الستار الحديدي هو حاجز خشبي
مقدمة المترجمة
أثناء قراءتي لمقال عن أحد أعمال ماركيز الصحافية؛ ورد عنوان هذا الكتاب فدونته جانباً في الحال وبحثت عنه. تلك السطور القليلة المتاحة كتمهيدٍ عامٍ دَعَمت فكرتي لاحقاً بعدَ قراءتي له، أنّه كتاب استثنائي، كونه يتناول بعيني ماركيز واقع أوروبا الشرقية في ظلّ الحرب الباردة، ابتداءاً من العاصمة الألمانيّة برلين – وهذا ما سنقرأه في هذا الفصل من الكتاب – التي كانت حينئذٍ مسرحاً لتناحرِ معسكرين متمثّلين بأربعِ دولٍ عظمى: الرأسمالي: متمثّلًا بالولايات المتّحدة الأميركيّة وفرنسا وبريطانيا. والاشتراكي: بزعامة الاتحاد السوفيتيّ آنذاك. جاءت رحلة ماركيز تلك قبل إنشاء جدار برلين عام 1961 وبعد وفاة ستالين عام 1953، ولكن الحواجز والحدود بين البرلينَين كانت قائمة بإجراءاتٍ مشدّدة. أرسل ماركيز مشاهدات رحلته في البدء كتقارير صحافية نُشرت بالتتابع في جريدة الإستبيكتاذور ثم كان الإصدار الأول لمجموع المقالات ككتاب في العام 1957 بعنوان 90 يوماً داخل «الستار الحديدي» لتشكّل آنذاك إضاءة على البانوراما السياسية والبشرية والاقتصادية في البلدان التي كوّنت الاتحاد السوفيتي بعد أربعة عقود من انتصار الثورة البلشفية عبر كل من تشيكوسلوفاكيا وبولندا والمجر وصولاً إلى موسكو كما سنقرأ في الفصل الثاني، حيث سيقف ماركيز أمام جثمان أكثر شخصيات القرن العشرين شهرة، ستالين. وستتولى مُترجمة «ترشُّ خمس لغات رشّاً» وتشبه إلى حدّ كبير الشاعر الفرنسيّ جان كوكتو وفق وصفه، مهمة سرد تفاصيلٍ عن الجرائم المروعة والإعدامات والمجازر الجماعية التي ارتكبها نظام ستالين. كانت تلقبه طوال الوقت بـ(Le moustachu) أي المُشَورَبْ، مؤكدة على أنه كان «الشخصيّة الأكثر طموحاً وشراً وتعطشاً للدماء في تاريخ روسيا، ولو أنّه ما زال حياً لاندلعت بالتأكيد حربٌ عالمية ثالثة». ووفقاً لتعبير كاتبنا فإنه لم يسمع من قبل عن «فظائع تُروى بتلك الصراحة وذلك الوضوح». روي المجازر؟ تأسرني الفكرة وتعيدني إلى التجربة السورية، إذ أن الترجمة هي شكل من أشكال الاستيعاب لتجربة الآخر ووضعها في سياقها المستحق كتعبير عن الوعي بها، أو لكي «يستقيم حب العالم كرؤية ثلاثية» كما ذكر ياسين الحاج صالح في مقابلته على موقع دياكريتيك مؤخراً، من هنا أرى أن الترجمة هي عمادٌ من أعمدة ذلك الحب وباب أساسي للتّشارك في ذلك الوعي. بالإضافة إلى أنني أميل إلى التجارب الفردية وكتب الرحلات لغناها بتفاصيل الزمان وحيثياته، وهذا ما برع فيه ماركيز من خلال مشاهداته مع حسّ عالٍ بالمسؤولية التاريخية وموضوعية تامة تجاه جميع الأطراف.
غابرييل غارسيا ماركيز
«الستارُ الحديديّ» هو حاجز خشبي مطلي باللونين الأبيض والأحمر
السّتار الحديدي ليس ستاراً، ولا هو حديدي. إنما كان عبارة عن حاجز خشبي مطلي باللونين الأبيض والأحمر أشبه بلافتات محال الحلاقة. بعد أن أمضيتُ ثلاثة أشهر داخل أراضي الستار أدركتُ بأن توقُّع أن يكون الستار الحديديّ حقاً ستاراً من الحديد هو أمر يفتقر إلى الحسّ السليم، لكن اثني عشر عاماً من الدعايةِ الحثيثةِ لديها من قدرة الإقناع ما يفوق نظريّات النظام الفلسفي بأكمله. كنّا ثلاثة في تلك المغامرة، جاكلين، رسامة فرنسية من أصول هندوصينيّة تعمل لصالح إحدى المجلّات في باريس، وفرانكو، إيطاليٌّ متجوّل يعمل كمراسلٍ مؤقّت لصالح عدّة صحفٍ في ميلانو، يقضي ليلته حيث يفاجئه الظلام. والثالث أنا، وفقًا لما كُتِب في جواز سفري.
بدأ الأمر في أحد مقاهي فرانكفورت بتاريخ 18 حزيران عند الساعة العاشرة صباحاً، كان فرانكو قد اشترى سيارة فرنسية استعداداً للصيف، ولم يكن يدري بعد ما هو فاعل بها. لذلك اقترح علينا الذهاب لرؤيةِ ما يوجد خلف الستار الحديدي. أما التوقيت فكان صباحاً ربيعياً متأخراً، مناسباً للسفر بامتياز.
تجاهَلَت الشرطة الفرانكفورتية جميع الإجراءات المتعلقة بتنظيمِ مرورِ الحافلات باتجاه ألمانيا الشرقيّة، حينئذ لم توجد علاقات دبلوماسيّة ولا اقتصادية بين البلدين ويومياً عند المساء ينطلق قطار باتجاه برلين، لا يتطلب الصعود على متنهِ سوى جواز سفرٍ ساري المفعول، عبر نفقٍ بدوامٍ مسائي يبدأ من فرانكفورت وينتهي في برلين الغربية، وهي جزيرة صغيرة محاطة بالشرق من جميع الجهات.
بينما كانَ الألمان أكثر وضوحاً ومباشرةً إذ حذرونا من أنّه، في حالِ تمكّنا من العبور، ستُصادر كاميراتنا الفوتوغرافية والساعات وجميع الأغراض الشخصيّة الثمينة، كما نبهونا إلى ضرورةِ أخذ كميّةٍ إضافيّة من الطعام والوقود كي لا نجد أنفسنا مضطرين إلى التوقف خلال مسيرنا لمسافة 600 كيلومتر وهي المسافة الممتدة بين المنطقة الحدوديّة وبرلين. إلّا أننا وفي جميع الأحوال سنكون معرضين لخطر إطلاق النار من قِبَل الروس. لم يتبقَ أمامنا ملاذٌ سوى الحظ. هكذا أمام تهديد قضاء ليلة أخرى في فرانكفورت ومشاهدة فيلم ألماني باللغة الألمانية أطلق فرانكو رهان الرحلة بين النقش والرسم لتستقر القطعة النقدية على النقش.
«حسنٌ إذاً، سنتظاهر بالحماقة عندما نصل إلى المعبرِ الحدودي!» قال.
عبر شبكةٍ من الطرقِ البرية السريعة التي بناها هتلر من أجل نقل ماكينات حربه العملاقة تم تنظيم الألمانيتين الشرقية والغربية. كانت هذه الطرق سلاحاً بِحدين، فقد سهلت غزو قوات التحالف من جهة، ولكنها من جهة أخرى شكلت إرثاً عظيماً ساهم في تحقيقِ السلام لاحقاً.
يمكن لسيّارة كالتي نستقلّها السفر بمعدل 80 كيلومتر في الساعة، لكننا قدنا بسرعة 100 كيلومتر في الساعة كي نصل إلى الستار الحديدي قبل حلول الظلام.
عند الساعة الثامنة عبرنا آخر قريةٍ من قرى العالم الغربي، والتي قدَّمَ لنا سكانها، الأطفال منهم على وجه الخصوص، تحياتهم الوديّة والمرتبكة في آنٍ معاً. منهم من لم يسبق له أن رأى سيارة فرنسية في حياته. بعد عشر دقائق ظهر ضابط ألماني، تطابق هيئتهُ أولئك النازيين الذين يظهرون في الأفلام، ليس بسبب الذقن المربّعة والزي العسكري المليء بالأوسمة وحسب، وإنما لطريقة نطقه للإنكليزية كذلك. تفحص جوازات سفرنا بطريقة غاية في الرسمية وأعقبها بتحيةٍ عسكرية ثم سمح لنا بالعبور إلى أرضِ اللا-أحد، أرض جرداء امتدت على طول 800 متر، كانت تلك هي المساحة الفاصلة بين العالمين. لا وجود فيها لمعسكرات تعذيب ولا للكيلومترات الشهيرة من الأسلاك الشائكة المُكَهربة، لا شيء من ذلك، إنّما كانت أرضاً غير مزروعة لوَّحَتها شمس الظهيرة ومزّقتها آثار أقدام الأحذية العسكرية والمعدّات الحربية وكأننا في اليوم التالي على انتهاء الحرب.
ذلك كان «الستار الحديديّ».
كان الحراس يتناولون طعامهم عند الحدود، أشار لنا أحدهم أن نتوقف إلى أن يفرغ موظف الجمارك من تناول طعامه، كان الجندي مراهقاً محصوراً في زيّ رثّ ومتسخ، مقاسه كبير بشكلٍ ملحوظ كما حذاؤه والرشّاش الذي على كتفه، انتظرنا ما يزيدُ على الساعة، حلّ الظلام، ولكنّ الأنوار ظلّت مطفأة. على الجانب الآخر من الطريق توجد محطّة لسكّة الحديد، بناء خشبيّ مغبرّ بنوافذ وأبواب مغلقة. الظلام الصامت كان يزفر بُخار طعامٍ ساخن، «الشيوعيون يأكلون أيضاً» قلتُ، كي لا أفقد روح الدعابة، بينما كان فرانكو على وشكِ أن يغفو خلف عجلة القيادة «أجل، على الرغم ممّا تروّجه الدعاية الغربيّة» أجاب.
قبل الساعةِ العاشرةِ بقليل أُضيئت الأنوار، وسمح لنا جندي المَحرس أن نقترب من الفانوس لفحص جوازاتنا. تفحّصَها صفحةً صفحة باهتمامِ واستغراقِ من لا يُتقن القراءة. بعد ذلك رفع الحاجز وطلبَ منّا أن نركن سيّارتنا على مسافة عشرة أمتار أمامَ بناءٍ خشبيٍّ بسقفٍ من الزنك على غرار قاعاتِ حفلات الرقص في أفلامِ رعاة البقر. قادنا بعدها حارس أعزل، بعمر من سبقهُ تقريبًا، نحو نافذةٍ صغيرةٍ حيثُ كان بانتظارنا شابان آخران يرتديان الزيّ العسكريّ، على ملامحهما ذهولٌ أكثر منه حزم لكن دون أدنى أثر للود. دهشتُ لحقيقة أنّ من يتولّى حراسة البوّابة العظيمة للعالمِ الشرقيّ هم ثُلّة من المراهقين ممن يفتقرون إلى الكفاءة، بل ونصف أميين أيضاً.
استعانَ الجنديّان بريشة ودواةٍ ذات سدادة من الفلين لنقل المعلومات الواردة في جوازات سفرنا، كانت عمليّة شاقة، أحدهما يملي المعلومات والآخر ينسخ طريقة نطق الأصوات الفرنسية والإيطاليّة والإسبانية بخطٍّ بدائي شبيه بخربشة طلّاب المدارس الريفيّة وقد تلطّخت أصابعه بالحبر. بعد قليل بدأنا جميعاً بالتعرّق، الحارسان جرّاء الجهد المبذول خلال العملية، ونحن بسبب جهدهما. صمد صبرنا حتى اللحظة التعيسة لإملاء وكتابة مكان ولادتي أراكـاتاكـا.
عند النافذةِ التالية سلّمنا ما نحمله من مَال، لكن تغيير النافذة كان مسألة شكلية وحسب، فقد تمّ تنفيذ العمليّة بواسطة نفس الجنديين. ثم في النافذة الأخيرة كان علينا أن نملأ عن طريق الإشارات استبياناً باللغة الألمانية والروسية يشمل كافة مواصفات وتفاصيل السيارة. في تلك المرحلة ـ وقد غلبَنا العطش والجوع ـ اعتَقدنا أننا اجتزنا جميع نقاط التفتيش، لكن مدير الجمارك ظهر بشكلٍ مفاجئ. كان رجلاً خشن المظهر والتصرفات، يلبس سروالاً من الكتّان المتّسخ وجزمة بساق طويلة مع سترةٍ من القماشِ الرثّ بجيوبٍ غير متّسقة محشوة بالأوراق وقطع الخبز. خاطَبَنا باللغة الألمانيّة وفهمنا أنّ علينا أن نتبعه.
خرَجنا إلى الشارع الذي بالكاد أضاءته نجمات الفجر الأولى، لنعبر فوق سكّة حديدية ثم التففنا خلف مبنى المحطة ومشينا في ممرٍّ طويلٍ يعبق بروائحِ طعامٍ مازال يطبخَ، صُفَّت على طوله طاولات تتّسع لأربعة أشخاص ورُفِعت فوقها المقاعد. على الباب، يقفُ حارس مسلّح برشّاش أوتوماتيكي إلى جانب طاولة عُرِضت عليها كتب ماركسيّة ومنشورات للدعاية السياسيّة. سِرنا أنا وفرانكو جنباً إلى جنب مع المدير، أما جاكلين فتَبِعتنا متخلّفة عنّا ببضعةِ أمتارٍ تطرقُ بكعبها العالي على الأرضيّة الرنانة. توقف المدير وأمَرَها بطريقةٍ جلفةٍ أن تمشي بمحاذاتنا، نفّذت الأمر ومشينا نحن الأربعة بصمتٍ عبر متاهةٍ من المَمرّات الخالية حتى وصلنا باب الممر الأخير.
