“البلد الذي أوانا لن يكون وطناً…”: المنافي المتعددة بين سوريا ولبنان/ علاء رشيدي
تقول لنا الأعمال الفنية والأدبية أن هناك موضوعات متقاطعة في تجربة المنافي التي عرفتها شعوب من حضارات وثقافات ومناطق جغرافية متعددة.
سمونا اسماً دائماً أجده زائفاً: مهاجرون
ويعني أولئك الذين تركوا بلدهم. لكننا
لم نتركه بمحض إرادتنا
مختارين بلداً آخر. كذلك لم ندخل بلداً
لنبقى فيه، لو أمكن، إلى الأبد
فقط، فررنا، نحن مطرودون. ممنوعون
البلد الذي آوانا، لن يكون وطناً، بل منفى.
(حول تعريف المهاجر، بروتولد بريخت).
تتركز الحبكة الأساسية في الكثير من الأعمال المسرحية أو الأدبية التي تناولت موضوعة المنفى واللجوء، على فكرة لقاء ضضبين لاجئين مهاجرين يتقابلان للتواصل في أحد أماكن المنفى. تلك الفكرة التي تقوم عليها أعمال مثل: “حوارات المنفى” لبروتولد بريخت، مسرحية “المهاجران”، لسلافومير مروجيك، ونوعاً ما فيلم “رسائل من المنفى”، لبرهان علوية، ومسلسل “المرآة” للأخوين ملص. معظم هذه الأعمال تفترض وجود شخصيات تتحاور في ما بينها حول موضوعة اللجوء والمنفى. ومن بينها مسرحية “المهاجران” التي نشرت عام 1974 بعد وفاة مؤلفيها الكاتب المسرحي البولندي سلافومير مروجيك، وقدمها على المسرح السوري المخرج سامر عمران في قبو بناء في منطقة الزقاق في دمشق عام 2008. تنبأ عمران فيها بمجموعة من الموضوعات التي سيعيشها المجتمع السوري بعد عام 2011، ولذلك قررت الفرقة إعادة تصويرها بفيلم من إخراج محمد عبد العزيز عام 2016.
تجري أحداث مسرحية “المهاجران” في ليلة رأس السنة في قبو في بلد اللجوء، حيث يعيش المهاجران (س) و(ص) بعيداً من الوطن. إنهما كل مهاجر أو لاجئ لذلك لا إحالات على بلد المنشأ إلا الحكم الاستبدادي والفقر، ولا إحالة إلى بلد اللجوء إلا الحضارة المختلفة والاحتفالات بأعياد رأس السنة. وبرغم انحدارهما من بلد واحد، إلا أن الفارق الاجتماعي والثقافي بين الشخصيتين هو المولد للحوارات والأحداث المسرحية. فإن كانت الشخصية الأولى تميل لأن تكون المهاجر الاقتصادي، فإن الشخصية الثانية أقرب إلى حال المنفي السياسي. يكتب حبيب كاظم عن مميزات الشخصيتين: “س س مثقف غادر الوطن خشية القمع والاعتقال والموت، فقَدَ حلم العودة إلى الوطن، يمضي أوقاته ممدداً على سريره في هذه الغرفة القذرة والبائسة فيما يطالع المجلات والكتب ويحلم بإنجاز كتاب لا ينجز أبداً، يدور حول مراقبة سلوك الناس أو سلوك نزيل غرفته ص. لا يبذل أي جهد لإنجازه. ومع ذلك يعيب على صاحبه حياته المنهكة بالعمل دون أن يتمتع بالأجر الذي يأتيه من عمله، وينسى واقعه كمثقف لا عمل له ولا نشاط فعلي غير القراءة والنوم والتمتع بالكسل. وص عامل كادح وجاهل في السياسة جاء إلى المهجر بأمل جمع المال ليعود إلى زوجته وأطفاله ليبني داراً ويعيش عيشة مرفهة وسعيدة بعيداً من العمل المرهق في المهجر. هذا الهدف الذي جاء من أجله نبيل من حيث المبدأ بسبب عجزه عن الحصول على عمل وأجر يعيش به مع أفراد عائلته.
