو لا يكفّ عن القول بأنه-أي غورباتشيف- دمّر بلاده التي كانت قوة عالمية كبرى. وأنا أكدت على أن الرئيس السوفياتي لم يكن سببا في المشاكل التي حدثت في بلاده، وأنه جاء فقط ليطرحها على أرض الواقع. إن واجب رجل السياسة هو الكشف عن المشاكل، ثم البحث عن حلول لها، وليس الهروب منها. شيء جيد أن يتمّ الكشف عن المشاكل، ثم تعريتها بهدف وجود حلول لها. وها أنا أعود على السؤال الأول في هذا الحوار: علينا أن نتخلص من الأقنعة.
حسونة المصباحي
حسونة المصباحي -كاتب وصحافي تونسي. أقام في المانيا من سنة 1986 إلى سنة 2004 وكتب في أ هم صحفها ومجلاتها. له عشر روايات، وأربع مجموعات قصصية . نال العديد من الجوائز الأدبية بينها جائزة محمد زفزاف للرواية العربية. ترجمت البعض من أعماله إلى الانجليزية والألمانية والفرنسية. من أعماله الأخرى: كتاب التيه (أدب رحلة) – يوميات ميونيح – يوميات الحمامات- رحلة في عالم بورقيبة- رسائل إلى أ صدقاء بعيدين. له العديد من الترجمات من بينها: أصوات مراكش لالياس كانيتي – مختارات من الشعر العالمي – رسائل ريلكه إلى صديقة من البندقية – مسارات فلسفية (عن الحداثة وما بعد الحداثة) – نصوص للاشيء لصموئيل بيكت ..
ايلاف