أثرياء الحرب الجدّد في سوريا/ عمار ديوب
اختلاف كبير بين فئات الطبقة الحاكمة في سوريا قبل 2011، وبعدها؛ “الفئتان” اللتان نهبتا ثروات سوريا عبر العلاقة مع السلطة وأجهزتها الأمنية، مع فارق أن الثانية انبثقت من “العدم والقاع” ودون أيّة ثروات موروثة، بينما الأولى لثرواتها مصادر متعدّدة؛ فبعضها من بقايا البرجوازية “التقليدية”، ومن الخطأ تسميتها بالوطنية، وبعضها الآخر، وأهمها رامي مخلوف، الآتي من خلال فساد والده ونهبه لثروات الدولة، ولا سيما من النفط، وسُمي “خازن القصر” في دلالة واضحة على العلاقة الاستثنائية بين السلطة والمال، وأنها الأساس في صعود أيّة شخصيات اقتصادية جديدة.
أصبحت تلك العلاقة أكثر وضوحاً بعد 2011، وصعود شخصيات، هي بمثابة موظفين لدى السلطة بينما كان رامي يمتلك استقلالية معينة تجاهها، ويتعامل من موقع الشريك في الحكم، وهذا الشكل من العلاقة مع السلطة صُفيُّ مع 2017، ووضِع رامي تحت الإقامة الجبرية، وغادر أخاه، الضابط الأمني “حافظ مخلوف”، البلاد، وصعدت شخصيات بديلة عنه كـ يسار إبراهيم، وأبو علي خضر وسامر فوز، وسيطر هؤلاء على شركات رامي الطائلة، وهم وآخرون، حازوا بجدارة صفة أثرياء الحرب.
ظاهرة الأثرياء هذه، ترافقت مع اقتصاد الحرب، ونزعة احتكارية وعنيفة للسيطرة على ثروات البلاد؛ فالحرب والنهب أهلكا مليارات البنك المركزي وتَعطل الاقتصاد، وجُفّفت الكثير من موارد الفساد، وجاء تفضيل شريحة كبيرة من أصحاب الأعمال القدماء الهجرة إلى خارج البلاد، أو الانكفاء عن العلاقة مع السلطة كسبب إضافي لتراجع عمليات النهب والفساد وتوقف دورة الاقتصاد، وهناك خروج قطاعات النفط من سيطرة الدولة، وبالتالي، وأمام حاجات الدولة والنظام والحلفاء، اضطرت السلطة لممارسة أشكال من العنف والتهديد المباشر لأصحاب الأعمال للدفع لمكاتب السلطة أو لشخصياتٍ منها وكذلك لخزينة الدولة، كيسار إبراهيم، الذي تسلم “المكتب السري” في القصر الجمهوري، والمسؤول عن متابعة الفعاليات الاقتصادية، وعن أدق تفاصيل عالم الأعمال في سوريا، وفرض “خوتات، وإتاوات” عليهم، للاستمرار في أعمالهم. السلطة “المنتصرة” منذ 2015، لم تهتم أبداً بتأمين بيئة اقتصادية أو اجتماعية لتنشيط إعادة الإعمار، ولا سيما بعد دخول الروس إلى سوريا، واستعادتها مدناً وبلدات كثيرة من القوى الخارجة عنها.
اقتصاد الحرب، تزامن مع بروز ظاهرة الميليشيات، التي قَمعت المتظاهرين وحاربت مع قوات النظام في مختلف المدن، وكانت تُموّل من المرتبطين بالسلطة، وهي ليست من القوات العسكرية للدولة، وتعدّدت أنواعها في مختلف المدن، ومن مختلف الطوائف كذلك؛ علويون ومسيحيون وسنّة، وارتبط بعضها بإيران وبعضها بروسيا، مع إعادة النظام سيطرته على أغلب مدن سوريا، قام بإصدار قوانين شرّعت بعض تلك الميليشيات تحت مسمى الشركات الأمنية أو الفيلق الخامس التابع لروسيا، ودُمِجت بعضها بالجيش النظامي، ومنها ما حُلّ وفُكّك.
الحقيقة أنّه لم يعد لوجودها أيّ مبرّر، حيث فَرضت تطورات الأوضاع إنهاء ظاهرة الفلتان الميليشاوي. إن ضرورة وضع اليد على الثروات واحتكارها، وإنهاء المليشيات الخارجة عن سيطرة السلطة استدعى إعادتها لكنفها، واحتكار الثروة مجدّداً، والتي تشتّت لبعض الوقت بين 2011 و2017، وكانت ممركزة قبل ذلك، وأعيدت لها المركزية بعد 2017، وترافق ذلك مع أمراء حرب جدّد، ولهم خصائص جديدة عما قبل 2011.