رسائل من المنافي اللبنانية والسورية
يختار المخرج برهان علوية في فيلمه التسجيلي “رسائل من زمن المنفى” أيضاً شخصيات متنوعة الفئات الطبقية الثقافية ليسجل شهادتها عن المنفى أو تجربة الهجرة في أواسط الثمانينات من القرن العشرين، شخصيات لبنانية تقابلها كاميرته لتحدثنا عن هذه التجربة في مدن أوروبية منها باريس وبروكسيل. يفتتح الفيلم مع صوت الراوي الذي يتلو عن ضجيج المنفى في بواطن الأفكار: “حاسس براسي ضجيج كبير، عاجز عن إيقافه، غيرت مدن، شوارع، بيوت، بلاد أصحاب، لم يتوقف، عمرو 15 سنة من عمر الحرب. ضجيج الحكي الداخلي أكبر من ضجيج الحرب”. الشخصية الأولى في الفيلم عبد الله، وهو مقاتل منذ 19 عاماً في الحرب اللبنانية، لا يعرف غير السلاح، هرب إلى باريس على أمل حياة جديدة، يظهر في الفيلم متوحداً في أنفاق المترو، يقبل على مشاهدة عروض فناني الشارع، وتثبت الكاميرا عند دمية المهرج الحزين. عبد الله يهيم في الشوارع بغاية إخلاء الشقة التي يقطنها لرفيق السكن، ما زال عبد الله مشغولاً بالحرب، فهو يتخيل أنفاق المترو الباريسية مكاناً ملائماً للحروب.
هي حياة القاع في بلدان المنفى ما يجمع بين شخصيات المسرحية وشخصيات الفيلم، وكذلك الأمر في حوارات المنفيين للكاتب الألماني المنفي من أنظمة يسارية ورأسمالية، بروتولد بريخت، وفي هذا الكتاب يعرض لنا بريخت حكاية لاجئين من ألمانيا النازية، يلتقيان في مطعم بمحطة القطار في هلسنكي. أحدهما طويل، بدين، أبيض اليدين. إنه تسيفل، عالم الفيزياء، أما الثاني فهو نحيف، صغير الحجم وله يدا عامل تعدين. إنه كالا. أما في المسلسل السوري “المرآة” فيوظف الكاتب أحمد عزام التشابه التوأمي بين الممثلين المسرحيين الأخوين ملص، ليؤديا المصير المتشابه الذي آل إليه كل من غياث اللاجئ الفلسطيني منذ 40 عاماً، وزياد اللاجئ السوري منذ ثمان سنوات في أحد بلدان المهجر. يكتشف اللاجئان في غرفة الفندق التي يقطناها مرآة مشتركة تفصل بين الغرفتين وتسمح لهما بالتواصل عبر المرآة بدلاً من الجدار الفاصل. التشابه الجسدي بين الثنائي هو تشابه المصير السياسي والاجتماعي والثقافي والشخصي، لكل من التجربة الفلسطينية والتجربة السورية مع اللجوء والمنفى.
الصراع بين الحنين إلى الذاكرة والاندماج في المستقبل:
هكذا، ننتظر بقلق أقرب ما يمكننا إلى الحدود
مترقبين يوم العودة وكل تغيير طفيف
مراقبين ما وراء الحدود، سائلين بلهفة
كل من يصل، لا ننسى شيئاً ولا نتخلى عن شيء
كذلك لا نغفر شيئاً مما حدث، لا نغفر شيئاً.
(حول تعريف المهاجر، بروتولد بريخت)
جميع الشخصيات اللاجئة والمنفية وعلى اختلاف جنسياتها في الأعمال الفنية المذكورة ترزح تحت صراع بين الذاكرة المحمولة من بلد المنشأ وبين محاولة الاندماج في بلدان اللجوء. تفتتح مسرحية “المهاجران” بينما يروي ص. عن تجواله أثناء النهار في المدينة مروراً بالساحات العامة والمحطة العمومية بطريقة توحي بزهوه بالاندماج في المجتمع من حوله، ويصل به الأمر إلى الكذب باختلاق حكاية إغراء وحب وقع بينه وبين امرأة عابرة تبادلا الإعجاب. إن ذلك هو وهم الاندماج من قبل اللاجئ، وهذا الاختلاق للحقائق الوهمية حول الاندماج يظهر قسوة الوحدة والعزلة التي يعيشها المهاجران. يحاول المهاجران التقرب من جيرانهما لمشاركتهم الاحتفال بعيد رأس السنة، لكنهما غير قادرين على تعلم اللغة التي تسمح لهم بالتواصل، كما أن الحديث عن التقارب مع النساء في المجتمع المستقبل يحضر في أغلب الأعمال الأدبية عن اللجوء، فيقول غياث في مسلسل “المرآة”: “هي البلاد كلها نسوان ونحنا قاعدين هون بالغرف المسكرة”.
تتفاوت شخصيات أدب المنفى في علاقتها مع المجتمعات الجديدة، شخصية (رزق الله) في فيلم “رسائل من زمن المنفى” مثيرة للاهتمام في المفارقة التي تعيشها بين المجتمع القديم والجديد، يكتب عنها الناقد إبراهيم العريس: “رزق الله، تاجر السيارات اللبناني في بلجيكا، قطع الخطوات الأولى، لذلك نجده في مكتب فوق الأرض، هو تخلّص من مشاكله المادية، لكن لديه مشكلة أخرى: منفاه الطوعي الذهبي! لن يكتمل، -أي خروجه من الحرب لن يكتمل- إلا إذا أقنع أحد أخاه الأستاذ الجامعي بترك لبنان. هو يعيش ويعمل في بروكسيل، لكنه لا يزال موجوداً في بيروت، لا يزال موجوداً في الحرب من دون إرادته. بإرادة أخيه: قولوا له أن الحياة هنا أحسن من الحياة في لبنان… أي حياة هي أشرف من الموت، حتى ولو نسي أبناءه اللغة العربية، حتى لو تحققت تلك القطيعة التي يعيشها نسيم”.
انقسام مجتمع اللجوء
انتقل الانقسام السياسي والاجتماعي في سوريا إلى مجتمع اللاجئين في أوروبا، بين موالاة ومعارضة، وبين لجوء سياسي ولجوء اقتصادي، لكل منهم دوافع وأفكار مختلفة. كذلك الأمر مع شخصيتي مسرحية “المهاجران”، تختلف الدوافع لوجود كل منهما في هذا المنفى، (ص) لا يستطيع العودة قبل تأمين المبلغ اللازم لاستمرار عائلته على قيد الحياة، و(س) يمتلك كل مواصفات المنفي سياسياً. إنه فارق الوعي بين المنفي السياسي والمهاجر الاقتصادي في مجتمع المنفى.
“ص: ليش هربت من هونيك؟
س: أنا ما هربت من شي، أنا هربت مشان شي.
ص: ليش؟
س: كان هناك بعض الكلمات التي لم يتوجب عليّ لفظها في الوطن، كان هناك بعض الأغاني التي يفترض ألا تتردد على لساني.
ص: عرفتك أنت سياسي، من هدول يلي بيضلو متلقحين ع التخت، وما بيعملو شي.
س: بمضي وقتي عم فكر فيك
ص: أنا عندي زوجة وولاد.
س: ما عندي زوجة وولاد، بس عندي كلماتي المعشوقة يلي بفكر فيها، ويلي بتبداً بأحرف الحرية”.
كل واحد من المهاجرين في المسرحية يمتلك علاقة مختلفة مع الوطن الأصل والذاكرة، بينما المتألم يرجح إلى النسيان وفقدان العلاقة مع الطفولة والماضي، يظهر المهاجر الاقتصادي حالماً بالعودة لذلك يحتفظ بكل تفاصيل الذاكرة ويروي الحكايات عن ألعاب طفولته.
تنتهي مسرحية “المهاجران” بالصراع بين المستمر بين اللاجئين، وباستمرارية الحلم بالمستقبل الذي يبدو أقرب إلى الوهم، يقول (س) في نهاية المسرحية:
“رح ترجع ع البلد، رح تعمر بيت، بتلاقي ولادنك ناطرينك، والمدارس رح تكون أحسن، رح نكون أحرار”.
تقول لنا الأعمال الفنية والأدبية أن هناك موضوعات متقاطعة في تجربة المنافي التي عرفتها شعوب من حضارات وثقافات ومناطق جغرافية متعددة. فالشخصيات التي تعبر عن اللاجئ والمنفي متماثلة في الأدب الألماني والسينما اللبنانية والمسرح السوري، وكذلك الموضوعات تتقاطع مع تجربة المنفى الفلسطيني. إنها الوجوه المتماثلة للمنافي المتعددة.
درج