الغش المدرسي: السيرة والمأسسة/ نبيل سليمان
قال أبو علاء المعري: “قد عمّنا الغشُ وأزرى بنا/ في زمنٍ أعوز فيه الخصوصُ”.
وقال أيضًا: “يجرّنّ الذيولَ على المخازي/ وقد مُلئتْ من الغش الجيوبُ”.
***
سبعة عشر عامًا قضيتها على مقاعد الدراسة لم أسمع خلالها كلمة (الغش) و(النقل) أو (التنقيل) في الامتحانات.
من عام 1950 إلى عام 1967 تنقلت بين المدارس الابتدائية، من (عامودا) الكردية في الشمال السوري إلى (عين ظاط) الشركسية في سوار مدينة حمص وسط سورية، إلى (حديدة) في سوار حمص أيضًا، ولكن على الحدود مع لبنان، إلى إعداديات تلكلخ، فالدريكيش، فطرطوس، إلى الثانوية الصناعية في اللاذقية، إلى جامعة دمشق، ولم أسمع في أي منها بكلمة النقل أو التنقيل أو الغش. وبموازاة الدراسة الجامعية عملت معلمًا في المدرسة الابتدائية في قريتي من ريف جبلة، ومدرسًا للغة العربية في إعدادية الجزائر في القطيلبية من ريف جبلة أيضًا، ثم، بعد الجامعة، عملت مدرسًا في مدينة الرقة، حيث واجهت الغش في الامتحانات وجهًا لوجه لأول مرة عام 1971، عندما كنت مديرًا لثانوية الرشيد.
يخطفني هذا الشريط كل صباح في موسم الامتحانات، حين أتعمد المرور أمام مراكز الامتحان في مدارس أحياء اللاذقية، حيث أقيم. وفي كل صباح يعصف بي تجمهرُ وانتشار مئات الأمهات وعشرات الآباء حول كل مركز: النساء يجلسن على أحجار الأرصفة الخفيضة، وقلة قليلة منهن اصطحبن كراسي النزهات، منهن من تدخن، أو هي ذاهلة، ومنهن من أسمع خفق قلبها أو لهْج دعائها، ومنهن من تتدافع أحاديثهن، بينما الآباء واقفين خلف السور الذي يحرس بابه وينتصب قبالته ويتمشّى على رصيفه مسلحون من عناصر مكافحة الشغب ومن الشرطة.
ثمة، حيث نقلتُ رياضة المشي الصباحية، تبرق كل سنة تلك الليلة التي أيقظني بعد منتصفها رفعت كرزون، مدرس اللغة العربية القادم من حماة إلى الرقة، ورماني بلغزه: الأسئلة متسرّبة، وسلمني نسخة من الأوراق التي يخفيها مغلف في خزانتي التي أحمل مفتاحها.
مسرنمًا سرت مع زميلي إلى بيت مدرس العلوم الدمشقي صفوح الرجال نائب المدير، فإلى الثانوية، حيث وضع كرزون أسئلة جديدة، وقمنا بطباعتها اليدوية، ورابطنا في الإدارة حتى موعد الامتحان: لم نغف.
بعد الامتحان، ومن الطالب الذي جاء إلى كرزون بورقة الأسئلة المسرّبة، إلى الوحيد الذي طبع الأسئلة في الإدارة وهو المستخدم الخاص بالمدير، توالى التحقيق والتهديد والترهيب والتعنيف، من نائب المدير ومني، إلى أن حصلنا على الاعتراف الخطي. وقد فصلت الطالب من الثانوية – تعسفيًا بالتأكيد – وتولت مديرية التربية أمر المستخدم. هل هذا هو إذًا الغش المدرسي؟
ببلاهة، وغير مصدق، سألت وأجبت، ثم نسيت، حتى ليمكنني أن أقسم أني لم أسمع من قبل بكلمة النقل أو التنقيل أو الغش المدرسي أو الغش في الامتحانات!
من موسم إلى موسم كنت أستمع إلى النوادر ببلاهة، وغير مصدق أنّ ثمة من يرابط قبالة المركز، مشهرًا المايكروفون، وصوته يجلجل بالإجابات من أجل طالب أو اثنين أو عشرة تحوص أقفيتهم على المقاعد، وكرمى لعيونهم يكرم مرج عيون، أي يفيد جميع الطلاب.
من موسم إلى موسم صارت تحاصرني الأخبار والحكايات: ثمة من (يشتري) مدير المركز، و/أو رئيس القاعة، و/أو المراقبين والمراقبات، ولكل سعرٍ، والسعر أيضًا حسب المادة، وسعر الجملة غير سعر المفرق. وهذا طالب يحتجّ على الشغب والفوضى اللذين يشيعهما رئيس القاعة والمراقبون في تنقيلهم الإجابات الصحيحة، فيكون نصيب الطالب الذي يحتج طلبًا للهدوء وليتمكن من التركيز – أي يرفض الغش – السخريةَ والتهديدَ بطرده إن لم يخرس.
