بوشكين وماياكوفسكي: جذر أفريقيا وجذوة روسيا/ صبحي حديدي
بين الفضائل القليلة التي تُحسب للرئيس الروسي السابق دميتري مدفيديف أنه، يوم 7/6/2011، أصدر مرسوماً يقضي باعتبار تاريخ السادس من حزيران (يونيو) يوماً للغة الروسية يُحتفى به كلّ عام؛ مستوحياً عيد ميلاد شاعر روسيا الأكبر ألكسندر سيرغييفتش بوشكين (6/6/1799 – 10/2/1837)، ومشدداً على «حفظ وتطوير ودعم اللغة الروسية بوصفها الإرث الوطني لشعوب روسيا». لم يكن اختيار بوشكين عشوائياً بالطبع، فهذا أحد كبار حافظي اللغة الروسية شعراً أوّلاً ونثراً ومسرحاً تالياً، وتأثيره يتجاوز الكبار إلى الصغار أو يوحّد بينهما عند عتبة كبرى مثل حكاية ّرسلان ولودميلا»؛ مثلما ينقل هذه الوحدة إلى فنون الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية عند أمثال غلينكا وتشايكوفسكي وموسورسكي وكورساكوف ورحمانينوف وسترافنسكي.
ويتردد أنّ واحداً من أعمق الجراح النرجسية التي تكبدها الشاعر الكبير الروسي فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1939) جاءت من فلاديمير آخر كان في عصره الثائر والقائد البلشفي الأبرز؛ إذْ سُئل فلاديمير إيليتش لينين، خلال لقاء مع نفر من الشاعرات والشعراء الشباب، عن الشاعر المفضّل لديه، فلم يقع اختياره على ماياكوفسكي الذي كان شاعر الثورة الروسية المكرّس بامتياز، بل قال على الفور: بوشكين. السجلات الرسمية لمذهب الواقعية الاشتراكية، أي تلك التي رعت إنشاءها القيادات الثقافية التابعة للحزب الشيوعي السوفييتي خلال أطوار الهيمنة الستالينية بصفة خاصة، تفادت مراراً اقتباس هذه الواقعة، على غرار ما فعلت بوقائع أخرى عكست آراء لينين في الآداب والفنون، أو أضاءت مواقفه الناقدة من سلوك قيادات الحزب خاصة بعد انتصار الثورة الروسية. وفي ركن مكين من ذلك الحرج حول بوشكين، كانت خطوط تنظير سطحية أو بلهاء أو تحريفية عن سابق قصد، تقول إنّ بوشكين شاعر البورجوازية والقياصرة، بل اتُهم كذلك بأنّ روحانياته المشبوبة دفعته إلى التغنّي بقرآن المسلمين!
وليست هذه السطور المقام المناسب لأية وقفة شاملة، حتى في الحدود الدنيا، عند شخصية بوشكين الشاعر والناثر والمسرحي، الذي أثرى اللغة الروسية في مستويات متنوعة معقدة تخصّ الأجيال كافة كما يصحّ القول؛ وكان مفهوماً تماماً أن يتبوأ مكانة الأب المؤسس للأدب الروسي في مستهل عصوره الحديثة، مثلما بدا طبيعياً أن تعبر تأثيراته الحدود والقارّات واللغات والثقافات. ثمة، في المقابل، جانب تراه هذه السطور بالغ الأهمية وشديد الحيوية، ليس في تثمين منجز بوشكين الإجمالي ومكانته في آداب روسيا وثقافتها، فحسب؛ بل كذلك من جانب آخر خاصّ هو طبائع التثاقف بين الأقوام والشعوب، وثمار اختلاط الأعراق والجغرافيات. فمن المعروف أنّ هذا الروسي الكبير الذي أغنى أصالة بلاده ولغتها وحضارتها وثقافتها، كان في الواقع سليل قوم تعود أصولهم إلى أفريقيا، أو الكاميرون المعاصرة على وجه التحديد. جدّ جدّه، غانيبال اختُطف من مسقط رأسه الأفريقي وسيق عبداً إلى القسطنطينية في سنة 1705، حيث اشتراه دبلوماسي روسي واصطحبه إلى روسيا، وبرزت بقوّة مواهبه ومقدرته الفكرية في بلاط بطرس الأكبر حتى أنّ القيصر منحه لقب بتروفيتش وأسبغ عليه صفة الابن الروحي.
صحيح، كما يساجل بعض الباحثين الروس، أنّ المحتد الأفريقي سهّل على غانيبال، ثمّ حفيده بوشكين أيضاً، اختراق حواجز العنصرية والتعصب القومي الروسي، على نقيض آخرين كانت العراقيل أمامهم أشدّ منعة لأنهم من أصول تركية مسلمة أو يهودية، أو حتى مسيحية كاثوليكية؛ إلا أنّ الأصحّ، في المقابل، هو أنّ أيّاً من أنساق التمركز الروسي حول الذات لم يكن يرتكز على تنظيرات عرقية وعنصرية من الطراز الذي ساد في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة خصوصاً، بغرض مركزي أوّل هو تسويغ النظام العبودي. وفي مسرحية بوشكين «مغربيّ بطرس الأكبر»، 1837، يدور نقاش بالغ الدلالة بين ضابط فرنسي و»عبد» أفريقي يعتزم السفر إلى روسيا، وكيف يحاول الأوّل إقناع الثاني بأنّ فرنسا هي مكان استقراره الطبيعي لأنها ستبعده عن جذوره الأمّ وتعلّمه الحضارة، على نقيض روسيا «نصف الهمجية» حسب الضابط، والتي سوف تذكّره بأسلافه وتعيد تأصيل ارتباطاته بهم!
ليس أقلّ جدارة بالانتباه أنّ المدافعين عن النظام العبودي في أمريكا، وهم استطراداً دعاة التمييز العنصري والتفوّق العرقي الأبيض، تعمدوا التعمية على هذا البُعد الأفريقي في شخصية بوشكين؛ والنقيض، المنتظَر بالطبع، كان الترحيب الذي لقيه الشاعر الروسي في أوساط السود والدوريات المناهضة للعنصرية. ففي سنة 1937 احتفت هذه الأوساط بالذكرى المئوية لرحيل الشاعر، بل ذهب البعض إلى درجة إقامة أنشطة مشتركة تحتفي به وبالكاتب الأسود فردريك دوغلاس أحد كبار المدافعين عن حقوق السود.
وإذا كان المرجح أكثر أن يكون انحياز لينين إلى بوشكين على حساب ماياكوفسكي مبنياً على رسوخ مكانة الأوّل في الثقافة الروسية، وخاصة إثراء اللغة وتطويرها معجمياً ودلالياً ومجازياً؛ فليس أقلّ ترجيحاً أنّ الفتور النسبي في حماسه لشعر الثاني انبثق، أيضاً، من حقائق انتماء ماياكوفسكي إلى حداثة نخبوية لم تكن تزيد الجذوة الروسية اتقاداً كافياً يُشبع طموحات القائد البلشفي إلى شحن الجموع وتعبئتها. ولعلّ الحصيلة الأكثر إنصافاً هي افتراض المكاسب العظمى التي جنتها الثقافة الإنسانية الكونية من اللقاء الفريد بين جذر بوشكين الأفريقي وجذوة ماياكوفسكي الروسية، تماماً كما يليق بكلّ شعر رفيع.
القدس العربي