الخوف يمدّ لسانه في المرآة/ عبدالله الحريري
لعلّني لا أكذب حين أقول لكم إنني لم أذق هناءة النوم منذ إحدى عشرة سنة، لذلك يلبسني الخمول ويغلبني النعاس، وتداهمني نوبات هلع كلما أمعنت التركيز في موضوع معيّن كما يحصل معي الآن.
استمرأتُ إشغال نفسي بأشياء تافهة، كالبحث عن مقاطع إباحية جديدة أو مشاهدة واحد من قائمة أفلام أحفظها عن ظهر قلب مثل the sex tape أو the holiday، كما أفعل الآن أيضاً. لطالما ملت إلى طبيعيّة كاميرون دياز وجاذبيّتها المحتملة، بينما أرعبني سحر مونيكا بولوتشي وجموحها. لعلنّي، كفراشة حكيمة أو كنحلة حمقاء، كنت أخشى الاقتراب من بارعات الجمال على الرغم من شغفي بهنّ، فالأشياء القريبة من الكمال مخيفة بطبعها، كان علي الهروب منها دائماً.
يبدو الأمر مثل شارة مسلسل قديم: أرتعب من كوم الحجارة قرب باب الدار، أركض إلى حضن أمي كلما سمعت صوت طائرة مروحية. أبكي نصف عار في حضن زوجة أبي العاقر (أمي الثانية) فتلقمني ثديها الأيسر، ثم ترخيني على الأرض كبزّاق، بصعقة كهربائية غير رحيمة يعلّمني كابل الغسالة المكشوف الحذر على طريقة المدفأة وإبريق الشاي، وبلسعة في الشفة العليا يستقبلني دبّور السويداء أثناء ذهابي مع أبي لزيارة صديق له هناك. وفي طريق عودتي من دمشق مع أخي الأكبر تفتّت حافة طنجرة كبيرة مقدمة ساقي في باص “سكانيا” مكتظ، لكمة على عيني اليمنى عشية تجاوزي امتحانات شهادة المرحلة الإعدادية مظفّراً، والفتاة التي ظننتها، لشدّة سذاجتي، ستكافئني بقبلة على الأقلّ، علّقتْ صفعة على وجهي حين كتبت لها: منّي إليك بكلّ صبح قبلة/خمريّة كشقائق النّعمان!
ثم كسر في عظام اليد إثر مشاجرة في الجامعة. كأن شيئاً ما منذ الطفولة يقول لي: “أنت جبان. يجب أن تقتنع بذلك، وعليك أن تخاف من كل شيء! ابقَ كما أنت كرةً من اللحم والعظم، كُل واشرب ونم. ثم مُت، كأن شيئاً لم يكن”. أورثني كل ذلك خوفاً شديداً من الظلمة والطرق الطويلة والبيوت المهجورة والمدن الجديدة والنوم وحيداً والقبلة/الصفعة، وضيّع مني فرصاً كثيرة للحبّ والنجاح.
المواجهة الحتميّة
هكذا عشت كائناً كروياً طرياً أرتدّ عن أي شيء ألامسه، أسمّي الركلة طيراناً والسقوط نجاةً والإهمال استراحة ما بين الأشواط، لا أتعب، لا أملّ، لا أغضب في إقرار وإذعان وقبول شروط توأمي السيامي: الخوف! إلى أن نفخ أحد ما في الصافرة، ورفع البطاقة الحمراء في وجهي أو وجهه. كان على أحدنا مغادرة اللعبة، ولا أعرف من الذي خرج، لكنّه أخذ يطاردني منذ انقلبت عليه في دوما يوم الخامس والعشرين من شهر آذار/مارس عام 2011، وأخذت أهرب منه كعادتي في الهروب من كل شيء.
في المعتقل كان يلتصق بي ويمتصّ رباطة جأشي كالعلقة حتى كدت أركن إليه، فحبسته في جراب الذاكرة وفي بيوض القمل وكهوف الجرب تحت جلدي، يحكّني كلما رنّت خطوات السجّان في بهو الموت أو قعقع مزلاج الباب الحديديّ أو لعلع النداء باسمي الثلاثي مؤذناً بجولة جديدة في جهنم التحقيق. هكذا خرجنا، أنا وخوفي، من أقبية المخابرات السورية عدواً لا ينفصل عن عدوّه. حاولت اغتياله بمزيل الشعر وشامبو سنان وبنزيل البنزوات وكانت تنقذه نشرات الأخبار وصفحات الفيسبوك. وحين طردته من البيت أعاده بعد منتصف الليل ممسكاً بيده عنصر مخابرات متجهم، وأمرني أن أرعاه جيداً.
بعد أيام قليلة زرع حقل خوف جديد على بعد خمسين متراً من باب البيت، بأربعة براميل مطلية بالعلم الوطني وسبعة عناصر وصفّ ضابطٍ ضغطوا حنجرة الشارع وركّبوا عداداً لخطواتنا. فأخذ خوفي يكبر ويتضخم حتى أصبح عملاقاً لا يتسع الباب لطرده، ولا أقوى على خنقه، نما كالعلّيق والأشنيات وامتدّ إلى رأسي ولساني وترك آثاره على شفتي المرتعشتين دائماً، يخرج من معجون الأسنان، يمد لسانه في المرآة، يرقص في دخان السجائر، يتسلق الجدران ويغطّي الأرضيات، فأوصدتْ أبواب الشرفات وتكاثرت الأقفال على ظهر الباب الرئيسي.