دخلنا في حجرةٍ مربّعة، يتوسّطها مكتب إلى جانبه خزنة حديديّة، أربعة مقاعد حول طاولة وُضِعت عليها منشورات سياسيّة وإبريق ماء وسرير بمحاذاة الجدار. على الحائط، أعلى السرير، عُلّقت صورة لزعيم الحزب السياسي لألمانيا الشرقيّة مقتطعةً من إحدى المجلات. جلس المدير خلف المكتب ومعهُ جوازات سفرنا وجلسنا نحن على المقاعد في الجهة المقابلة.
لا أعلم على وجهِ اليقين كم من الوقت أمضينا في تلك الغرفة، واحداً تلو الآخر، أجبنا عن الأسئلة الموجّهة إلينا باللغة الألمانيّة من قِبَل واحد من أكثر الموظفين حماقةً ممّن قابلتهم في حياتي. في البداية كان الأمر فظيعاً فقد شرحنا لهُ بكافة الوسائل الممكنة أنّنا لم نكن جواسيساً للمعسكر الرأسماليّ، وأنّنا أردنا القيام بجولةٍ في ألمانيا الشرقيّة وحسب. لكن شعوراً انتابني بعد برهة بأنّ عقله يعتمد ألمانيّةً مدرّعة في التفكير بحيث راحت كلماتنا الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية تسقط جميعها مرتدة أمامه، ليست كلماتنا وحسب، بل وأكثر إيماءاتنا تعبيراً وصدقاً كذلك.
جدال المجانين ذاك أثار ثائرته وتسبّب في ارتباكه، ثم تفاقم ارتباكه جرّاء تكرار حالات الفشل عند اضطراره إلى تمزيق الڤِيَز التي تلفت بفعل التصحيح وبقع الحبرِ ثلاث مرّات على التوالي.
أمّا بالنسبة لجاكلين، فقد كانت الأقدار أخفّ وطأة عليها، لأنّ المدير أظهر اهتماماً كبيراً بأصولها الهندوصينيّة. شرحَ لنا بالإشارات أن من المحتمل أن تعثر جاكلين خلال الرحلة على «حبيبٍ بشعرٍ أشقر وعيون زرقاء»، وكإثبات لإعجابهِ الشخصيّ بها منحها ڤيزا مجانية. عندما غادرنا المكتب وجدنا أنفسنا في أقصى حدود الإنهاكِ والتعب، لكن توجّب علينا البقاء لمدّة نصف ساعةٍ إضافيّة لرغبةٍ لدى المدير بأن يشرح لي، عبر الإشارة، وبمزيجٍ من الألمانيّة والإنكليزيّة المكسّرة مقولةً استطعنا بعد جهد فهمها: «شمسُ الحريّة ستُشرق يوماً ما في كولومبيا».
جاكلين التي كانت أكثرنا نشاطاً تولّت قيادة السيّارة، بينما جلس فرانكو إلى جانبها كي يَحول دون أن تغرق في النوم خلال القيادة. كانت الساعة قد قاربت الواحدة بعد منتصف الليل، تَمدّدتُ على المقعد الخلفي وغرقتُ في النوم على وقع سير العجلات التي انسابَت فوق الاسفلت الأملس اللامع في شارع خالٍ تماماً.
عندما استيقظتُ كان الفجر على وشك أن ينبلج. في الجهة المعاكسة لمسيرنا مرّت بنا شاحناتٌ عملاقة تسير ببطء شديد وبالكاد تكشف مصابيحها، ذات الرَفارِيف الأماميّة المائلة نحو الأسفل، أولى خيوط الفجر. كانت قافلة من المَركبات اللانهائيّة عجزتُ عن تمييزَ أشكالها «ما هذا؟» تساءلتُ، «لا نعرف» أجابَت جاكلين، متوتّرة خلف المقود؛ «كانت تمرّ على هذا النحو طوال الليل». أضافَت.
شارَفت الساعة على الرابعة فجراً، وراح صباح ربيعي ينبلج كاشفاً السهول الجرداء، عندئذ اكتشفنا أنها قافلات عسكريّة روسيّة تمر بالتتابع ضمن مجموعاتٍ من عشرين إلى ثلاثين شاحنة كلّ نصف ساعة على وجه التقريب، بعضها مُحّملٌ بعساكر دون أسلحتهم يلتحفون بأغطيةٍ سميكة. تتبعها عدد من السيّارات روسيّة الصنع غير المرقّمة.
خلوُّ الطريق السريع بدا أكثر وضوحاً مقارنةً بشوارع ألمانيا الغربية، حيث يتعين شق طريقٍ وسط ازدحام السيارات الأميركية حديثة الطراز. على بعد كيلومترات قليلة من مدينة هايدلبرغ تمركَز حاجزٌ لقوات الجيش الأميركي وعلى جانبيه امتدّت مقبرةٌ للسيارات على طول 3000 متر تقريباً. في حين أننا، خلال مسارنا عبر ألمانيا الشرقية، لازَمَنا شعورٌ بأنّنا ضللنا الطريق وأنّنا نقود في اتجاه لا يؤدي إلى أيّ مكان. وجود الحواجز هو وحدهُ ما بَدد وحشتنا نوعاً ما. عوضاً عن لوحات الإعلانات الضخمة التي انتشرت على جانبي الشوارع في ألمانيا الغربية، رأينا في نظيرتها الشرقية كاريكاتيرات عملاقة للرئيس آيزنهاور على هيئة أخطبوط يعتصرُ بين أطرافهِ مجسماً للبروليتاريا كُتِبت عليه استعاراتٌ أدبية مناهضة للشيوعيّة بخطٍّ عريضٍ وألوانٍ زاهية، جاءت جميعها بلسان الرئيس آيزنهاور باعتباره الممثّل الأوحد والمنفّذ المطلق للفظائع الرأسمالية.
أوّل اتصالٍ لنا مع بروليتاريا العالم الشرقيّ حصل بطريقةٍ غير متوقّعة، ففي حوالي الساعة الثامنة صباحاً وجدنا محطّة وقودٍ بمحاذاة الطريق السريع، وعلى مقربة منها رأينا مطعماً يحمل لافتة مضيئة كُتِب عليها ميتروبا وهي العلامة المميّزة لمطاعم الدولة. ملأ فرانكو خزان الوقود وبعدها أجرينا إحصاءاً لما تبقى في حوزتنا من ماركات وقررنا المخاطرة بمشهد إفطار جنوني جديد.