في الاقتصاد، لا بد من تحديد مصدر الثروات، فهي إمّا من نهب القطاع العام وإمّا تتشكل عبر السوق والوراثة. إن أثرياء الحرب الميليشاويين، ولا سيما بعد 2017، فرضوا “سياساتهم” على الدولة، فاستأنفت سياسات الخصخصة، بقراراتٍ جديدة لصالح الأثرياء الجدد، وباحتكار كاملٍ لصالح شخصيات بعينها، كأسرة قاطرجي، التي أَسست شركة أمنية، وحصلت على نسبة كبيرة من عائدات تجديد مصفاتي نفط طرطوس وحمص. ترافق احتكار الاقتصاد مع ندرة البضائع في السوق وارتفاع أسعارها أضعافاً مضاعفة، وتخلت الدولة عن دعمها السابق لمصادر الطاقة وللخبز وللأرز والسكر والزيوت وسواها، وارتفعت أسعار هذه المواد مرات ومرات، فأصبحت وظيفة الدولة، إضافة لاحتكار العنف وممارسته، الجباية وفرض الضرائب، والاستمرار في تهميش القطاعات التي ما تزال تابعة لها، كقطاع التعليم والصحة، وتمّ ذلك لصالح الأثرياء الجدد؛ المسيطرين على الاقتصاد والدولة.
مع فرض الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عقوبات على شخصيات اقتصادية، وتابعة للسلطة، قامت الأخيرة بتوكيل شخصيات جديدة، داخل سوريا وخارجها، لتأمين حاجات السلطة والدولة من البضائع، وهذا من أسباب ظهور شخصيات اقتصادية غير معروفة سوريّة وعالمياً، وليست لها أية استثمارات خارج سوريا، وهي، كما تقول الدراسة، بمثابة موظفين، أو وكلاء للسلطة، وهذا يعني أن الاقتصاد برمته أصبح محتكراً بشكل كبير، أي إن هناك سيطرة ونهباً للقطاع العام والخاص معاً.
إن حجة النظام بأن العقوبات الخارجية تمنع إعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد وتحسين أوضاع الأكثرية، وهي سبب تردّي الأوضاع الاجتماعية لأغلبية السوريين، تعاكسها تماماً سيطرة السلطة والتابعين لها على الاقتصاد بكل أشكاله.
إن وضعية السلطة والاقتصاد هذه، معروفة جيداً للدول العربية والإقليمية والعالم، ومع ذلك حاولت تلك الدول إعادة تأهيل النظام، عبر ما سُمي بإعادة التطبيع بعد 2018، ولكن سياسات النظام منعت ذلك، وهي سياسات تنطلق من التحالف مع إيران خاصة، وأن هذا التحالف له الأولوية، وهو تحالف حقيقي، ومتعدد الأوجه؛ فإيران من حَمت النظام بعد 2011، وهي من أعطته خطوط ائتمان بمليارات الدولارات، ولإيران ميليشيات واستثمارات وجيش على الأراضي السورية، وهي من تدعم بقاء السلطة والدولة على طبيعتهما، بينما الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وكثير من الدول تسعى لتغييرٍ بسيط في السلطة، وليس لتغييرها بشكل كامل؛ التغيير الجزئي هذا، ترفضه السلطة وكذلك إيران، وروسيا تميل إلى تغيير هامشي فقط. إن مشكلة النظام عميقة، فهو غير قادر على التغيير بكل بساطة، وعلاقته بإيران تمنعه من التفكير بذلك، وكذلك سياساته القمعية التي مارستها بعد 2011 خاصة.
إن غياب إمكانية إصلاح النظام لذاته، تدفعه إلى احتكار الثروة بشكلٍ كبيرٍ، ولا سيما في القطاعات الأكثر مردودية، وترك الهوامش لبقية التجار ورجال الأعمال والطبقة الوسطى. هذه السياسة، وباستمرار العقوبات الخارجية، أفرزت أغلبيةٍ سوريةٍ مفقرة ومهمشة، وهي تتعدى الـ 90 بالمائة، وتعيش على المساعدات الخارجية، الأممية والأهلية.
إن احتكار الاقتصاد والاستمرار بخصخصته، ولبرلته، وغياب القدرة على الإصلاح في الشأن السياسي وأمور السلطة، سيمنع التطبيع معه، وهو ما لاحظناه من تأزّمٍ في العلاقات مع الأردن مؤخراً، وتراجعها مع دولة الإمارات. يضاف إلى كل ذلك الحرب الروسية على أوكرانيا، و”الانسحاب” الجزئي للروس من سوريا، وخلو الساحة لإيران؛ أقول كلّها أسباب تُغلِق الباب للإصلاح بكل أشكاله، وتفتح أبواب التأزّم أكثر فأكثر، وعلى كافة المستويات.
الأثرياء الجدّد، هم وكلاء لأقطاب السلطة، ولا يملكون أيّة استقلالية أو أفكار عن ضرورة التغيير، وهناك أمراء حرب ومحتكرون للثروة في مناطق قسد وهيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لتركيا، وبالتالي تتجه سوريا نحو تأزّمٍ شديدٍ، وربما نحو انفجارات اجتماعية جديدة، قد تضع نهاية للنظام ذاته وللأمراء المستقلين عنه. إن الوضع المتأزّم هذا مفتوح على كافة أشكال التغيير، الداخلية والخارجية؛ ولا يوقف ذلك، غياب أيّة مؤشراتٍ ظاهرةٍ نحو التغيير.
