أبحاث

أنظمة الهزيمة والشعوب الثائرة/ عمار ديوب

لم تنته آثار الثورات العربية بعد؛ لقد تحالفت ضدّها أنظمةٌ داعمةٌ للقوى العميقة في البلدان التي حدثت بها؛ فهل كانت الثورات ردّاً متأخراً على هزيمة الأنظمة في 1967. في ذكرى هزيمة حزيران هذه الأيام، وبدلاً من تحديد المسؤولية بالسلطات التي انهزمت، وقمعت الشعوب منذ حينها، ولا سيما التي كانت تتبنّى الأيديولوجية القومية، يجري تعميم تلك المسؤولية على الشعوب. ذاك التعميم، طُرح من قبل، أن الهزيمة أعمق من مسؤولية السلطات عنها، وهي غائرة في تاريخ الشعوب، وفي نفسيتها. وبالطبع، ليس صحيحاً هذا القول من قبل والآن.

من هُزم في المعركة هو الأنظمة الحاكمة، أما الشعوب العربية فقد أثبتت، بثورات أواخر 2010، أنها قادرةٌ على القيام بثورات شعبية ضخمة، وليست ثوراتٍ من فوق، أو ثورات جنرالات مدعومة، أو قوى تُبطِن غير ما تُظهر، كما “يثرثر” بعضهم عن حزب البعث، فيَظهر سنيّاً، في العراق وعلويّاً في سورية، بينما كان لذلك الحزب “الحديث” ولسواه أسباب كثيرة للظهور، منها الإخفاق الكامل للنخبة الحاكمة منذ زمن الاستقلال، ولم يكن في الدولتين طائفيّاً. أمّا التطوّرات التي عصفت بالبلدين، مثل توظيف ممارسات طائفية معينة من أنظمة “البعث”، وتأبيد النظام الشمولي والعائلي. فلها قراءة مختلفة

لم تتحمّل السلطات مسؤولية هزيمة 1967، وكانت كارثية، وأسّست لأنظمة الشمولية والعائلية والنهب والتبعية من جديد. أثارها باقية. في العقود الأخيرة، صدرت دراسات كثيرة تؤكّد أن القضية كانت متعلقة بطبيعة السلطات الحاكمة، ورفض التحالف في ما بينها، وخوف بعضها من بعض، ونقص التجهيز العسكري، وتهميش بعض السلطات، كالسورية، مجموعات كثيرة من الضباط الأساسيين والقدماء في الستينيات، بسبب الخلافات بين تلك المجموعات على السلطة، وهناك من يتحدّث عن “عمالة” لبعض تلك السلطات. الأسباب هذه، تعيد إلى العقل مكانه في الدماغ، وأن الهزيمة الكبرى أمام الاحتلالات، سيما إسرائيل، لها عوامل كثيرة، والأساسي فيها هو السلطات الحاكمة، ومن هنا يجب البحث.

سيسأل بعضهم: ومن أين تَظهَرُ السلطات، أليست الشعوب هي من تضعها حاكمة عليها، وإن السلطات على صورة الشعوب، مهزومة مثلها! يثير التعاسة في النفس تفكيرٌ كهذا، فهل يُعقل ألّا يتم التمييز بين مشكلات الشعب وأدوار السلطات والقوى التي تحوزها، وطبيعتها الاستبدادية، والفاسدة والناهبة، وطرق سيطرتها على الوعي العام وتشويهه، ثم كيف لا يدور في خلد من يُحمّل الشعوب مسؤوليات الأنظمة أن أغلبية الشعوب ليست معنية بالسياسة، وأن قطاعات محدودة تتعامل بالسياسة فقط، بينما أغلبيته تهتم بتدبّر شؤون عائلاتها، وتربية الأجيال الجديدة، وتعليمهم، وتأمين الأعمال، وتكثير الثروة، وسواه.

من غير المقبول الاستنتاج الغريب العجيب، أن الشعوب المهزومة في 1967 انتصرت لنفسها في 2011، وثارت ضد أنظمة الهزيمة. طيب، وماذا نقول عن تونس التي لا ناقة لها بالهزيمة تلك، أو ببقية الشعوب العربية التي حدثت فيها ثورات عديدة، والآن لدينا الثورة السودانية التي لم تتوقف منذ ثلاثة أعوام، أو ثورات كل من لبنان والعراق 2019، وعدا ذلك هناك أكثر من أربعة عقود، وتغيّرت فيها مياه كثيرة.

المنطق الفقير أعلاه، يُكمل في استنتاجاته: وكما فشلت “الشعوب” في مواجهة إسرائيل في 48 و67، فشلت في مواجهة الأنظمة، وانهزمت أمام سلطاتها، أو بعض فئات الدولة العميقة ما بعد 2011. وبالتالي، ليس هناك من تغييرٍ في العالم العربي، والقديم يكرّر نفسه، وحصيلة الفكرة العبقرية: فلتستسلم الشعوب للسلطات تلك، إنها محكومة بالهزيمة. أيضاً هنا يقع ذلك التفكير في تعميماتٍ رديئة، فتصبح الثورات الشعبية غير شعبية؛ فهي ثورات مكوناتٍ من أكثرية وأقليات أو إسلامية في البلاد التي ليس فيها أقليات، وفشلت، ويجري القياس على القول المأثور: النهايات توضح البدايات.

