هذا المقال عن (لا شيء)/ عمار المأمون
الكتابة عن “لا شيء” ليست بالصعوبة التي يُمكن أن نتخيلها، الأديان والأفكار الفلسفية حاولت- وما زالت تحاول- أن تقنعنا أن البداية كانت “لا شيء”، وبعدها ظهرت/تجلت/ خلقت/ فاضت كل الأشياء، فالمادة الفكرية والفلسفية، وحتى الفنيّة، غنية بمحاولات إقناعنا بالتناقض الذي لا تقبله عقولنا بسهولة، أي أن يظهر شيء من لا شيء، أو من عدم. إمعان التفكير في الأمر وبعد مماحكات عقلية طويلة يوصل إلى نتيجة، مرضية للبعض وغامضة للبعض الآخر، مفادها أن غياب الدليل هو دليل على الغياب، وغيرها من الحذلقات اللغوية والبلاغية التي لا مكان لإحصائها هنا، والتي تفيد بأن اللا شيء موجود (تناقض آخر لن نعلق عليه).
صدر مؤخراً للباحث روي سورنسين كتاب لا شيء- تاريخ فلسفي (2022)، ولنعرف أكثر عن سورنسين يكفي أن نتتبع عناوين مؤلفاته السابقة، كـ”مشاكل وهميّة-1993″ و “تاريخ مختصر للمعضلات الفكرية- 2003” أو الاكتفاء بالمفارقة التي نقرأها في سيرته على غلاف الكتاب: “روي سورنسين: مؤلف عدد من الكتب محتمل أن تصدر و أخرى سابقة قد صدرت…”، التلاعب الفكاهي والمفارقات المنطقية يمثلان الصُبغة التي تخفف من وطأة الرحلة التي يأخذنا سورنسين فيها نحو لا شيء.
أول ما يثير الاطمئنان حين البدء بقراءة الكتاب هو احتواؤه لفهرس، أي بصورة ما، يمكن أن نرصد اللاشيء و نرتب تحولاته مفاهيمياً وانتشاره ضمن تاريخ الأفكار، هذا الترتيب يرتبط بقدرة اللا شيء على التحول والانزياح، فعناوين الفصول بالشكل التالي “اللا شيء الكلي” و”اللا شيء النسبي”، يتتبع ضمنها سورنسين تحولات غياب الشيء، فكرة كان أو مادة، إذ يحدثنا بداية عن الفراعنة، الذين يرى أنهم بلا تاريخ فلسفي، هم يمتلكون كتب حكمة فقط، نؤلهها نحن كفلسفة منذ اليونان، فبالنسبة للفراعنة إشكالية اللا شيء أو العدم غير موجودة، ولا تثير قلقهم.
ننتقل بعدها إلى الفلسفات الشرقية وإنكار الوجود (كحالة التاويّة التي يُشك مثلاً بحقيقة وجود مؤسسها لاو تسو) مروراً بالفلسفات الأوروبيّة المعاصرة، حتى نصل إلى اللا شيء العلميّ وعلاقته مع الفيزياء الكميّة، حيث تتحرك بعض الذرات بين الوجود واللا شيء/العدم بشكل دائم.
الملفت حين تتبع تاريخ اللا شيء أنه طاغ على كل القطاعات وحاضر في كل لحظة، وكأننا دوماً على مسافة منه، لا تتجاوز النَفَس بالمعنى الحرفي، فآخر زفرة هواء تغادر أجسادنا تعني دخولنا أو انتقال وعينا إلى اللا شيء، وكأنه حفرة نقف على حافتها، تكفي التفاتة واحدة، أو سهو، أو خطأ في التأويل، حتى نسقط فيها، وهذا ما يثير الاهتمام في الكتاب، فاللا شيء قوة طاغية نافيّة، تسعى الفلسفة الغربيّة منذ أيام اليونان إلى إنكاره أو تجنبه، ولاحقاً أثبتت وجوده دون الغوص فيه، إذ لا يمكن أن نعرف مكوناته، ولا زمنه ولا امتداده، فبدايته ونهايته سرمديّة بالمعنى الفلسفي، وكل ما يوجد، ليس إلا عارضاً واستثناء لابد له أن يتلاشى.