لن أنسى ما حييت لحظة دخولنا ذلك المطعم. كان الأمر أشبه بالاصطدام وجهاً لوجهٍ مع واقعٍ لم أكن مُهيّئاً له. حدث في الماضي أن دخلتُ، على غير استعداد، إلى زقاقٍ جانبي في مدينة نابولي، في نفس اللحظة التي كان يتمّ فيها سحب تابوتٍ مربوطٍ بالحبال من نافذة الطابق الثالث لأحد المباني، بينما في الأسفل، في الزقاق المزدحم بالأطفال والمتسولين وعربات الخنازير المذبوحة، حاول الحشد السيطرة على زوجة القتيل التي مَزقَت ثيابها ومزعت شعرَها وراحت تتقلب على الأرضِ وهي تنوح. كان انطباعُ المطعمِ مختلفاً بعض الشيء، لكنّهُ بذات القدر من الكثافة، إذ أنني لم أرَ من قبل كلّ هذا الشجن المُركز خلال الفعل الأبسط على الإطلاق في الحياة اليوميّة ألا وهو تناول الفطور. مئة رجلٍ وامرأة بوجوه بائسة هزيلة يلتهمون البطاطس واللحوم والبيض المقلي وسط هَمهمةٍ بشريّةٍ مكتومة في غرفةٍ مليئة بالدخان.
دخولنا وضع حداً للهمهمة. أنا، الذي لم أُعِر اهتماماً لشاربي ومعطفي الأحمر المخطط بالأسود، أرجعتُ هذا التشوق الذي سادَ القاعة إلى هيئة جاكلين المُلفتة. وسط هذا الصمت، وبينما شَعرنا بمئات النَظرات الخفيّة على جِلدنا، مشينا إلى الطاولة الشاغرة الوحيدة بجوار جرامافون باهت اللون لتشغيل الأسطوانات الرخيصة التي تُباع مقابل نصف مارك. كانت عناوينها مألوفة لنا: مامبوس لـِبيريس برادو، بوليروس لـِفرقة بانشوس، وقبل كلّ شيء كان هناك تسجيلات لموسيقى الجاز. قَدمت لنا نادلةٌ بزي رسمي أبيض الخبز والقهوة السوداء بنكهةِ الهندباء البريّة المُكثّفة، لكن كان من الواضح ـ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار متوسط الدخل في فرنسا ـ أنّها أرخصُ بكثيرٍ ممّا هي عليهِ في باريس، فقد تَمكَّنا لاحقًا من التحقّقِ من متوسّط الأجور في ألمانيا الشرقيّة، واتضَح لنا أنّها أرخص بكثيرٍ من أيّ بلدٍ آخر في أوروبا.
عندما حان موعد الدفع، وبما أن الماركات الشرقية لم تكن كافية، قبِلت النادلة ماركات غربية وجعَلتنا نوقع على ورقٍ عادي يَنص على مقدار التبادل النقديّ. استطلع فرانكو وجوه الزبائن بنوع من الأسف، هناك لحظات حساسة من العسير إعادة بنائها وشرحها وتلك كانت إحداها.
كان هؤلاء الأشخاص يتناولون فطوراً يُعتبر وجبة غداء كاملة في بقيّة أنحاء أوروبا وبسعر منخفض أيضاً، لكن بالرغم من ذلك كانوا بؤساء، متذمرين، يبتلعون دون أدنى شهية حصصاً معتبرة من اللحم والبيض المقلي.
تناولَ فرانكو الرشفة الأخيرة من القهوة وتلمس فخذيه بحثاً عن علبةِ سجائره لكنهُ لم يعثر عليها فوقف بطريقةٍ توحي بالانزعاج وتوجّهَ إلى أقرب مجموعةٍ لطلب سيجارة. وفجأة اندفع الرجال نحونا مرّة واحدة من الطاولات المجاورة حاملين علب سجائر مختومة وأعواد ثقاب وسجائر مُفردة في عرضٍ صاخبٍ للكرم الجماعي. بعد خروجنا، أَدلَت جاكلين، بينما استلقت في المقعدِ الخلفيّ للسيّارة التي انطلقَت بنا نحو برلين، بتعليقٍ وحيدٍ. اعتَقَدَت أنّه في محلّهِ حينها: «يا لهم من مساكين».
برلين جنون عارم
الأثر الأوروبي الوحيد المتبقي في برلين الغربية هو كاتدرائية محترِقة تَهدّم برجها بفعل القصف. الأميركيون كالأطفال لديهم رعبٌ من الخفافيش، فعوضاً عن دعم الجدران القليلة المتبقية عقب الحرب وترميم المدينة قاموا بتطبيق معايير أكثر صحية وقبل كل شيء تجارية: لنمحِ كل شيء ونبدأ صفحة جديدة. خَلَّفَ لدي الاتصال الأول مع هذه العملية العملاقة للرأسمالية ضمن الأراضي الاشتراكية شعوراً بالخواء. كنا نبحث طوال الصباح عن المدينة ونتجول داخلها دون أن نعثر عليها، كانت غير متناظرة، لا بداية لها ولا نهاية. علاوة على ذلك كله كانت تفتقر إلى مركز يسمح للمرء باختبار شعورِ الوصول إليها.
المناطق الشاسعة التي لم يُعَد إعمارها تحولت إلى حدائق مؤقتة. هنالك شوارع بأكملها تبدو وكأنها قد نُقِلت دفعة واحدة من العاصمة نيويورك. في بعض الأجزاء تفوّق الشّره التجاري على نظيره التقني إذ افُتتحت شركات كبرى قبل عام على سحبِ السقالات من الأبنية. ومن تلك العمليّة الجراحية الصاخبة، شيء ما بدأ يتمخّض، بشكلٍ معاكس تماماً لسائر أوروبا؛ مدينة متألّقة ونظيفة حيث الأشياء تترك ذاك الانطباع من عدم الراحة لكونها جديدة للغاية. لقد قيل عن تلك التجربة المعمارية إنّها أكثر التجارب إثارة للاهتمام في أوروبا قاطبة، هذا جليّ من وجهة نظرٍ فنيّة، إذ إنّ برلين الغربيّة ليست بمدينة، بل هي عبارة عن مختبر، والولايات المتحدة الأميركية تملك عصا الحكم. لا أحتكم على بيانات عن حجم الدولارات المستثمرة في إعادة الإعمار أو الكيفية التي تمت بها تلك الاستثمارات. لكن النتائج تلوح في الأفق.
أعتقد بتواضعٍ أنّها مدينة وهمية يغزوها السواح الأميركيون في الصيف، يلقون نظرة خاطفة على العالم الإشتراكي وينتهزون الفرصة لشراء سلعٍ من غرب برلين مستوردة من الولايات المتحدة بأسعار أرخص مما هي عليه في العاصمة الأميركية نيويورك.