تتطور أساليب وأدوات الغش المدرسي من موسم إلى موسم، مسابقةً الحداثة وما بعدها. يختفي مكبر الصوت وتحل محله الموبايلات وجهاز البثّ من الخارج.
لجهاز البث – أي للعصابة المعلومة المجهولة – من يوصل إليها ورقة الأسئلة ربما قبل أي طالب. وللعصابة كادر من الأساتذة الذين يتولون الإجابة على الأسئلة بغمضة عين، وكلٌّ بحسبان، والويل لمن يسمي شخصًا أو مكانًا. ثم تتطور الأساليب وتبدأ المأْسسة شفوية، والويل لمن تخطئ حافظته أو يخطئ لسانه. ويبلغ الأمر أن يحلّ بديلٌ محل الطالب الممتحَن، لا فرق بين مرحلة التعليم الأساسي والمرحلة الجامعية، حتى إذا بلغ السيل الزبى، لحقت وزارة التربية بمن سبقها في (بلاد العرب أوطاني)، وبدأت لعبة قطع الإنترنت أثناء الامتحان، وليس ذلك اعترافًا بالداء، ولا اعترافًا بالعجز عن الدواء، فمن يحزر إذًا ماذا يكون؟
من مدير ثانوية الرشيد في الرقة انتقلت إلى حلب مدرسًا في ثانويات عبد المنعم رياض، والحسن بن الهيثم، وأبي العلاء المعري، ومعهد حلب العلمي، قبل أن يستقر بي المقام في دار المعلمين. وفي امتحانات تلك السنة (1978) جاء من يذكرني بالغش المدرسي بعدما تمكّن مني نسيان ما كان في الرقة. عندما كُلّفت برئاسة قاعة في امتحانات الثانوية العامة، في أعرق ثانويات حلب: ثانوية المأمون، ولم تتأخر المفاجأة. شاهدته بأم عيني ينقل من قصاصته. ببلاهة، وغير مصدق، شاهدته، والتقت نظراتنا مرات، ويبدو أن ذلك ما شجعه على أن يخرج من جيبه قصاصة أخرى، وتابع النقل، فصحوت، وطرت إليه، انتزعت منه القصاصتين وورقة الامتحان، ودفعته إلى خارج القاعة، وكتبت تقريرًا بالواقعة حسب الأصول.
مساءً حضر الطالب إلى بيتي خلف زميل في دار المعلمين سيصير كاتبًا لقصص الأطفال وعضوًا في مجلس الشعب وما كنت أعلم أنه بعثي، وأنه كردي من قرية (معبطلي) الكردية العلوية، هو والطالب الفقير الذي يشفع له.
لكنني قدمت التقرير وسبق السيف العدل: قلت للرجل وأنا أحاول أن أبلع ما كنت أجهل: ثمة أكراد علويون إذًا!.
التقرير ينتظر أن تتكرم بسحبه: قال، وغمز، وأضاف أن التقرير مع الأستاذ حسين جوهر مدير التربية (الفلسطيني، البعثي) بانتظار مكرمتي التي انفجرت بما جرّ عليّ غضب من أعلم ومن لا أعلم.
هذه المرة لم أنس الغش المدرسي، بل بات كابوسًا يباغتني كلما حلّ موسم الامتحانات، من حلب إلى اللاذقية التي قضيت فيها سنة واحدة في دار المعلمات، تلاها قرار (تبعيث التعليم) عام 1979، أي أن يكون الكادر التعليمي والإداري بعثيًا. وبدأ تطبيق التبعيث بدور المعلمين والمعلمات، فَنقِلتُ إلى التعليم الثانوي، ونُقِل الياس مرقص إلى التعليم الإعدادي، لأننا لسنا بعثيين، وكان ردي بعد أسبوع أن ودعت الوظيفة والتعليم، كما ودعها الياس مرقص بعد شهور.