لم يساعد الإسراف في شرب الكحول ولا الحبيبة ولا كثرة الأصدقاء في تجاهله، كنت أداريه أمامهم كالفضيحة، وكانوا يغضّون الطّرف عنه. كانت قصص نجاتنا المكررة في ذهابنا وإيابنا بين دمشق وريفها قد صارتْ تسلية السهرات فنرفع لها الأنخاب عالياً كأننا لم نكن على وشك الموت، أما أنا فكان خوفي يرفع نخبه قبالتي ساخراً: “أنت تفكر بالهروب مني مجدداً، صحيح؟”.
النّار لا الرّمضاء!
لم يخب ظنّ خوفي، لكنّ الهروب هذه المرة لم يكن بدافع الجبن أو بقصد النجاة، بل كان هروب مواجهة، فالشهور التي قضيتها في أقبية المخابرات الجويّة حرّضتني على ذلك بقدر ما أثارت رعبي من الاعتقال مرة أخرى. لذلك لم يكن هنالك بدّ من خطّ واضح يفصل بيني وبين وحش الدولة/المعتقل كعدوين لا مجال للخوف أو التردد في تواجههما الذي بات حقيقةً دامغة سيجارة واحدة على الشرفة التي أوصد بابها، وأسدلت ستارتها لأسابيع كانت كافيةً لأعرف أن وجودي في ذلك المكان خاطئ. كانت طائرة مروحية قد ألقتْ لغماً بحرياً على بعد عدة كيلومترات فوق حيّ الحجر الأسود، وخلّفت سحابة سوداء، والسيارات تزدحم في الطريق بين بستان الدور وحيّ الصناعة بسبب التفتيش الدقيق على حاجز المخابرات القريب.
في تلك اللحظة أشخص خوفي نفسه أمامي للمرة الأولى، واتفقنا، كتوأمين، على أن نقضي آخر ليلة معاً دون عراك. شربنا أنا ووائل سعد الدين وأنس عمارة الكثيرَ من العرق وشاركتنا ريم، صاحبة البيت الجميلة بعض الكؤوس. كانت ليلةً للغناء والحبّ والوداع لم نصحُ منها إلّا على وقع انفجار كبير وخبر اندلاع المعارك بين الثوار وقوات النظام في مخيم اليرموك. خلال نصف ساعة فقط كنا قد ركبنا سيارة وائل متجهين إلى دائرة النار.
كنت قد ودعت ريم وأخبرتها أن غيابي لن يطول. لكن خوفي ركب معي السيارة التي عبرت شوارع حي الزاهرة الخاوية، فأمسكني من يدي وقال لي: “أنت تذهب إلى مقبرة يا أخي، ابقَ معي!”. فضغطت على يده بحرارة ولم أنبس ببنت شفة حتى وصلنا إلى الحارة المقابلة لجامع الماجد، حيث سنعبر خلال مئة متر مكتظة بعناصر الجبهة الشعبية القيادة العامة(فصيل فلسطينيّ مسلّح أسسهُ أحمد جبريل، وأُعلِنَ عنه عام 1965. اتّخذ صفّ النظام السوري بعد اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011) المدججين بالسلاح، باتجاه مخيم اليرموك الذي بدأت رحى حرب تدور فيه دون هوادة، ولن تتوقف طيلة سنوات آتية، فشد توأمي السّياميّ على يدي: “سيطلقون عليكم النار”.
نفضت يدي من يده وكانت أنهار الأدرينالين الحمراء تندفع إلى قمة رأسي: “اكبس وائل”. وما هي إلا لحظات سريعة حتّى طارت السيارة فوق المنصّف عابرة تحت قوس شارع اليرموك؛ فسحة وجيزة خارج الزمن، برزخ بين الحياة ومرآتها. منذ ذلك الحين وأنا لا أهرب من شيء، لكني أشعر بالوحدة، ففي الكهوف المهجورة تحت جلدي سرير فارغ لتوأم سياميّ تركته منذ آخر 2012 في منتصف الحارة المقابلة لجامع الماجد قبالة مخيم اليرموك، لقد اختار صفه في تلك الحرب، وواجهني كما واجهته. صحيح أنني تعرفت على الكثير من أشباهه كالخوف من قذائف الهاون، ومن البراميل المتفجرة، ومن صوت الطائرة، والخوف من قطع رأسي، ومن العبوات الناسفة، لكنهم لم يملؤوا فراغه؛ إنه طاعن في الحليب الأول والقمح الأول ووصايا الأمهات وذعر الآباء من نضج أبنائهم؛ هو آذان الحيطان ومدرسة الهمس، وبيننا وبينه كسوريين خبز وملح.
أما الخوف الذي تنجبه الحرب فيثقب الرأس ويقلق القلب ويقض المضجع ولا يجمعنا به إلا دبق الدم ووحل الذاكرة، الذاكرة المثقلة برأس أنس المثقوب في قبر مجهول، وبالحبيبة البعيدة، والأصدقاء التائهين بين عرى قميص الأرض.
لذلك، لكلّ ذلك، صدقوني حين أقول لكم إنني لم أذق هناءة النوم منذ إحدى عشرة سنة، وتداهمني نوبات هلع كلما أمعنت التركيز في موضوع معين كما يحصل معي الآن.
صورة المقال الرئيسية من تصميم قمر قباني.
رصيف 22