لم تفشل كل الثورات هذا أولاً. وعلى الرغم من استلام قوى من الدولة العميقة هنا وهناك، لكنها لم تستطع إحكام سيطرتها على الشعوب، وهذا ما نراه في مصر وتونس، التي عادة ما يقال إن الثورات المضادّة انتصرت فيها. وثانياً، سورية واليمن وليبيا أُدخِلت بحروبٍ أهلية. ثالثاً؛ تحليلنا كل أشكال التحوّلات في هذه الدول، إنّها محض محاولات بقصد تأجيل حكم التاريخ، وإحداث التحوّل الديمقراطي في منطقتنا، وهذا ما تفترضه حاجات الشعوب.

يسير التاريخ إلى صورته المشتهاة، حينما تكون عوامل التطور التاريخي راسخةً وملبيةً لمصالح كل قطاعات الشعب وطبقاته، وتنزاح أسباب الصراعات العميقة؛ فمن ناحية الاقتصاد، يجري تحقيق مصالح أغلبية الطبقات، ويكون النظام السياسي “ديمقراطياً” والتعليم عصرياً وفرص العمل متوفرة. وهناك أشكال أخرى “للتصالح المجتمعي”؛ الصورة السابقة لم تتحقق في مجتمعاتنا أبداً، بعد الاستقلال وبعد الهزيمة وأثناء الاستعمارات. الأنظمة المستبدّة ليست وليدة الشعوب “المستقرّة”، التي كانت طامحة نحو الوحدة والعداء للكيان الصهيوني والتطور النهوضي العام طوال القرن العشرين؛ إنها وليدة مجتمعاتنا المُسيْطَر عليها استعمارياً؛ والمقسّمة وفقاً لإرادة الاستعمارات التي حكمتنا مباشرةً عقودا طويلة، وهي من أدخل بلادنا في التاريخ العالمي. وحينما رحلت، كانت قد أسّست علاقات التبعية. حينما تكون تلك الشروط سائدة، من العبث أن نتجاهلها، أو نخفّض من أثر الاستعمارات على كيفية تشكل مجتمعاتنا وسلطاتنا الحديثة، أو من أثر السلطات التابعة، باعتبارها وكيلة الاستعمارات في إعاقة النهوض العام، أو منع الشعوب من أن تتقدّم، وإعادة إنتاج التبعية.

المسؤول عن هزيمة الستينيات هو الأنظمة الحاكمة وليست الشعوب، والمسؤول عن محاولة تخريب ثورات الشعوب هو كذلك الأنظمة وبالعلاقة مع الدول الخارجية، ولا سيما العظمى، ولا نتكلّم فقط عن إيران وروسيا. كارثية الأوضاع، السوري واليمني والليبي، توضح عمق التدخلات الدولية فيها، ورفض خيار السير في تسوياتٍ سياسيةٍ، ووضع حدود نهائية للحروب، والبدء بالانتقال السياسي. تكمن سياسة التدخلات في إطالة أمد الحروب الأهلية التي تمعن في تخريب البنية الاجتماعية، وتمنع الوحدة من جديد، وتحاصر أية نزعات قومية أو تقدمية.

ما حصل في 2011 زلزال كبير في المنطقة العربية، وليست آثاره بسيطة، وله أسباب عديدة. وبالطبع، لم يكن ردّاً على هزيمة 67، إنّه يتعلق برداءة السياسات الليبرالية، وتطبيقها في إطار الأنظمة المستبدة ودور الأخيرة في الثورة، ولصالح فئات احتكارية محدودة، ومرتبطة بها، وإن الاستمرار بتبنّي فئات الدولة العميقة الجديدة (تونس ومصر وسواهما) السياسات الليبرالية، وكذا الأنظمة التي لم تسقط، هو ما أعاد إنتاج الثورات في أكثر من بلد عربي، وهو ما سيجدّدها لاحقاً.

مجدّداً، لا يمكن لعاقل أن يُحمّل الشعوب مسؤوليات الهزائم والنكبات؛ فالمسؤولية من نصيب السلطات، وهنا نضيف إليها أشكال المعارضات المتخلفة والفاسدة والتابعة، وكل الفاعلين الذين لم يستطيعوا مواجهة تلك التحدّيات التي واجهت الثورات، وهي كبيرة، والدول الخارجية إحداها، ولا يجوز تغييب دورها في إخفاق الثورات.

تستحق الشعوب العربية وتاريخها وثوراتها مناقشات هادئة، وأن تتجاوز “عوالم” النخب في هذا البلد أو ذاك. الثورات تتجدّد كل حين منذ أكثر من عقدٍ، في هذه الدولة أو تلك، وتتحمّل النخب بكل أشكالها مسؤوليات كبيرة عما يحدُث، إيجاباً وسلباً. أمّا المسؤولية الأولى فتقع على العنف العاري الذي تنتهجه الأنظمة في مواجهة الشعوب، بعد الـ 67 وأواخر 2010 وما بعدها، وعلى الخارج.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى