أزمة دين الدولة: هل تحتاج الثقافة الإسلامية إلى غطاء دستوري؟ / محمد سامي الكيال
صرّح الصادق بلعيد منسّق الهيئة الوطنية الاستشارية لإعداد الدستور التونسي الجديد، بأن «مسودة الدستور لن تتضمن ذكراً للإسلام بوصفه دين الدولة». وبذلك يفتتح فقيه القانون التونسي فصلاً جديداً من الصراع حول مفهوم «دين الدولة» الذي طبع تاريخ الدول العربية الحديثة منذ نشأتها.
تبدو سياسات الرئيس التونسي قيس سعيّد وفريقه شعبوية، بالمعنى الكلاسيكي للمفهوم في النظرية السياسية، الذي لا يحمل دلالة سلبية بالضرورة: يتم تجاوز الأطر القانونية والمؤسساتية للعمل السياسي، وتعطيل كثير من الإجراءات المعمول بها، لحساب الحديث عن «إرادة الشعب» التي لم يعد بالإمكان قياسها عبر أي آلية منضبطة. إلا أن هذه «الإرادة» ليست مجرد وهم خطابي، بل نتيجة القدرة على حشد ائتلاف واسع من البشر، وتحقيق نوع من الهيمنة الأيديولوجية عليه. باستطاعة السياسي الشعبوي الناجح أن يحدث تغييراً سريعاً وفعالاً، بعد نيله التفويض الأولي من «شعبه» بسبب مرونته في تجاوز البطء والثقل، الذي يطبع العمل ضمن المؤسسات القائمة عادةً. وهكذا يمكن للصادق بلعيد، الذي يستمد شرعيته من تكليف الرئيس سعيّد، أن يكتفي بالقول: «ثمانون في المئة من التونسيين ضد التطرف وتوظيف الدين من أجل أهداف سياسية، ولذلك سنقوم بكل بساطة بتعديل الصيغة الحالية للفصل الأول من الدستور» أي الإشارة لدين الدولة.. لا داعي لكثير من الإجراءات المعقدة، فـ»نحن» أي الثمانون في المئة من الشعب التونسي (لا معنى هنا للتدقيق بالرقم) في مواجهة شاملة مع «هم» أي المتطرفين، تلك هي الشعبوية.
إلا أن هذا الأسلوب الشعبوي، على نجاعته، يفتقر إلى الاستقرار والترسّخ. يمكن ببساطة لسياسي شعبوي آخر، ذي ميول إسلامية، ونال تفويضاً شعبياً معاكساً، أن يدّعي أن الشعب التونسي مسلم راسخ الإسلام، وأكثر من تسعين في المئة منه يريد الاطمئنان على أن دين دولته سيبقى الإسلام. يُظهر هذا بوضوح مدى تعلّق مفهوم «دين الدولة» بالصراع السياسي، المتلازم مع مفاهيم مثل «الشعب»؛ المدونات القانونية والدستورية؛ المصلحة العامة؛ تعالي الدولة واحتكارها للعنف والمعنى العام لـ»الحق» وهي كلها مفاهيم حداثية وعلمانية جداً، لا علاقة لها بالدين الإسلامي أو غيره من الأديان. ما يجعل «دين الدولة» في مفارقة طريفة، قضية من قضايا الفضاء السياسي الحداثي المعلمن. إلا أن كل هذا يطرح عدة تساؤلات حول تأثير هذا النمط من الصراع السياسي على الثقافة الإسلامية نفسها، وفهم البشر لمعنى «الدين»: من سيميّز دين «الشعب» الرافض للتعصّب، عن دين المتطرفين، أعداء الشعب؟ وما معنى أن يعيش مجتمع دون توجيه من دولة، تُشهر دينها بوضوح؟
باسم الشعب
لعل مفهوم «السيادة الشعبية» أحد أهم مبادئ العلمنة، وهو يظهر بوضوح حتى في كثير من الأيديولوجيات الإسلاموية: الإسلام يجب أن يسود ويكون هوية الدولة، ليس بالاستناد إلى الوحي الإلهي وحسب، الذي لم يعد المبدأ النظام للحكم وشرعيته، بل أيضاً لأنه «روح الشعب» صاحب السيادة، والابتعاد عن أحكامه يشكل خروجاً عن الإرادة الشعبية، الذي يشكّل الإسلام أهم عناصرها.
هكذا بالضبط تمت علمنة الإسلام ليصبح مبدأ سياسياً تأسيسياً، سواء بالنسبة لحركات التحرر الوطني في العالم الإسلامي، أو لورثتها من تنظيمات الإسلام السياسي، التي زاودت بشدة على دول ما بعد الاستقلال، دون أن تخرج عن أسطورتها المؤسسة: الإسلام هو العنصر الأساسي لبناء الجماعة السياسية، المجسّدة للأمة، التي تطالب نخبها بحقها بالخروج من هيمنة المستعمر، نظراً لخصوصيتها الثقافية، وحقها باستغلال مواردها باستقلال كامل. بهذا المعنى فإن تعميم فكرة الدولة الحديثة من قبل الاستعمار، وتحديثه الشامل للعالم، هما من العوامل المؤسسة للإسلام السياسي نفسه.
يتطلّب «الإسلام» بوصفه مؤسساً لجماعة سياسية مستقلة، دولةً لها هندستها الاجتماعية وسياساتها الحيوية، تحدد ما الدين بطقوسه وعقائده «الصحيحة» وتحارب الممارسات والبدع «المتخلّفة» التي لا تمثّل «الإسلام الحقيقي». هكذا لعبت القوانين، المحاكم، وزارات الأوقاف، وسائل الإعلام، الأنظمة التعليمية، التي حددتها دول الاستقلال، بسلطاتها ومعارضاتها، دوراً أساسياً في فهمنا لمعنى الإسلام، وهو معنى يمكن وصفه بالاختزالي، فالثقافة الإسلامية عبر التاريخ، كما تجلّت بممارسات مختلف الفئات والجماعات، كانت أكثر غنى بكثير من المعنى المنضبط و»الصحيح» للإسلام المنتشر بوسائط شديدة الحداثة: الطباعة؛ البث الإذاعي والتلفزيوني؛ الألواح التعليمية (السبورات) التي يكتب عليها المعلمون والمشايخ دروسهم لتلاميذهم.
صنعت الدولة الحديثة إذن، وحركاتها القومية التأسيسية، في حقبة ما بعد الاستقلال، «الإسلام» الذي نعرفه، كما صنعت «الشعب» نفسه. وعندما تدور المعارك حول «الإسلام» ووضعه ضمن القوانين والدساتير والحيز العام، فهي معركة دنيوية للغاية، لإعادة تأسيس الدولة وجماعتها السياسية، التي انتزعت «الحق الإلهي» من الحيز اللاهوتي، وأعطته للبشر، الذين لا يمكن أن يصبحوا فاعلاً سياسياً، إلا إذا تحولوا إلى «شعب» عبر هيمنة أيديولوجية. لذلك فإن قضايا الهوية والدين والثقافة تبقى القضايا المفضلة لأي حركة شعبوية، تريد بناء «ِشعبها» الخاص، لصياغة الدولة على هواها.
محاربة التطرف، وفق هذا المنظور، تستلزم تأسيساً جديداً للإسلام «الصحيح» وشعبه، وهي عملية شديدة السلطوية. يمكن في هذا السياق إيراد مثال طريف: بعض مشايخ الأزهر في مصر اعتبروا الداعشية والإلحاد الجديد وجهين لعملة واحدة، وشكلين متماثلين من أشكال التطرّف، لأنهما بكل بساطة خروج عن «ثقافة الشعب» القويمة، التي يلعب الأزهر، بوصفه مؤسسة حكومية متأصلة، دوراً أساسياً في تحديدها. والخروج عنها تهديد لسلطة الدولة واستقرارها.