يصعبُ على المرء أن يجد تفسيراً منطقياً يفسر قدرة فندقٍ يوازي في جودته أفضل فنادق الولايات المتحدة الأميركية من حيث فخامة مقصوراته وأثاثه الحديث المجهز بكافة أساليب الرفاهية، على الاستمرار في العمل مقابل أربع ماركات لليلة الواحدة، أي ما يعادل دولاراً أمريكياً واحداً. وإذا ما راقبنا حركة المرور ساعة الذروة وجدنا أنّ جميع المركبات حديثة الطراز. أمّا إعلانات المتاجر وقوائم المطاعم فمكتوبة كلّها باللغة الإنكليزيّة. بالإضافة إلى أنه، ضمن أراضي ألمانيا الغربيّة، توجد خمس إذاعات لا تبثّ أيّ منها كلمة واحدة باللغة الألمانية. عندما يلاحظ المرء كل ما سبق ويزيد على ذلك أنّ برلين الغربية هي جزيرة كبيرة محصورة ضمن الستار الحديدي، وأنها لا تمتلك علاقات تجارية مع جيرانها على محيط 500 كيلومتر تقريباً، وأنّها ليست مركزاً صناعيًّا مهماً، مع الأخذ بالاعتبار أن الاتّصال بالعالم الغربيّ يحدثُ عبر طائراتٍ تهبطُ في مطار المدينة بمعدّل طائرةٍ كلّ دقيقتين، يجد المرء نفسهُ مضطراً للاعتقاد بأنّ برلين الغربيّة ليست سوى وكالة دعاية رأسماليّة ضخمة، إذ إن طفرتها لا تتوافق مع الواقع الاقتصادي. في كلّ تفصيل هناك غرض متعمّد لتقديم ما يشبه الازدهار الرائع لإرباك ألمانيا الشرقية التي تحدق في المشهد من خلال ثقب الباب فاغرة فاها.
الحدود الرسمية بين سكان برلين الشرقيّة وبرلين الغربيّة هي بوابة براندبورغ حيث يرفرف العلم الأحمر مع المطرقة والمنجل. على مسافة 50 متراً تتواجد لافتة تحذيريّة: «انتبه أنت على وشك الدخول في القطاع السوڤييتي». وصلنا أمام تلك اللافتة عند الغسق بعد أن تعرفنا على برلين الغربية. للصدفة المحض خفّفَ فرانكو السرعة، فظهر شرطي روسي طلبَ منا أن نتوقّف وتفحَّصَ السيّارة بنظرةٍ إدارية ثم أعطانا الأمر بالمضي قدماً. العبور كان يسيراً كانتظار إشارة المرور الخضراء، لكن التغيير ملحوظ تماماً وهو تغيّر وحشي.
دخلنا مباشرة إلى جادة أونتر دين ليندن، عبرنا الشارع العظيم تحت أشجار الليمون، والذي اعتُبِر في أزمنةٍ سابقةٍ أحد أجمل شوارع العالم، لم يتبقّ منهُ الآن سوى جذوعٍ من الأعمدةِ الرطبة. مجرّد بوّاباتٍ مشرّعة على الخواء، أساسات متصدّعة تغطّيها الطحالب والصدأ، لم يعد هناك بناء في أيّ مترٍ مربّعٍ منها.
كلّما توغلَ المرء في برلين الشرقيّة يتّضحُ له أنّ الفارق ليس في اختلاف قوانينها عن تلك الغربية وحسب، بل في عقلية كل منها المعاكسة تماماً للأخرى على جانبي معبر براندينبورغ. الكتل السليمة القليلة التي لم تُمسّ في القسم الشرقيّ تعاني آثار القصف المدفعي، والمحالُ التجارية قذرةٌ ومتوارية خلف جدران فتَحَها القصف، عُرِضت داخلها سلعٌ ذات ذوق رديء وجودة منخفضة. شوارع بأكملها بِمبانٍ متداعيةٍ لم يبق من طوابقها العليا سوى الهيكل أما الطوابق السفلى فما يزال سكانها محشورون بلا مراحيضٍ أو مياه صالحة للشرب تُركت ملابسهم لتجفّ على النوافذ، كما في أزقة نابولي.
في الليل، بدلاً من الإعلانات التي تغمر برلين الغربيّة بالألوان، تضيء على الجانب الشرقي النجمة الحمراء وحدها. ميزة تلك المدينة القاتمة هي أنّها تتوافقُ مع الواقع الاقتصاديّ للبلاد. ما عدا شارع ستالين، الردّ الاشتراكيّ على نموّ برلين الغربيّة هو الابتذال المهول في شارع ستالين. ابتذال ساحق إن كان من حيث الحجم أو الذوق الرديء. عسرُ هضمٍ فنّيّ أُدخل فيه جميع أنماط فن العمارة في موسكو. شارع ستالين أشبه بوجهة نظر خاصة وهائلة، شُيّدت فيه مساكن مماثلة لتلك الخاصة بالفقراء، لكنّها مكدّسة واحدة فوق الأخرى، مع أطنانٍ لا تحصى من الرخام، وتيجانٍ مزيّنة بالورود والحيوانات والأقنعة الحَجرية، وبوابات تستنزف الذوق بتماثيل يونانية مُقلَّدة صُنِعت من الإسمنت المسلح.
معايير أولئك الذين تصوّروا هذا القبح هي معايير بدائيّة بلا شك. الشارع الأروع في عهد هتلر كان أونتر دين ليندين. بينما الشارع الأضخم في برلين الاشتراكية والأوسع والأكثر قبحًا على الإطلاق، كان شارع ستالين. في برلين الغربية تمّ بناء مدينة للأثرياء، الأشخاص ذاتهم الذين سكنوا قبل الحرب جادة أونتر دين ليندن. بينما شارع ستالين كان مسكنًا لـ 11000عامل. هناك مطاعم ودور سينما وملاه ومسارح في متناول الجميع. كلّ مبنى من تلك المباني عبارة عن قاذورة من الابتذال: أثاث منجّد بقماش ليلكي، سجّاد أخضر اللون ذو إطار ذهبي، وقبل كلّ شيء المرايا والرخام في كلّ مكان حتّى في الحَمّامات. لا يوجد عامل في أيّ مكان في العالم، يتمتع بمستوى معيشي أفضل، وبهذه التكلفة الزهيدة، من سكان شارع ستالين. لكن مقابل 11000 شخص من أصحاب الامتيازات توجد كتلة سكانيّة كاملة مكدّسة في العشوائيّات، يعتقد ساكنوها، ويصرّحون بذلك علنًا، أنّه وبكلفةِ التماثيل والرخام والمجسّمات والمرايا المستخدمة في شارع ستالين، كان من الممكن إعادة إعمار المدينة بأكملها بشكلٍ حديث.
تقول التوقعات أنه إذا اندلعت الحرب فإن برلين لن تصمد أكثر من عشرين دقيقة، لكن إذا لم تندلع الحرب خلال الخمسين أو مئة عام القادمة عندئذ برلين ستكون قد تحولت إلى مدينة واحدة، بعد أن يسود أحد النظامين على الآخر، لتتحول إلى معرض صناعيّ ومجانيّ عملاق يشارك فيه كلا النظامين.
في الواقع، ليس بسببِ مظهرها الخارجي وحسب، لكن برلين هي جنون عارم، وفي سبيل رؤيتها من نقطةٍ مغايرة والدخول في تفاصيل الحياة الحميمية فيها واكتشاف عروق الالتحام، عليك ركوب مترو الأنفاق.