ليفانت
هذه المقالة تستند في فقراتها الأولى إلى دراسة، صدرت مؤخراً، وهي “أثرياء الحرب الجدد محل قدامى رجال الأعمال في سوريا”، للكاتب وجيه حداد، والمنشورة في موقع حرمون.
———————
أثرياء الحرب الجدد محل قدامى رجال الأعمال في سورية/ وجيه حداد
تدخل هذه الدراسة إلى عالم أمراء الحرب الذين تشكّلوا في مناطق النظام وبرعايته، خلال سنوات الحرب، فكوّنوا ثروات هائلة، وملؤوا فراغات مالية تشكلت بفعل الظروف العامة، وتدرّجوا صعودًا إلى قمّة المشهد الاقتصادي، فباتوا أكثر وجوه الاقتصاد السوري ورموزه فاعلية، وأكثرهم تعبيرًا عن المشهد الاقتصادي الراهن وعن السياسات الاقتصادية المتبعة.
تحددت غايات البحث من منطلق الإجابة عن الأسئلة التالية: ما الظروف التي مهّدت لظهورهم؟ وما آليات تشكلهم؟ وما منابتهم الاجتماعية والاقتصادية والأمنية؟ وما مدى ارتباط ثرائهم السريع بكلٍّ من الظرف الموضوعي والتدخلات السياسية والأمنية الفاعلة؟ ومن هم أبرز أثرياء الحرب، بالأسماء، طبقًا لآليّات تشكلهم ومنابتهم الهجينة ومقدار نفوذهم ومدى ثرواتهم وجهة ارتباطاتهم الإقليمية أو المحلية؟
وسعى البحث للإجابة عن الأسئلة التي تشير إلى علاقة دور النخبة الحاكمة بأماكن ولادة أمراء الحرب الجدد، وإلى دوافعها السياسية والاقتصادية لاحتضانهم وتعويمهم، كبديل عن أذرعها الاقتصادية القديمة، من خلال تتبع مسارات صعودهم من خط النشوء، إلى قيادة قاطرة الاقتصاد السوري، على حساب النخب القديمة التي وجدت نفسها بين التهميش والإلغاء. وحاول البحث رصد التداعيات الاقتصادية العامة الناجمة عن هذه التحولات، على مستوى السياسات الاقتصادية المتبعة، وعلى الواقع المعيشي الكارثي الناجم عنها.
هدف البحث، من إلقاء الضوء على هذه الظاهرة ورصدها وتحليلها، هو فهم ظروفها وقراءة تداعياتها على الواقع السوري، بإحاطة أكثر اتساعًا، إذ سعى لكشف الحقائق، بالأسماء والتفاصيل والوقائع، والدخول إلى جوانب لم تتطرق إليها الدراسات السابقة التي أضاءت زوايا محددة لعالم أثرياء الحرب الجدد في سورية.
لقد فرضت طبيعة الظاهرة، بتفاعلاتها المتحركة في المشهد السوري المعقّد ونظام المعلومات المغلق والكابح لتمرير الوثائق والبيانات الرسمية الكافية والدقيقة، اتّباع مزيج مركّب من القراءة الوصفية التحليلية، والاستقرائية، بغية رصد الظاهرة ومتغيراتها ومآلاتها في الواقع السوري الراهن، حيث انطلقت الدراسة من رصد تداعيات التحوّل السريع لاقتصاد الحرب في سورية، بعد عام 2011، وما صاحبه من فقدان التحكم المركزي في الاقتصاد السوري، ومن نشوء ديناميات اقتصادية مرتبطة بالسياق العنفي، وصولًا إلى تحوّل التربّح المالي إلى هدف رئيس من أهداف الحرب، وعامل من عوامل استمرارها.
لقد سمحت الديناميات الجديدة لفئةٍ من أشخاص هامشيين، من القاعَين الاقتصادي والاجتماعي، بمراكمة ثروات هائلة، عبر استغلال ظروف الحرب وتداعياتها، لتحتلّ تلك الفئة -بالتدريج- واجهة القيادة المالية، على حساب النخب القديمة (بشقيها التقليدي تاريخيًا، والشق المتكون بعد عام 2000)، التي شكّلت لزمن طويل الوجه الاقتصادي للنظام، وبدا أنها غير قابلة للاستبدال أو الإزاحة، بوصفها الامتداد العضوي والذراع المالي الأوحد للنظام، أمثال رامي مخلوف وعماد غريواتي ومحمد حمشو.
توضيح
بسبب التكتم الشديد من قبل الدوائر الحكومية السورية، وتعذر الحصول على معلومات موثقة وفيرة تساعد في بناء دراسة موثقة أصولًا، وعدم وجود دراسات سابقة حول الموضوع، فقد تم بناء هذه الدراسة من خلال معلومات موثقة من ناحية، ومن ناحية أخرى معلومات ميدانية من أشخاص يقيمون في سورية، ويراقبون ما يجري، إضافة لمقالات كثيرة تم نشرها في مواقع إلكترونية عديدة.
يمكنكم قراءة البحث كاملًا بالضغط على علامة التحميل