الملفت أن اللا شيء يتحرك دوماً كأثر، كعلامة نشير إليها فقط ونحدد مكانها، لكن هذا الأثر لا علاقة له بالوجود أو الشيء، أي ليسا نظيرين متقابلين، ولا قرينين مختلفين، بل شيء ولا شيء، نتجنب هنا استخدام لفظ “العدم” للتأكيد على قوة أداة النفي، ففي اللغة العربيّة هي تنفي دون أن تثبت بديلاً (هذا تأويل وحذلقة لغويّة من قبلنا)، فـ”لا” الملحقة بشيء، تنفي دون تحديد ما يحل مكان المنفيّ، فإن كان الشيء، اسم لجميع المكونات، عرضاً كانت أو جوهراً (التعريفات-الجرجاني)، اللا شيء يحيل إلى كتلة من عدم أو فراغ لا نعلم مكوناته/ـها، كتلة لا تُكثُّر ولا تُثنّى ولا توحّد، فاللا شيء سرمدي. أما الشيء فمُحدد يُشار إليه بالظاهر أو المخيلة، هذه الحذلقات تتكرر طوال الكتاب، لكن مع أمثلة على تجليات هذا اللا شيء، فمثلاً تفجير تمثالي بوذا في أفغانستان من قبل طالبان، لا معنى له من وجهة نظر بوذيّة، فغواتاما بوذا بالأصل ينكر الوجود، ويمنع التصوير، بالتالي غياب التمثالين هو بالضبط ما يعبر عن البوذيّة، لا أثر “حقيقي” سوى اللاشيء.
كيف نكتُب عن لا شيء؟
الإجابة عن السؤال السابق توقعنا في حيرة، هل نتتبع الحجج والأمثلة التي رصدها الكتاب ونستعرض لمحات العدم، أم نتأول فلسفياً ونتبنى فرضيّة أن اللا شيء هو الأصل، وكل شيء هو عارض قابل للتلاشي؟ لا جواب حاسم، لكن الملفت أن “الأنا” مهددة حين الحديث عن اللا شيء، فأبرز تقنيات إثبات الوجود في الفكر المعاصر “أنا أشك، إذن أنا موجود” تفقد قدرتها على تعيين اليقين، فالأنا مُتغيرة دوماً وفي كل لحظة، مفاهيمياً وفيزيولجياً، حتى فعل الكتابة نفسه ينفي الأنا، تبتلع اللغة وتاريخها ونصوصها الكاتب وكل ما يُكتَب وتصهره في أصلها الغامض، أو الذي تعمد اللغويون تركه ميتافيزيقياً (الجراماتولجيا- دريدا)، وهنا تبرز قدرة سحرية لـ”اللا شيء”، التفكير به ينفي كل ما حوله، وكأنه ذو قدرة على رسم حدّ هشّ لكل ما هو موجود، فأي سلسلة تنتهي بلا شيء مشكوك بصحتها، كـ(الإنسان أصله النطفة والبويضة، الإنسان قبله أيضاً أصله النطفة والبويضة، قبل ذلك لا إنسان، قبله الأرض، قبلها الحوت ميم، قبله الماء، قبلها لا شيء)، هذه الأخيرة تنفي قيمة هذه السلسلة، بصورة أدق “وجودها”، إذن عن أي أنا نتحدث وأي وجود نقصد؟
الإجابة تتركنا أمام سلسلة من التناقضات العقلية التي تحولت إلى ألعاب للأطفال (الشجرة التي تقع في اللا مكان دون أن يسمعها أحد هل وقعت فعلاً؟ هل هي موجودة بالأصل؟)، ما يعني أن لا شيء هو الذي يبقى ويستمر، الجواب الأشد رعباً في ذات الوقت إقناعاً (إن استثنينا الحكاية الدينيّة طبعاً).
في أصل الضحك
يطغى على الكتاب حس الدعابة والنكات المتنوعة، الشأن الذي يبدو مستغرباً بداية حين الحديث عن كتاب فلسفي جدّي، إذ نقرأ مثلاً كيف أن أول حفرة تتكون إثر إلقاح النطفة للبويضة هي الشرج، لا الفم، ويعلق سورنسين قائلاً إننا بالأصل “Assholes”، يمكن تفسير هذه النكات بوصفها محاولة لتجاوز العدميّة أو السينيكيّة، فاللحظة التي نتيقن فيها أن اللا شيء هو اليقين الوحيد، نعود للمشكلة الفلسفية الأصلية حسب ألبير كامو، ألا وهي “الانتحار”، لتظهر الدعابة هنا كعزاء لسيزيف، أو رد فعل على الهاوية النيتشويّة، فإن كانت الأخيرة من منطق صاحب “أفول الأصنام” ستحدق بنا إن أطلنا التحديق بها، فلابد أن نضحك وأن نقهقه عوض أن نرمي أنفسنا فيها نحو اللا شيء، أو اتخاذ قرار إنهاء الوجود، ربما الأمر رد فعل تطوري، فالقردة تضحك خوفاً أو تتقلص عضلات وجهها لتعطي الانطباع بالضحك بالخوف، ربما التطور حوّل هذه التعابير إلى وسيلة لتفادي الانتحار و سطوة اليقين باللا شيء.
رصيف 22