تحقيقات

سوريون ذاقوا الذل في “مخيم الموت”… وعادوا ليذوقوه في ربوع “الدولة السورية”/ نور ملحم

“القدر عاكس أحلامي وأحلام عائلتي، فمرض ابني الوحيد الذي لا يتجاوز الثلاثة أعوام دفعني إلى العودة من جديد بعدما هربت من نار الحرب وأربابها”، يقول خالد العثماني، الأب المفجوع الذي فقد أطفاله الثلاثة في ريف درعا عام 2016، نتيجة قذيفة صاروخية سقطت على منزله، فما كان منه إلا أن استدان المال ونزح إلى مكان منسي وبعيد عن مظاهر الحياة التي اعتدناها.

يقول لرصيف22: “الوضع أصبح لا يطاق أبداً، وابني الذي وُلد في المخيم يحتاج إلى عملية وإلا سيفقد نظره، لذا ما كان مني إلا العودة إلى دمشق بعدما أغلق الأردن أبوابه في وجهنا”، يشرح الرجل الأربعيني، ويضيف: “لا يوجد أطباء ولا مراكز صحية مؤهلة للعمليّات الجراحية، فالذين يعملون في المركز الوحيد، هم من الممرضين فحسب، فضلاً عن النقص في الأدوية والمعدات الطبية، فالمخيم يشبه القرى السورية النائية، التي تضم خياماً وبيوتاً طينيةً وطرقات وعرةً، من دون كهرباء وماء وغذاء”.

مخيم الموت

كثرت المخيمات داخل سوريا وخارجها. منذ بداية الحرب بات التهجير والتشريد أمراً واقعاً، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من التركيبة السورية، ولعلّ “مخيم الركبان” الواقع في منطقة حدودية بين سوريا والأردن، يُعدّ المثال البارز على البؤس الذي يعيشه السوريون. فأكثر من عشرة آلاف مدني يعيشون فيه حالياً ضمن ظروف صعبة، إذ يفتقدون أدنى الحقوق الإنسانية في ظل غياب عالمي ودولي عن متابعة ما يحصل هناك. وقد اكتمل المشهد بعد حصار النظام السوري للمخيم ومنع دخول الاحتياجات الأساسية إليه، كالمواد الغذائية وحليب الأطفال والحفاضات والأدوية والقمح والوقود، لإجبار الأهالي على العودة، بهدف إنهاء ملف المهجرين المدعوم من روسيا، الدولة الحليفة الأولى لسوريا.

ومخيم الركبان، أو الموت كما يطلق عليه سكانه، هو مخيم عشوائي لا تديره جهة بعينها، سواء من الجانب السوري أو الأردني، وهو تحت رعاية التحالف الدولي، وكانت الأردن قد أغلقت حدودها ومنعت السوريين من الدخول إلى أراضيها منذ عام 2015، لتصبح المنطقة تجمعاً سكانياً معزولاً.

ويقطن المخيم حالياً، مهجرون من ريف حمص الشرقي بالإضافة إلى بعض العائلات من الرقة وحلب ودير الزور وغيرها من مدن سورية أخرى.

صحراء قاحلة

مع التمدد الواسع لتنظيم “داعش” بعد العام 2014، وسيطرته على مدن تدمر ومهين والقريتين، قررت خديجة الخطيب وعائلتها الهروب مع بعض الأغراض الضرورية. تقول لرصيف22: “المنطقة التي قصدناها عبارة عن صحراء لا يوجد فيها أي نوع من مقومات الحياة، في البداية تأقلمنا مع الوضع، فكان المسكن عبارةً عن خيمة مقسومة قسمين، وكانت الأمم المتحدة ترسل لنا المساعدات الغذائية، ثم مع الوقت أصبحت هذه المنطقة مخيماً للنازحين، حتى أن الكثير أصبحوا يمارسون الأعمال البسيطة، مثل الحلاقة والخياطة وبيع الخضروات والمعلبات، والبعض قاموا بتربية الدجاج أو الماعز، والبعض الآخر كانوا يبيعون المساعدات التي يحصلون عليها من المنظمات الإنسانية والدولية”.

تروي المرأة الستينية أن “الوضع أصبح سيئاً بشكل كبير في نهاية عام 2019، فزوجي توفي في المخيم نتيجة عدم حصوله على الدواء، كما أن الحصار رفع الأسعار بشكل جنوني. ففي الفترة الأخيرة من إقامتنا في المخيم، صنعت الخبز من الشعير الذي يُستخدم كعلف للحيوانات لتلبية احتياجات عائلتي. نقص المساعدات دفعنا في البداية إلى شراء المواد الغذائية المهربة والتي تباع بـ10 أضعاف سعرها الحقيقي، في وقت لا وجود فيه لدخل ثابت لعائلتي ولا نمتلك المال الوفير، فما كان منا إلا طلب العودة بعد تسوية أوضاعنا مع الدولة السورية”.