قبل ساعةٍ واحدةٍ على انتحاره، وقد وصل الروس إلى باب منزله، أعطى هتلر أوامره بإغراقِ محطة المترو حتى يخرج الأشخاص الذين التجأوا فيها إلى القتال في الشوارع. هذا هو سبب كونه رطباً وقذراً، لكنه الوسيلة التي يستخدمها سكان برلين ـ الفقراء في الجانبين ـ للاستفادة من النزاع الأصمّ الحاصل علناً بين النظامين. هناك أشخاص ممن يعملون في جانب ويعيشون في الجانب الآخر، ويبذلون قصارى جهدهم لتحقيق أقصى استفادة من كلا النظامين.
في مناطق معيّنة يكفي عبور الشارع، ليجد المرء نفسه أمام رصيفٍ اشتراكي وآخر رأسماليّ. على الجهة الأولى تعود ملكية المنازل والمحال والمطاعم إلى الدولة، أما في الثانية فهي ملكٌ للقطاع الخاص.
عملياً، من يعيش في أي من الجانبين ويريد العبور إلى الجهة المقابلة ليشتري زوجاً من الأحذية، يرتكب على الأقل ثلاث جنح من كلّ جانب.
لكن في برلين جميع الأحكام نظرية. هناك اتفاقيات دقيقة لمنع المُضاربةِ وتهريب رؤوس الأموال وإضعاف معنويات الأنظمة. بدايةً لا يمكن إنفاق الأموال في جانب وملاحقتها قانونياً في الجانب الآخر، ويتوجب أن تسبقَ كلّ عملية تجارية بكشفٍ لمصدرِ رأسِ المال. إلا أنه وعند التطبيق تغض السلطات الطرف. عملياً الشيء الوحيد الذي يهمّ هو المظاهر.
سكان برلين، الذين بمقدورهم العبور مشياً على الأقدام من جانبٍ إلى آخر في الشارع، يحترمون قواعد اللعبة ويمرون عبر مترو الأنفاق حيث يعرف الجميع ما يحدث لكن يتم تجاهله من قبل السلطات.
وقد تَجسد أمامنا الدليل الأكثر فضائحيّة لتلك المعركة المُضمرة لحظة طلبنا شراء ماركات شرقيّة من أحد البنوك في برلين الغربية. أعطونا 17 مارك شرقي مقابل الدولار الواحد. اعتقدَ فرانكو جازماً أنّ المسؤول قد أخطأ في الحساب، فسعر الصرف الرسمي هو 2 مارك مقابل الدولار، لكن المسؤول أوضح لنا أن السعر المتداول لا يؤخذ بعين الاعتبار في برلين الغربية حيث تمنح بنوكها بشكل علني وفي عمليةٍ قانونية بالكامل 17 ماركاً شرقياً للدولار الواحد، أي ما يقارب ثمانية أضعاف سعر التبادل الرسمي.
بالمُجمل كانت عملية عقيمة لكوننا لن نتمكن من شراء أيّ شيءٍ في ألمانيا الشرقيّة دون إثبات أنّ الأموال قد تم جنيها محلياً، لكن شكلياً فقط، هكذا بتصريف عشرين دولار في برلين الغربيّة تنقلنا في برلين الشرقية صعوداً وهبوطاً، وبحسبةٍ بسيطةٍ فإنّ غرفةً في أفضل فندق مع حمام وراديو وهاتف ووجبة إفطار في السرير ستكلّفنا 75 سنتاً كولومبياً. وجبة غداء كاملة في أحسن المطاعم كلّفتنا عشرين سنتٍ كولومبي، بما يشمل البقشيش والمراحيض والتماثيل والمرايا وموسيقى شتراوس.
أولئك الذين لا يملكون مفاتيح تلك المدينة، حيث لا شيء مؤكد تماماً، ولا أحد يعرف على وجه اليقين ما يمكن توقّعه، حيث أبسط تفاصيل الحياة اليومية تخفي شيئاً من التلاعب، يعيشون حالةً من القلق الدائم، وكأنهم يجلسون على براميل من بارود قابلة للانفجار في أية لحظة.
يبدو أنّ لا أحد ينعم بالاطمئنان هنا، فالخبر الذي يُفسّر في باريس بشكل طبيعيّ على أنّه حماقة جديدة من حماقات وزارء الخارجية يمكن أن يكون له وقع طلقةِ مدفعيّة في برلين. بل إنّ انفجار إطارٍ يمكن أن يتسبّب في ذعرٍ عام.
في مدينةِ لايبزيغ كان الأمر مختلفاً، بعد مسير أربع ساعات في السيّارة في طريقٍ ملتوٍ بين أشجارِ الحور، وصلنا إليها عبرَ شارعٍ ضيّقٍ ومتطرّف. بالكاد يوجد مكان لسكّة الترام. كانت حوالي العاشرة ليلاً حين بدأ المطر بالهطول. ذكّرتني الجدران المبنيّة من الطوب المفتقدة للنوافذ والمصابيح الخافتة للإضاءة العامّة بالصباح المبكّر لبوغوتا في الأحياء الجنوبيّة.
أما مركز المدينة فقد تمتّع بسلامٍ مريب. كانت الإضاءة سيّئة كما في الضواحي ولافتات النيون HO أعلى بارات الدولة هي العلامة الوحيدة للحياة مع عددٍ قليلٍ جداً من الزبائن المدنيين وبعض الجنود. بعد البحثِ عبثًا عن مطعمٍ مفتوح قرّرنا التوجّه إلى الفندق. موظفو الإدارة يتحدّثون الألمانيّة والروسيّة فقط. أفضل فندقٍ في لايبزيغ على الإطلاق بُنِي على غرار الطراز الزخرفيّ لشارع ستالين. على المنضدةِ أمامَ نافذةِ الاستعلامات تمّ عرض جميع الصحفِ الشيوعيّة الصادرةِ في الغربِ التي تصلُ جوًّا عبر الطائرات. في البارِ المُضاءِ بالثريّات المبهرجة الثقيلة، عزفت أوركسترا الكمان رقصة فالس تثير الحنين واحتسى الزبائن الشمبانيا بصمتٍ دونَ حراكٍ في مشهدٍ مبكٍ من فرط التمايز به. وارتدت النساء الخريف مقنّعات بمساحيق التجميل يعتمرن قبعات قديمة الطراز وطفت الموسيقى في جوٍّ عابقٍ بعطٍر مكثّف. لقد أتينا إلى لايبزيغ كي نراها عن قرب وننقل مشاهداتنا، لكن بعد أربع وعشرين ساعة على وجودنا في المدينة لم تعد المسألة مسألة رؤيا، بل فهم.
قبل خمسة عشر يوم ـ كإحدى خدع القدر ـ كنّا في هايديلبرغ، المدينة الجامعية في ألمانيا الغربية، مدينةٌ مثيرةٌ للإعجاب بشكلٍ لا مثيل له في أوروبا لما تبثّه من روح التفاؤلٍ والشفافية. لايبزيغ هي أيضاً مدينةٌ جامعيّةٌ، لكنّها مدينة حزينة. بها عرباتُ ترام قديمة تغصّ بأشخاصٍ مكتئبين متداعين. لا أعتقد أنّ هناك أكثر من عشرين سيّارة لنصفِ مليون نسمة من السكان. بالنسبة لنا كان من غير المفهوم كيف لشعبِ ألمانيا الشرقيّة، وبالرّغم من أنّه استولى على السّلطة ووسائل الإنتاج والتجارة والمصارف والاتّصالات، أن يكونَ شعباً حزيناً. أكثرُ شعبٍ حزينٍ رأيتهُ على الإطلاق. في أيّام الأحد تندفعُ الناس إلى الحدائق حيثُ تُعزَفُ موسيقى رقص وتُوزّع مشروبات غازيّة. باختصار، يقضون ساعة منهِكة في فترة ما بعد الظهيرة وبتكلفةٍ منخفضةٍ للغاية. في حلبةِ الرّقص لا يتّسع المكان لمشكّ دبّوس. إلا أنه وعلى وجوه الأزواج المجتمعين، وبالكاد يتحركون، بدا اشمئزاز مماثل لذلك الذي وَسَم الحشد المحشور في عرباتِ الترام.
الخدمة بطيئة وعليك الانتظار في الطابور لمدّة نصفِ ساعة لشراء الخبز أو تذاكر القطار أو السينما. أمّا نحن فقد احتجنا إلى ساعتين في حديقةٍ للملاهي حيثُ كان علينا أن نشقّ طريقنا باستخدامِ أكواعنا لنمرّ بين العشّاق والأزواج القدامى مع أطفالهم لشراء عصير البرتقال.
إن تنظيماً من هذا القبيل، صارمٌ لكن غير فعّال، يمثل النموذج الأكثر شبهاً بالأناركيّة.
حسن، لم نتمكن من استيعاب الوضعِ أو فهمه، كنا كمن يذهب إلى السينما لقتل الوقتِ فيجد نفسه مضطراً لمشاهدةِ فيلم مجانين لا بداية لهُ ولا نهاية صُنع خصيصًا للإرباك. من المثيرِ للقلق أنّ في العالم الجديد وتحديدًا في مركز الثورة، تبدو كل الأشياء قديمة، خامدة ومُتداعية.
نسيتُ أنا وفرانكو أمر جاكلين، كانت تسير خلفنا طوال اليوم متخلّفة عن الرّكب، تتفحص دونما اهتمام الخزائن المُغبَرّة حيث عُرضت بضاعة رديئة بأسعارٍ فاضحة. وأخيرًا في وقت الغذاء ظهرت عليها علامات الحياة: احتَجَّت على عدم وجود مشروب كوكا كولا.
في الليل، وبينما كنا نجلس في مطعم المحطّة بانتظار الطعام لأكثر من ساعة من الزمن وقد ضاقَت أنفاسنا من كثافةِ الدخان والروائح وموسيقى الأوركسترا التي كانت تدخل خلال أذن الزبون وتخرج من الأخرى، علّقت جاكلين قائلة: «إنّه لبلدٌ فظيع». ووافَقَها فرانكو على ذلك.
في اليوم التالي خَرَج فرانكو مبكّراً جداً بحثاً عن تفسيراتٍ، وتَذكَّرَ أنّ جامعة ماركس ـ لينين حيث قدم شباب من جميعِ أنحاء العالم لدراسة الماركسية، موجودة في لايبزيغ. فتوجهنا لاحقاً إلى هناك. كانت البيئة السائدة في الجامعة بيئة سلامٍ وتأمّل. كَما زُوّدت بمبانٍ منعزلةٍ بين الأشجار أقرب ما تكون إلى المدارس الكاثوليكيّة. كنتُ محظوظاً وسعيدًا بالعثورِ على مجموعةٍ من طلّاب أمريكا الجنوبيّة فيها ويعودُ الفضل إليهم، أن ملاحظاتنا، التي كان من الممكن أن تظلّ ذاتيّة بحتة، قد تأكدت على أسسٍ عملية وملموسة. والفضل يعود أيضا للحفلة الصغيرة الفظيعة التي أمضيناها تلك الليلة في منزل السيد وولف.
المُصادرةُ أموالُهم يلتقون لرواية مآسيهم
في ألمانيا الشرقيّة هنالك فئة اجتماعيّة طفيلية من منزوعي الملكيّة، وهم البرجوازيون في زمنِ هتلر الذين تمّ تأميم ممتلكاتهم. قلّة قليلة منهم قبِلَت العرض الذي قدمته الحكومة لقاء أعمالهم وتجارتهم القديمة وفضّلوا العيش على نفقتهم الخاصة على أملِ سقوط النظام. وشيّدت الحكومة فنادق وحانات ومطاعم فاخرة خصيصًا للوفود الأجنبيّة والمسؤولين الرسميين حيث يُكلّف دخولها ذراعاً وساق. ونظراً لأنّها أماكن باهظة الثمن بالنسبة لعامة الناس، فإن شريحة المّلاك السابقين وحدهم من امتلكوا القدرة على التردّد إليها والحكومةُ بطبيعةِ الحال كانت سعيدة بذلك لأنّها الطريقة المثلى لاسترداد أموال التعويض التي تُقدّمها لهم. فترى هؤلاء يجتمعون لسردِ أحزانهم وللثرثرة ضدّ الحكومة ولحكّ ظهور بعضهم البعض كالحمير في عرض مواساة جماعي. وليعيدوا الأموال إلى خزائن الولاية لقاء ليلةٍ من موسيقى الفالس الحزين والشامبانيا دون ثلج. والفندق الذي نزلنا به كان أحد تلك الأماكن. على أنّ التعويض الذي تقدمه الدولة غير قابلٍ للتوريث. وبطبيعةِ الحال فإن لأولئك البرجوازيين عائلات وأبناء على أنهم ليسوا سوى شريحة من الطفيليّات المراهقة تساعدُ كبار السنّ على إنفاقِ أموالهم وهم على قيد الحياة. إنّه جيل جاهل بالكامل، دون أدنى تطلّعات وتعوزه الرغبة في الحياة، نشأ في محيطٍ من الاستياء والسّخط ويعيش استحضاراً يوميًّا لماضٍ مزدهر قد أفل. جيل يكره الفالس الحزين ويعتبر الشامبانيا مشروباً منخفض الكحول، ومن أجل صرف انتباههم عن المجتمع أنشأت الدولة تلك الملاهي حيث تسلبهم أموالهم حتّى في المراحيض. إنّها أشبهُ بمعسكراتِ اعتقال حيث يُترك أبناء البرجوازيين فيها حتى يتعفّنوا أحياء.
السيّد وولف لا ينتمي إلى تلك الفئة، في شبابه كان لديه متجر للأسطوانات وخلال الحرب عمل كضابط اتصالات. أمّا الآن فيعمل في ورشةِ لبيع الكهربائيّات. أما زوجتهُ فتعمل مديرة لمدرسةٍ داخليّةٍ للبنات، حيث يعيشان معاً في إحدى طوابق المبنى. تلك السيدة تحبّ السهر كثيراً لذلك يصحبها السيد وولف يوم السبت من كلّ شهر للرقص. وإذا حدث وكان لدى إحدى فتيات المدرسة الداخليّة وقت فراغ كانا يصحبانها معهما. في تلك الليلة كانا برفقة فتاتين. ونظراً لأنّ المكان الوحيد الذي يفتح أبوابه حتّى الفجر كان ملهى فمينا فقد توقفوا هناك، دون أن يعيروا انتباها إلى الأجواء غير اللائقة في مثل تلك الأمكنة.
كان سيرجيو قد عرف عن نفسه للمجموعة على أنّهُ صحفيّ. إذ يُفضّل الطلاب الأجانب عادة إخفاء هوياتهم ليسهل عليهم أمر التعرف على أشخاص معارضين للحكومة. وما أن أخبرت الشقراء السيد وولف بأنّنا جميعاً صحفيّون أجانب شعرَ بالأمان واستشعر الفرصة للتنفيس ضدّ الحكومة ودعانا لمتابعة السهرة في منزله.
السيد وولف ليس متآمراً، إنّه مواطنٌ صالح يلاحظ الأشياء ويفسّرها بروحِ الدعابة. بعد زجاجة كونياك واحدة بدأ يسخر من الوضعِ العام. ثم حضّرت لنا زوجتهُ قهوةً بنكهةِ الهندباء «هذه القهوة أُعدّت بسوءِ نيّة» قلتُ لاستفزازِ السيّد وولف، «اعذروني، هذه القذارة هي الشيء الوحيد المتوفر في ألمانيا» أجاب غارقاً في الضحك. كنتُ أعلم أنّ ما قاله كان صحيحاً، فمنذ وصولنا إلى لايبزيغ تخلّينا عن شربِ القهوة نهائياً.
تبثّ الإذاعة المحلية برنامجاً موسيقياً راقصاً، يليه نشرة الأخبارِ الرسميّة بعد كل وصلة، كان السيد وولف يطفئ الراديو عند موعد النشرة قائلاً: «لا يتحدّثون سوى عن السياسة المثيرة للاشمئزاز». ويعقب سيرجيو مؤكدًا «إنّها دعاية للنظام». عند الثالثة صباحاً بثّت المحطة آخر رسائلها وودّعت مستمعيها بالنشيد الوطني، لذا اقترحتُ أن نجد محطّة أجنبيّة لمواصلةِ الرّقص فبدا الارتياح على وجه السيّد وولف، ولكن على موجةِ البثّ الخارجيّ لم يُسمَع سوى تشويش عال النبرة متقطّع مثل صوت دونالد داك الشخصية الكرتونيّة الشهيرة. لقد تأكدت من ذلك بنفسي: جميعُ المحطّات الخارجيّة كانت محجوبة.
لم يكن من الصعوبةِ فهمُ السببِ وراء كرهِ السيّد وولف للنظام. لكن الأمر المثير للقلق هو أنّ الشابتان اللتان لا تعرفان شيئاً آخر سوى هذا الواقع، والتي تشرف الدولة على تعليمهما وتُؤمّن لهما معاشاً مضموناً ووعدًا بمستقبلٍ آمن، تتخذان موقفاً متعنتاً تجاهها مماثلاً لموقف السيّد وولف. بل إنهما كانتا تشعران بالخجلِ من جودةِ البِذَل التي تلبسانها وأظهرتا رغبةً بمعرفة أي شيءٍ عن باريس حيثُ تُقرأ الروايات من جميع أنحاء العالم ويُعدّ النايلون مُنتجاً شائعاً. أيدهما فرانكو لكنّهُ لفت نظرهما إلى أنّ الطلّاب في البلدان الرأسماليّة لا يتمتعون بامتيازاتهم ولا بمعاشات شهرية من الدولة لكن ذلك لم يشكل فارقاً لديهما على الإطلاق.
كانت إجابة إحداهما تطابق تقريباً إجابة معظم الطلاب ممّن قابلناهم وحتّى من طلّاب الماركسيّة في جامعة ماركس لينين: «لا نريدُ أن يدفعوا لنا شيئاً، نريد فقط أن يسمحوا لنا بقول ما نشاء». لقد فوجئت بهذا الاستياء الجماعيّ وتذكرت أنّ الانتخابات الأخيرة قد أسفَرَت عن نتيجة 92 في المئة لصالح الحكومة. غارقًا في الضحك، ضرب السيد وولف على صدره وقال: «لقد منحتُ صوتي للحكومة، على أي حال إن لم أفعل ذلك فإن شرطياً كان سيأتي في الساعة الثالثة بعد الظهر ليدق بابي ويذكّرني بواجباتي كمواطن».
التصويت سرّي لكن السيد وولف فَضل أن يُصوّت للحكومة لتجنّب التبِعات «أخبر السيّد وولف أنّني أعتقدُ بأنّه جبان» صحتُ لسيرجيو. ضحكَ السيّد وولف وأجاب: «هذا ما يقولهُ جميع الأجانب. أودّ أن أرى ما ستفعله لو كنت هنا يوم الانتخابات». ربما ليس بإمكان أحد أن يفهم ما قالَه أكثر من كولومبيّ مثلي، فالنظام الحاليّ في ألمانيا الشرقيّة يشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ نظام كولومبيا في حقبةِ الاضطهاد السياسي، عندما سيطر الرعبُ من رجال السلطة على الشعب. عند الفجرِ عندما كنّا نصف مخمورين ولم يعد السيّد وولف يراقب كلامه، رنّ جرس الباب، كانت لحظة دراميّة. للمرّة الأولى أرى السيد وولف بهذه الجديّة، أمرَ الجميع بالصّمت وتمتم: «الشرطة».
قفزَت الفتاتان إلى غرفة النوم أمّا نحن فاتخذنا وضعية محايدة، بينما ذهبت زوجة السيّد وولف لفتحِ الباب. كان وكيل الجريدة الرسميّة جاء ليطالب بتسديد الاشتراكِ الشهري. الاشتراكُ ليس إجبارياً، إلّا أنّ الوكيل يدقّ بابهم كل شهر ويسألهم بلطف عمّا إذا كانوا يريدون تجديده. وبالطبع لا أحد يجرؤ على الرفض. تناولت زوجة السيد وولف مرتجفة الجريدة، أغلقت الباب، ثم رمتها على الطاولة واعترفَت بإنّهم خلال عامين من الاكتتاب لم يقرأوا منها حتّى عناوين الأخبار.
1.نسبة إلى مدينة بوبايان Popayán التي تقع جنوب غرب كولومبيا، وقد لقبت بالمدينة البيضاء لكثرة بيوتها المطلية باللون الأبيض.
في واقع الأمر كان هذا النفق هو الوسيلة الوحيدة للتوغل داخل منطقة الساتر الحديدي، لكنّ السلطات الحدودية كانت على درجةٍ من الصرامة بحيث جعلت من أمر المغامرة دون تأشيرةٍ رسميةٍ وسيّارة بلوحةِ أرقامٍ فرنسية أمراً لا يستحق العناء. القنصل الكولومبي في فرانكفورت كان رجلاً حكيماً «عليكم توخي الحذر- قال لنا باللهجة الرصينة المعروفة لأهل بوبايان 1– تخيّلوا حضراتكم كلّ هذا في أيدي الروس».
موقع الجمهورية