في العام الماضي هربت إلى بيتي الريفي من موسم الامتحان قبل أن ينتصف. وحاولت أن أصمّ أذني عن السّماعة الأصغر من حبة العدس، والتي لا تضر بالأذن، لكنها إن دخلت فلن تخرج إلا بالجراحة. سماعة الغش هذه، أي سماعة النجاح، لاحقتني أخبارها إلى القرية. وفي غفلة مني سأكتشف أنني كنت أهرب من موسم الامتحانات السوري إلى مواسمه العربية التي تتدافر خيراتها، فإذا بالكمامة في الجزائر تصير روشتة، وهذا اسم الوصفة الطبية عندنا، وإذا بالجزائر سبقتنا إلى قطع الإنترنت أثناء الامتحان، لكنني لا أظن أنها، هي أو سواها، قد سبقتنا إلى (تشفير) الأسئلة في وزارة التربية، درءًا للتسريب من العاصمة إلى المحافظات. ومن صباح إلى مساء في العام الماضي، إلى صباح ومساء في هذا العام أيضًا، أخذ الحابل يختلط بالنابل، فهذا إعلان في العراق يعود إلى عام 2016 عن بيع سماعات النجاح، وهذا إعلان في المغرب عن “أحدث تقنيات الغش في الامتحان” فالحروز (أي الروشتات) صارت موديلًا قديمًا ومتخلفًا. وهذا طالب ينقل قيوده من دمشق إلى دير الزور، ليقدم الامتحان فيها، أملًا بالتراخي، فذوو هذا الطالب غير قادرين على أن يدفعوا الملايين ثمنًا للنجاح.
يُقال، والعهدة على الرواة الذين يتكاثرون في مواسم الامتحانات، ويتضاعف تهاونهم في التوثيق، أن الغش ما بعد الحداثي بلغ في مصر أن الكتابة المثلى صارت بقلم لا تظهر كتابته إلا بعون الليزر. وفي سورية يُقال إن سيارة كانت تنقل مراقبات إلى مركز الامتحان في ريف دمشق، قد قُذفت بالحجارة، لأن المراقبات سافرات. كما قيل إن طالبًا اتهم مراقبةً بالطائفية لأنها صادرت منه الروشتة. ويتردد في موسم الامتحانات من يدعو المراقبين إلى التساهل، ما دام أبناء كبار التجار والمسؤولين يحضرون بسيارات المرسيدس، وأمور نجاحهم المتفوق منظمة تنظيمًا محكمًا. أما معجزتنا الكبرى في هذا الموسم فكانت في تركيب خمسة آلاف كاميرا، ذلك أن الطالب إذا ما ابتلع الروشتة فسوف تفقد الرقابة الصارمة دليل الغش. وقد جرّت معجزة الكاميرات المطالبة بتركيب كاميرات في مؤسسات الوزارة، كما أطلقت السؤال عما إذا كانت الكاميرا التربوية مثل كاميرا الشرطي المحمولة التي تراقب سرعة السيارات، حيث يستطيع الشرطي أن يحذف المخالفة، عملًا بأسلوب آخر من الغش المدرسي.
لأهوّن الأمر على نفسي لهوت فترة قصيرة بخبر الأم الفرنسية التي حلّت محل ابنتها في الامتحان – يا للعار! – وبخبر الأستاذ الكندي الذي زوّر بطاقة طالب ليحل محله. والحق أن خبر جامعة ييل الأميركية الكبرى أذهلني، إذ كشفت الجامعة عن طرد طالبة تم قبولها بعدما دفع والداها رشوة: يا للعار!
لسببٍ ما، سئمت من الإلهيات، فانصرفت إلى غيرها، أعني إلى ما ينتظر الغش المدرسي من الردع القانوني، ظنًا مني أن الردع الأسري أو المجتمعي أو الأخلاقي أو القيمي بلا طائل. وقد سرّني للوهلة الأولى أن عقوبة ضرب المراقب أو تهديده هي الفصل من الجامعة في سورية، مثلها مثل عقوبة من تُضبط بحوزته أي أجهزة إلكترونية تساعد على الغش. وسرّني أن العقوبة في المغرب على تبادل معلومات شفوية أو كتابية في قاعات الامتحان أو استخدام أدوات إلكترونية… هي السجن من ستة أشهر إلى خمس سنوات مع الغرامة من 5000 إلى 10000درهم. وفي الجزائر يُعاقب من يقدم امتحانًا بدلًا من آخر بالسجن من خمس إلى عشر سنوات مع الغرامة من 500000 إلى مليون دينار، ومثلها عقوبة من يتورط في هذا الغش.
ولكن ما لي ولكل هذا؟ لماذا هذا الهرب إلى تلك البلاد؟ ماذا عن الغش في الأجزاء السورية الأخرى المستقلّة فقط عن سورية الأم أو سورية النظام أو.. سمّ كما تشاء؟
يبدو أنه لم يكن كافيًا ما هو عليه (التطبيع) مع الغش من كل لون، ولا (المأسسة) للغش من كل لون، فكان أمرًا مقضيًا أن يصل الغش المدرسي إلى الدرَك الذي نحن فيه.
***
قال أوس بن حجر يعيب قومًا: “مخلّفون، ويقضي الناس أمرهم/ غشُّ الأمانة صنبورٌ لصنبور”.
وقال صالح بن عبد القدوس: “قل للذي لست أدري من تلوّنه/ أنا صحٌّ، أم على غشٍ يداجيني؟”
وفي سفر المزامير نقرأ: “ماذا يعطيك، وماذا يزيد لك لسان الغش؟”.
ضفة ثالثة