كابوس لا ينتهي

بدأت أوضاع القاطنين في المخيم بالتدهور، بعد إعلان الأردن عام 2016، أن حدوده مع سوريا والعراق منطقة عسكرية مغلقة، إثر هجوم على موقع عسكري أردني كان يقدّم خدمات للاجئين، كما أن 90% من المناطق المحيطة بالمخيم تسيطر عليها قوات النظام السوري، والـ10% المتبقية تحت سيطرة داعش، وتالياً فإن الطريق مقطوعة ومنذ ذلك الحين باتت المنطقة مغلقةً والخروج منها مخاطرة.

سمية الخالدي، كانت تقطن مع ابنتيها وزوجها في المخيم، وخرجت قبل عام، بعدما قرر زوجها التوجه إلى الشمال السوري بحكم أنه مطلوب للأمن السوري. تقول لرصيف22: “شعرت بأنني في كابوس لا ينتهي. عشنا في مكان غير مؤهل للسكن، فلا كهرباء ولا ماء ولا غذاء، وكان السؤال الذي يتردد في ذهني دائماً: هل سنموت في هذه الأرض القاحلة بعدما أُخبرنا بعدم قدرتنا على دخول الأردن”.

تضيف: “انتظرنا مدةً طويلةً في ذلك الجحيم، فلا المنظمات استطاعت مساعدتنا ولا الجانب الأردني فعل شيئاً، والذهاب إلى مناطق سيطرة النظام، مثل من يذهب إلى حتفه بحكم وضع زوجي المطلوب، لذا ما كان مني إلا التضحية من أجل بناتي والعودة بعد تسوية وضعي مع الدولة السورية للسكن في مركز للإيواء، فهو يبقى أفضل من الخيمة في الصحراء والفقر والمرض”.

الهروب من الموت

خلال العامين الماضيين، خرج عشرات الآلاف من المخيم هرباً من شبح الموت الذي يسيطر عليهم وتوجه غالبيتهم إلى مناطق سيطرة قوّات النظام السوري حيث فتحت دمشق باب العودة للراغبين، على أن يتم تنظيمهم ونقلهم إلى مراكز الإيواء بشرط أن يوقّع المنشقون أو المقاتلون المعارضون السابقون منهم على اتفاقات تسوية يُفترض أنها تحميهم من الملاحقة الأمنية.

وتشير الإحصائيات التي اطّلعنا عليها، إلى عودة 25،000 شخص طوعاً منذ عام 2019 إلى اليوم، معظمهم يقيمون في مراكز إيواء في محافظة حمص، بالإضافة إلى وجود قسم منهم في مركز في ريف دمشق، وتتم عمليات النقل عبر الهلال الأحمر السوري إذ يتمّ تسجيل أسمائهم طوعاً لطلب المساعدة من أجل مغادرة الركبان بدعم الأمم المتحدة، ويمكن للشخص العائد البقاء في مركز الإيواء لفترة قصيرة ومن ثم الخروج بعد الحصول على الموافقة من السلطات السورية.

ويخشى كثر من سكان المخيم، على غرار العسكري المنشق، من تعرضهم في حال مغادرتهم لملاحقة من السلطات أو إجبارهم على العودة إلى الخدمة العسكرية، ويفضلون إجلاءهم إلى مناطق سيطرة الفصائل المعارضة في شمال سوريا.

بحثاً عن الأمان

تقول الباحثة حول حقوق اللاجئين والمهاجرين، الدكتورة باسمة الشطي، لرصيف22: “منطقة المخيم تزداد سوءاً، وتدهور الوضع يجبر البعض على محاولة مغادرة المنطقة، لذا يخاطرون بأرواحهم في صحراء منعزلة بحثاً عن الأمان والاستقرار”.

وتضيف: “بسبب عدم توفر الرعاية الصحية أو التعليم والشح في الغذاء والمياه النظيفة، بالإضافة إلى انتشار الأوبئة، وفي ظل إغلاق جميع الأبواب أمامهم، هم اليوم لا يستطيعون اتخاذ قرار غير قرار العودة مقابل الاستمرار في الحياة بالرغم من الخوف المسيطر على الشباب من عمليات الاعتقال أو التجنيد الإجباري في صفوف القوات الحكومية”.

وتشير الشطي إلى أن “هناك مشكلةً أخرى ويجب إيجاد حل سريع لها من قبل الحكومة السورية، وهي أن الأطفال المولودين في الركبان ليست لديهم أي وثائق مدنية ولا شهادات ميلاد ولا حتى إشعار بالولادة، فضلاً عن أن عدد الوفيات يرتفع كل يوم في المخيم بسبب تردي الأوضاع الصحية، مما يجعل بعض الأسر تغامر في الخروج من المخيم”.

وتحاصر قوات النظام المخيم لمسافة تُقدَّر بـ55 كيلومتراً، حيث يُمنع دخول الأغذية والأدوية وحطب والوقود، علماً أن 80% من الأهالي تحت خط الفقر وليس لديهم المال للدفع للمهربين لتأمين الماء أو الغذاء.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى