أنا لاجئ سوري وحق العودة لم يستهوِني/ محمد الأسمر
لطالما أُرفقت تبريكات العيد والأفراح التي نعيشها في أماكن نزوحنا، بأمنيات تطرّزها عبارات تفيد بتمنّي العودة إلى الديار، “إن شاء الله العيد القادم بديارنا”. لم يقتصر الأمر على الأفراح فحسب، فللمآسي نصيب من تلك الأمنيات، “يا ريت قدرنا ندفن الميت بضيعته”. أما رحلات النازحين المستمرة من بيت إلى آخر، فكانت تلاقي عبارة “إن شالله آخر بيت بالنزوح، إن شالله من هالبيت لبيتك بالضيعة”، وغيرها من الأمنيات التي لم تحرك فيّ أي شعور بشوق العودة إلى الديار.
لم أجرؤ على التصريح بذلك سابقاً، ليقيني بأني سأواجه موجةً عارمةً من الانتقاد والسخرية: “عاجبك النزوح والشنططة؟”، و”الواحد شو إلو غير بيته؟”.
لا أنكر أن بعضاً من ذكرياتي ينهض بين الفينة والأخرى، ليخلق شوقاً دفيناً إلى العودة، لكنه لا يلبث أن يتلاشى فوراً عند مطالعتي لصورة صديقي الشهيد الذي لن ألتقي به بعد اليوم عند زاوية بيتي، كما كان يحدث سابقاً، ليراودني السؤال: “ليش بدي أرجع وشو ضل عندي هناك؟”. ثم أستذكر جملةً للشاعر محمود درويش: “إذا أعادوا إليك المقاهي القديمة، فمن يعيد لك الرفاق؟”.
قد يكون لتعلّقي بالشعر العربي والتعمّق في موضوعات الوقوف على الأطلال، دوراً في تكوين الأفكار التي تنتابني اليوم، إذ لم يكن يوماً شوقنا إلى الديار وحجارتها، بقدر الشوق إلى ساكنيها، وكأنني أتقمص حال قيس بن الملوّح، حين أنشد: “وما حب الديار شغفن قلبي… ولكن حب من سكن الديار”. لكن أين هم هؤلاء اليوم؟
أعود إلى ذاكرتي بحثاً عن أصدقائي القدامى ورفاق الدرب في حارتي، فتتداخل قصصهم في ما بينها. فمن هو معتقل اختفت أخباره منذ عشر سنوات، وبقي أمل بسيط نتمسك به ونمنّي أنفسنا بأنه ما زال حياً، إلى شهيد واثنين وثلاثة قُتلوا قبل أن يتمكنوا من العودة إلى البلدة التي حلموا بالعودة إليها، إلى مُهجّر في دول أوروبا طوى ملف عودته، أو عودة أولاده، إلى البلاد، فالعاقل الذي ينجو من الجحيم، لا يعود إليه.
ماذا يحدث حين يزول نظام الأسد، وأعود إلى بلدتي؟ قد أجد بعض أصحابي الذين تمسكوا بها، أو أُجبروا على البقاء، لكنهم لن يكونوا أبداً كما تركتهم. لم يعد لديهم الوقت الكافي للاتصال بي مراراً للهرب من الدراسة والاستمتاع بسهرة شتوية في منزل أحدهم كما في السابق. لن يكون لديهم المال الكافي لنخرج في رحلة بحر صيفية تسرقنا من أعمال اليوم. أحدهم انشغل بطفله المريض وعائلة شقيقه المعتقل، والآخر تراكمت عليه أعباء الحياة وصار مجبراً على العمل ست عشرة ساعة ليتمكن من تأمين أدنى مستلزمات حياته، وثالث اتخذ خطاً سياسياً مغايراً لخطنا ويعدّنا اليوم من أعداء البلد الذين تآمروا على تخريبه ولا يريد الجلوس معنا.
الذكريات التي أجمعها عن قريتي جمدت المشهدية في مخيلتي، ولا أستطيع أن أتخيل قريتي إلا بالشكل الذي تركتها عليه، إلا أن ذلك ضرب من ضروب الخيال، فقد تغيّر المشهد كاملاً، ومن كانوا صبياناً قبل عشرة أعوام باتوا اليوم رجالاً يمكنهم التحكم بمصير المكان، والأطفال باتوا فتيةً من دون أن أعرفهم أو يعرفوني بالرغم من قرب مساكننا من بعضها.
حين أعود إلى قريتي، سأكون غريباً عنها، وستكون غريبةً عني، فالوجوه التي أعرفها تغيرت، والروابي التي عشت طفولتي فيها تحولت إلى كتل إسمنتية، والمشاعر التي كنت أكنّها لمن حولي قبل 2011، لم تعد ذاتها اليوم.
قبل أيام اعترضني موقف عزز قناعتي. وصلني طلب صداقة على فيسبوك، كعشرات الطلبات التي تصلنا. فتحت صفحة مرسل الطلب وتأمّلت في اسمه وصورته، وأتبعت تأملاتي بعبارة “ما شاء الله صاير شب”. انتابتني مشاعر جميلة بأن الطفل الذي رأيته آخر مرة وهو ابن ست سنوات، يتذكرني اليوم بعد اثني عشر عاماً. قفزت إلى المسنجر للترحيب به، فكان رده باهتاً وكلمات “أخي” التي يردفها في رسائله توحي بأنه لم يعرفني، ولم يتذكرني أبداً.
أيقنت حينها أنه أرسل طلب الصداقة مصادفةً. سألته: أعرفتني؟ فأجاب: لا. صمتّ وأنا أتأمل كلماته. كيف لا يذكرني ومنزلي لا يبعد عن منزل أهله خمسة أمتار؟ كيف وكيف وكيف؟ حاولت أن أذكّره بنفسي، فأرسلت سلامي إلى والده ومضيت غارقاً في غربتي: “يبدو أننا بتنا على الهامش”.
لا يرغب المرء في أن يكون غريباً في بيته. ذلك الشعور القاسي يدفعك للإقامة في أي مكان تجهله وتجهل سكانه ولا تفكر أبداً في العودة. أختلف في التفكير مع والديّ اللذين تجاوزا الثمانين عاماً. ما زالت مشاعرهم جياشةً إلى المكان الذي عاشوا فيه وما زالوا يتمنون صبح مساء أن يعودوا إليه. الغربة أكلت من تجاعيد وجهيهما وغرست قسوتها في عظامهما، فحدبت ظهرهما. لا أستطيع أن ألومهما أبداً، وقد تلازمني مشاعر مشابهة لاحقاً، فمن في عمرهما يريد الاستراحة من ضجيج الحياة في غرفته وعلى سريره الذي لازمه لعقود طويلة. يريد أن يجد الأشياء في مكانها الذي وضعها فيه خلال سنوات، عند حاجته إليها. في مدن النزوح لا يمكنك أبداً ترتيب حياتك على النحو الذي اعتدت عليه، ربما هذا ما يؤرقهما أكثر.
يخالفني رأيي آلاف المهجرين في إدلب، وأتقبل اختلافهم، فظروف عملي وحياتي التي أعيشها هنا لم تجبرني حتى الآن على التفكير في الماضي ومحاولة استحضاره، بينما يعيش كثيرون آلاماً مضاعفةً بين مشقّة العثور على منزل أو تأمين ثمن ربطة الخبز اليومية. تلك المعاناة تدفعهم للتفكير في أملاكهم التي تركوها خلفهم. يتمنون العودة يوماً للخلاص من شبح الفقر وقلة فرص العمل التي تحيط بهم.
يتفق كثيرون مع ما أشعر به، وإن لم يجرؤوا على الإفصاح عنه. لكن ردات الفعل تخبر عن أمانيهم، فقد أطلقت تركيا قبل فترة مشروعاً يهدف إلى إعادة مليون لاجئ إلى إدلب، ولم يلقَ ذلك الطرح ترحيب أي سوري من المقيمين في تركيا، وهو أمر منطقي، فلا أحد يرغب في الإقامة في بلد يحتاج إلى سنوات طويلة من العمل المستمر للتعافي من تبعات الحرب، هذا إن تعافى. نحن نريد الحياة. أنا سوري وأريد الحياة.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22
رصيف 22