قد تكون مشكلة هذا المنظور الأساسية أنه يعتمد على مفهوم «روح الشعب» القومي، بدلاً من مفهوم «المصلحة العامة» الجمهوري. فوفقاً للمنظور الجمهوري- الديمقراطي تقوم الجماعة السياسية على أساس التعدد، وتضارب المصالح بين فئات وطبقات اجتماعية مختلفة، وهو ما يتم حلّه عادة بجعل تأمين الحقوق والحريات الأساسية للمجموعات المتعددة أحد المهام الأساسية لـ»دولة القانون» المحايدة عقائدياً. فيما تسعى النزعة القومية لطمس التمايز والتعدد لمصلحة أيديولوجيا مهيمنة أحادية، تحدد «روح الشعب» وبالتالي دين الدولة، التي تسوّي كل اختلاف، باعتبارها الأمين على «الروح» البازغة للأمة عبر تاريخها. ولهذا فربما يكون من الأجدى تتبع جذور الإسلام السياسي، وكثير من أعدائه الشعبويين، في الحركات القومية الرومانسية، التي ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر، وليس في المراجع الإسلامية التراثية.
تعددية الإسلام
لكن ماذا سيحدث إن رفعت الدولة وصايتها عن «روح الشعب» ودينه؟ هل سيضمحل الإسلام ضمن نمط من العلمنة الشاملة؟
قد يكون «الإسلام» بوصفه ثقافةً وتراثاً وقيماً، أكبر المتضررين من نمط العلمنة المحدثة، الذي يتقاسمه الإسلاميون وخصومهم الشعبويين. فهو أكثر تعددية من أن يتم تقزيمه بمجموعة من الصيغ الأيديولوجية والقوانين، التي تبقى وضعية، حتى لو صاغها فقهاء متمكّنون، ما دامت مثبّتة في مدوّنة قانونية جامدة، تشرف أجهزة الدولة على تطبيقها. عرف الإسلام، في عصوره الماضية، أشكالاً متنوعة من الممارسة والترميز الثقافي، اختلفت باختلاف الجماعات والطبقات التي انتسبت إليه. هكذا عرفنا تراث التصوّف الشعبي، الذي اعتبره مثقفو التحرر الوطني مجرد «دروشة» متخلّفة؛ دين العلماء والفقهاء الملتزمين؛ السير الشعبية والموالد، التي روت سيرة الأنبياء والأولياء والعباد الصالحين؛ ممارسات الطبقات العليا، المنفتحة على التأثيرات الثقافية الوافدة من مختلف أرجاء العالم؛ بقايا الأديان غير التوحيدية، الممتزجة مع الإسلام في خليط غني ثقافياً، حافظت عليه إثنيات وطوائف شديدة التنوّع؛ إلخ. «الإسلام الصحيح» الحداثي، المعلمن، الدولتي، ضيّع كل هذا الغنى.
ضد التطرّف
بالعودة لجهود الصادق بلعيد وغيره من التكنوقراطيين والسياسيين المشغولين بمحاربة التطرف، فربما كان الأجدى أن يفكروا بالعلمانية بوصفها معادلة قانونية – سياسية، وليس مبدأً شعبوياً قومياً، مرتبطاً بما يريده «ثمانون في المئة من الشعب»: الدولة لا دين لها لأنها ببساطة مجموعة من الأجهزة المادية، التي لا تملك ضميراً شخصياً. ومهمتها أن تؤمن لأصحاب الضمير من مواطنيها كامل حرياتهم وحقوقهم، وتنظّم مداولاتهم ونزاعاتهم السياسية، كي لا تتحول إلى حرب إلغاء، لن يخرج منها أحدٌ منتصراً.
يستغلّ المتطرفون الإسلاميون بالتأكيد الفقرات الدستورية المحددة لدين الدولة، وبالتالي فإن إلغاءها ضرورة، لكنه ليس كافياً لوحده، يجب على الدولة أن تكفّ عن تحديد ما هو «شعبي» أو متفق مع ثقافة وروح الشعب، والأفضل أن تُعرّف الجماعة السياسية، التي تقوم عليها، بوصفها تجمعاً لجهات ذات مصالح متعددة، بل ثقافات وقيما غير متماثلة، ينبغي تنظيم تجاورها وتفاعلها، وفي الوقت نفسه عدم اختزال أفرادها بأحكام ورموز هوياتية معينة، باسم «التعددية الثقافية».
«الإسلام» في نهاية المطاف عامل ثقافي وقيمي شديد الحضور، لا يحتاج دولاً كي تحميه، والأفضل أن يتاح له المجال لكي يزدهر في سياق من الحرية والتنوّع، بعيداً عن وصاية الأيديولوجيات الأصولية/القومية المعلمنة.
كاتب سوري
القدس العربي