مراجعات الكتب

الألبان الدمشقيون.. سيرة تغريبة من القرن العشرين/ علي سفر

يعرف السوريون في وعيهم العام الراهن أنهم لم يكونوا، ولم يأتوا من قماشة واحدة، إنهم متعددو الأصول، رغم اعتدادهم بالقوميات الأساسية التي تشكل انتماءاتهم الحاضرة. لكن السوري يشعر، وهو يَطلِعُ على أي بحث أو كتاب يتخصص في القوميات، أو الجماعات المقيمة بقربه، أنه يمارس تلصصاً على بيت جاره!

لقد مضى زمن طويل على الجميع، وهم يمحون وجوههم القومية أو الدينية أو الطائفية، من أجل ألا يصيبهم أحد بالشك في انتمائهم! لقد كان المطلوب دائماً أن يقوم المرء بنبذ الانتماء الأصغر لصالح الأكبر، إلى درجة الإنكار. الشعار الذي يردده طلبة المدارس في الاجتماع الصباحي عن “الأمة العربية الواحدة”، يعني قبل أي شيء، أنك مجبر على ارتداء قميصٍ فضفاض، أو ضيق، بألوان لا تعجبك، وأن تبتسم في وجه من يراك، كي يقتنع بأنك مقتنع بما ترتدي! وفي زمن القسر البعثي، الذي امتد حتى اليوم 59 سنة، سيتغير معنى الانتماء، فبدلاً من أن يرى الكل نفسه -أياً كان موقعه- في الشخصية الواحدة، سيتكشف الواقع، ومع الهزات العنيفة، عن شخصيات متعارضة، يجمعها حزام قمعي، ما إن ارتخى، حتى وجدت نفسها تطلب أن تحوز مساحة تناسبها، وربما تطمع في المزيد…

يحاول الباحث محمد م.الأرناؤوط في كتابه الجديد “هجرة الألبان إلى دمشق في القرن العشرين وإسهامهم في الحياة الثقافية”(*)، الصادر قبل أيام، وضع خريطة لم يقرأ تفاصيلها أحد من قبل، ترسم المسارات التي خاضها المهاجرون الألبان بعد قدومهم إلى دمشق، هرباً من القمع الذي مورس عليها في ألبانيا أو كوسوفو. نعم، يحتاج الترسخ في أي مكان جديد، إلى خرائط تدل الغرباء، إلى أفضل سبل الحصول على الأمان وعلى الطمأنينة، وأيضاً القدرة على أن يكونوا فاعلين في المجتمع المضيف لهم. لكن المفارقة التي يكشفها في تتبعه لأثر الخطوات الأولى، أن الصيغة الراهنة في التعاطي مع الآخر الغريب، والتي لا تبدو مُرحّبة أو سعيدة بقدومه، لم تكن ممكنة في الشام. لقد جاء هؤلاء إلى الشام من بوابة هي أكبر من أي انتماء يدعيه أحد، ويحاول من خلاله تملك مفاتيحها، فيحاول إغلاقها او فتحها بمزاجه أو وفق مصالحه.

دمشق الشام (شام شريف) هي المدينة المقدسة، التي جعل الإسلام لجميع المسلمين الحق في أن يأتوا إليها وأن يعيشوا فيها، بالتجاور مع سكانها من المسيحيين واليهود. وبحسب المؤلف، فإن الوافدين الجدد، كما غيرهم، فروا من القمع وفرض القوانين والأنظمة عبر الاستبداد. ففي العام 1920 “جاؤوا دمشق بدوافع دينية احتجاجاً على الإصلاحات التي بدأها حاكم ألبانيا الجديد (أحمد زوغو)، وأرست قوانين جديدة مأخوذة من الدول الأوروبية، بدلاً من الحكم بأحكام الشريعة الذي استمر حتى نهاية الحكم العثماني”. لكنهم لم يفرضوا أنفسهم كحالة محض قومية، بل إن تعاطيهم مع المجتمع “الشامي” كان يذهب نحو الاندماج، حتى في تمثل الصراع المتقد آنذاك بين التيار السلفي (المعممون الجدد) وبين التيار المدني (الأفندية الجدد). لكن من ناحية الخطوات الفعلية على الأرض، يلاحظ المؤلف أن الاتجاه العام يميل للاتجاه المحافظ/السفلي، ومع تشكيل أول جمعية ألبانية في دمشق العام 1949 أراد من هذه الجمعية أن تكون مجرد “جمعية خيرية لمساعدة فقراء الأرناؤوط”، وألا تكون جمعية تحافظ على الهوية الألبانية وتحرص على تعليم اللغة للجيل الجديد.

النموذج الألباني الذي بات راسخاً في حضوره الاجتماعي والاقتصادي والديني والثقافي، حمل إلى الشوام، فئة من الرجال الأتقياء، الذين يتنافسون في كتابة وتأليف القصائد في الرسول الكريم، كي تنشد في الموالد، وأيضاً أجيالاً لاحقة، تأصل حضورها في المدينة، ضمن سياق تأسيس لم يقم من خلال الانتماء، بل من خلال الانفتاح على الفضاء العام. سيرث الأبناء والأحفاد أسماء الآباء، لكنهم سيصبحون شخصيات أخرى مختلفة ومتفردة، تساهم في العمل المجتمعي والثقافي الدمشقي، فتبدأ سلالة الكتّاب والشعراء باللغة العربية بالظهور خارج الإطار الديني التقليدي، مثل مصطفى خلقي (1851-1916) ومعروف الأرناؤوط (1980-1949) وعلي خلقي(1924-1997) وعبد القادر الأرناؤوط (1936-1992).

وكما كل من سكنوا الشام من الجماعات، فحملت الأحياء أسماء قومياتهم أو دياناتهم، وحتى طوائفهم، سيصبح للألبان حيهم الخاص إلى الشمال من شارع بغداد، حول جامع الأرناؤوط، في منطقة الديوانية.

ومن أحد بيوت الحي، سيظهر الفنان التشكيلي والشاعر عبد القادر أرناؤوط (1936-1992) الذي يعتبر من رواد الفن التشكيلي السوري، لا سيما في جانب الاتصالات البصرية؛ التصميم الإعلاني والعمل على الحروفيات، وأيضاً شقيقته عائشة، الشاعرة المبرزة في المشهد الشعري السوري الراهن، والتي تعيش في باريس، وأيضاً ابن عمهما بركات لطيف، الذي اشتهر بديوانه “أناشيد سائق القطار” المطبوع في وزارة الثقافة العام 1979.

يأخذ الكتاب القراء في جولة واسعة في التواريخ الشخصية للنخبة الألبانية الفاعلة في الثقافة العربية، من دون مغالاة في تقدير قيمة إسهاماتها، فهذا دور الفاعلين من النقاد والباحثين في كل مجال ونوع ثقافي أو فني. وهو بالإضافة إلى ذلك، يجمع الوثائق الأهم، التي توضح فعاليات الجماعة القومية التي صارت سوريّة، بكل ما تعنيه حمولة الانتماء من معاناة وضرائب.

تتميز دراسات محمد م.الأرناؤوط، لا سيما منها تلك الخاصة بالتاريخ السوري بشكل عام، بالموضوعية وبالمواظبة على تحري التفاصيل غير المتاحة، أو تلك التي غطت الأيام على تفاصيلها، وألقت الغبار على ملامحها. وهنا يمكن الإشارة إلى كتاب مهم آخر صدر للباحث، حمل عنوان “من الحكومة إلى الدولة.. تجربة الحكومة العربية في دمشق 1918-1920” وقد صدر قبل عامين بمناسبة الذكرى المئوية للدولة السورية الأولى.

(*) هجرة الألبان إلى دمشق في القرن العشرين وإسهامهم في الحياة الثقافية لمحمد م.الأرناؤوط. إصدار: الآن ناشرون وموزعون- عمان، 2022.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى