منوعات

الفزع من الصورة… أن نحيا بنصف وجه ونصف قلب/ عمار المأمون

عام 1882، أي بعد عشرين عاماً على ظهور أول صورة مطبوعة، قام عالم الأحياء، وطبيب القلب، والمهتم بالطيران، الفرنسي إيتيان جولز ماري، بتطوير اختراع باسم “البندقية الكرونو-فوتوغرافية”، ولتسهيل وصفها يمكن القول إنها كاميرا على شكل بندقية (موجودة الآن في متحف الفنون والمهن في باريس)، الهدف منها رصد حركة الطيور والكلاب والحمير، والتقاط مجموعة من الصورة المتتالية التي تكشف بدقة كيف تتحرك أطراف الحيوانات حين تركض أو تطير.

لا يوجد تفسير مفاهيمي لاختيار جولز ماري شكل البندقيّة، حتى حين نقرأ عن مزايا هذا الاختراع، الذي يلتقط 12 صورة في الثانية، ويقلل زمن تعرض السطح الفضي الحساس للضوء، لا يتضح السبب. ما نعرفه أن جولز ماري كان يريد الاستغناء عن الطريقة التقليدية لمراقبة سلوك الحيوانات، والمقصود هنا رسم عدة اسكيتشات على دفتر صغير، يتحول لاحقاً إلى مرجع علمي.

لكنّ هناك تفسيراً أبسط؛ جولز ماري عاشق للصيد، وقرر استبدال البندقية بكاميرا، هكذا بكل سذاجة. أو ربما، إن أردنا التحذلق، كان هدف جولز ماري تغيير أسلوب استخدام البندقية من جهاز يضبط لحظة الاقتناص لتطبيق الموت، إلى جهاز يراكِم لحظات الاقتناص لرصد “الحياة” التي تتمثل بالحركة وأسلوب الانتقال، في محاولة لتفادي الخداع الذي يمارسه الدماغ على العين أو العكس. والمقصود: العملية التي يولد عبرها الدماغ الانطباع بانسيابية الحركة التي نراها هذه الخدعة تمنعنا من أن نرى الحصان في لحظة ما يطفو في الهواء وهو يركض .

الصور المرافقة لهذا الاختراع تؤكد الفرضية السابقة، هذه “الكاميرا” تستخدم كبندقية، يحملها جولز ماري، يضع أخمصها على كتفه، “قانصاً” سلسلة الصور التي يريد.

المفارقة في الحكاية السابقة تتمثل في التشابه بين وضعية الصيّاد والمصور، وكأن بينهما علاقة قديمة قِدَمَ اختراع الكاميرا، فمن يمتلك القدرة على “التصويب” ثم “الضغط” على الزناد/زر الغالق، يأسر للحظة جزءاً من روح موضوعه (هذه إحدى تفسيرات رولان بارت للتصوير، كل صورة تلتقط جزءاً من روح موضوعها)، وفي حالة جولز ماري هناك 12 لحظة للموت والتهام الروح.

المقارنة بين شكل البندقية التي تلتقط الصور والبندقية التي تقتل مخيفة، إذ يتفعّل داخلنا إحساس بالترويع، أي ذهاب العقل، والأهم، شلّ الحركة، (الترويع في لسان العرب هو الإنذار بالموت، وموضع الروع في القلب، وراع الشيء، أفزع، وراعت الفرس أي رفضت التحرك)، فلحظة السكون/الترويع هذه، أي لحظة القنص ولحظة التصوير، مشتركة بين الجهازين، ونتيجتها واحدة: موت أو صورة. إذاً هناك هنيهة يحضر فيها الموت، إن قصدنا البندقية فهي لحظة التقاط القناص للحركة المناسبة، تلك التي يضغط إثرها الزناد ليطبق الموت، وإن قصدنا الكاميرا، فالجيست Gest-، أو لحظة التموضع أمام العدسة (حتى تلك العفوية)، هي ذاتها التي يطبق فيها الموت الجزئي للموضوع المُصَوّر، إذ يُؤسر جزءاً من روحه في القمرة المظلمة للكاميرا التقليدية.

تغيّر شكل الكاميرا حالياً، لكنها احتفظت بقدرتها على التقاط لحظات الموت والتقاف أجزاء من الروح، الصورة مخيفة لهذا السبب، حتى لو كانت مهتزة وغير واضحة، ولا تتضح فيها الملامح، كأن نرى نصف وجه، أو شبه جسد. الملفت أن الصور الأقل دقة، غير الواضحة، تلك التي لا تظهر فيها الأجساد بكليتها، تمتلك نوعاً خاصاً من المصداقيّة حسب سوزان سونتاغ. هذه الصور علامات على الموت الحاضر والقريب ممن يظهر في الصورة ومن حامل الكاميرا على حد سواء. هذا النوع من الصور، يمكن وصفه بأنه أثر على ما لن يكون Ça ne sera plus، بعكس تعريف رولان بارت، حيث الصورة أثر على ما كان (Ça a été ).

الصورة التي يلتقطها القاتل بعكس صورة الخائف الواقع تحت الخطر؛ فالأولى واضحة، عالية الدقة، الضحية فيها ذات ملامح، يمكن تمييزها، لم ينتقص من جسدها شيء، هي صورة اقتنصها الواثق من نجاته، أي الصياد. أما صورة الضحية فمليئة بالخوف، هو يهرب من موته/صورته، أسير حصار لا فكاك منه. يتضح هذا الخوف حين نشاهد عمل الفنان الفلسطيني تيسير باتنجي الذي يحمل عنوان “تشويشات”. عدم وضوح صور والدته على الهاتف، يعكس الحصار الرقمي الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي على القاطنين في غزة إلى حد العجز عن الحصول على صورة ثابتة أو واضحة للوجه.

ذات “التشويش” يظهر في الأفلام التي تتناول الثورة السورية، المصور كموضوعه، خائف، يهرب من موت غير محدد المصدر، الكاميرا بيده مرتجة، هناك من يحدق به من بعيد بانتظار الضغط على الزناد، الدقة المنخفضة والارتجاج تعني أننا أمام موتين؛ إما موت جزء من الروح (الصورة)، أو موت كلي (الرصاصة).

هذا البعيد “يملك” وجهي!

أخبرني صديق، مخرج سينمائي سوري، أنجز عدة أفلام وثائقية عرضت في بعض أنحاء العالم، أنه وبعد أن عرض فيلمه الأخير مئات المرات في الصالات العالميّة والعربيّة، تلقى رسالة من أحدهم، يخبره فيها أنه القناص الذي يظهر بعيداً في إحدى الشاشات الهامشية في إحدى لقطات الفيلم. المفارقة أن هذا الشخص لم يعد قناصاً، والأهم، أنه كان الوحيد القادر على تمييز نفسه، ما أوقعه (أي القناص) في معضلة لخصها للمخرج بالتالي: “وجدت نفسي فجأة حياً أو في حياة أخرى في الفيلم حيث كنت قناصاً، بينا أنا الآن لم أعد كذلك، فأيهما أنا؟”.

المعضلة التي وقع فيها القناص السابق سببها أنه يمتلك حياتين الآن؛ واحدة في الصورة، تلك التي نتداولها ونراها، والتي يحولها البعض إلى أدلة قانونية، والثانية حياة واقعية، خارج الصورة، يتابع فيها ما تبقى من عمره ناسياً ما كان عليه. لكن ظهوره مرة أخرى أمام نفسه فعّل في داخله الرعب، وهذا ما يتلخص بالجملة الأخيرة التي قالها للمخرج: “ذاك الذي في فيلمك ليس أنا!”.

ما حصل مع القناص يفعّل الخوف التعاطفي، ففي زماننا يمكن لأي واحد منا أن يجد نفسه ضمن صورة أو فيلم دون أن يعلم. أصابتني العدوى بالطبع بعد سماع القصة، تتبعت عدة أفلام وثائقية متنوعة عن سوريا فوجدت نفسي في واحد منها، ضمن لقطة عامة سريعة، وفي خلفية الحدث، واقفاً من بعيد، لم أحتر، هذا أنا!

اعتراني الرعب. صحيح أنني الوحيد القادر على تمييز نفسي (لا يمكن ملاحقة المُنتج والمخرج قانونياً في هذه الحالة)، لكني كنت هناك في عمق الشاشة، هناك من “أخذ” مني شيئاً دون أدري أو أوافق، اقتنص لحماً وروحاً مني دون أن أسمح بذلك، وأتاح لهذا الجزء المُقتنص بأن يحيا خارجي تماماً.

الحياة الأخرى التي يكتسبها الفرد داخل الصورة لا تنتمي له. صاحب البندقية أو الكاميرا البندقية في الحالتين مسؤول عن هذا الانتقال، لكن صاحب الكاميرا سواءً كان يبحث عن حالة محددة، أو العكس تماماً، يصور/يطلق خبط عشواء، يصادر منا شيئاً، يمهد لاحتمال حياة لن نعيشها، ويؤكد موتاً لا نختبره مباشرة.

ضمن محاضرة أدائية عرضت لمرة واحدة في باريس بعنوان “الرمال في عيني“، قام الفنان اللبناني ربيع مروة بمناقشة فكرة مشابهة للحادثة السابقة، فأخبرنا كيف وجد صورته ضمن تسجيلات لا علاقة له بها ولم يوافق عليها،  لكن المثال الذي طرحه كان أشدّ رعباً، إذ وجد نفسه في واحد من الأفلام الدعائية التي كانت تبثها داعش. لا يمكن وصف الخوف والرعب الذي اعتراه بعد أن تواصلت معه المخابرات الألمانيّة، لذا، قرر اختراع جهاز يمنع أي أحد من التقاط صورته، جهاز يشوش صورته في حال التقطت. اختبر مروة هذا الجهاز أمامنا في العرض، فما إن رفعنا هواتفنا لنصوره، حتى انطفأت الأضواء، وغرقت الصالة في الظلام، وحين عادت الأضواء، اكتشفنا أن مروة رحل، ولم يره أحد بعد العرض.

يُقال إن التصوير لا يقدم تاريخاً لموضوعه، لكن يمكن القول إننا عبر هذا اللاتاريخ بإمكاننا رصد كرونولوجيا الفزع؛ صور لانهائية منتشرة في كل مكان لأشخاص أحياء وأموات وجدوا أنفسهم في عالم الصور دون إذنهم في الكثير من الأحيان، وكأن الحجرة المظلمة داخل الكاميرا بوابة نحو عالم أنصاف الأرواح المسروقة خلسةً وجهراً، عالم من الخائفين الذين فجأة وجدو أنفسهم “في الصورة”، حيوانات تركض، عصافير، مارّة في شارع مزدحم، أمّ تحاول الهرب من قناص، 40 شخصاً قتلوا ورُموا في حفرة، هم هناك في عالم لا عودة منه، هم ليسوا أمواتاً، بل أنصاف أحياء، ما يجمعهم هو الفزع، ومحاولة الإجابة عن سؤال: لماذا أنا هنا؟

في أثر النصف الضائع

يقال إنه في جوف الأرض، وفي جغرافيا قريبة من اليمن، يعيش كائن باسم «النسناس» يُظن أنه من الجن، يقول الشعر، ويتحدث العربية. يقول البعض إنه جنس من كائنات خلقت ناقصة أو مُسخت إثر غضب الربّ، لكن المشترك في الحكايات التي تتناول النسانيس، هو وصفها الجسدي، إذ لها نصف جسد، ونصف وجه، ونصف قلب، وذراع واحدة، وساق واحدة، يمشي الواحد منها قفزاً مُختبئاً عن الأعين، هذا ما يفسر اسمه «نص ناس»، أي النصف من كل ما في البشري، على الرغم من ذلك فإن النسانيس قادرون على الحركة بسرعة، وهذا يفسر ندرة من رأوهم، حتى بورخيس لم يقدم في معجم الكائنات المتخيلة ما هو جديد حولهم، ذات الأمر مع أطلس الوحوش لسيرجيو أكويندو.

مراجعة الأدبيات الإسلامية تعطينا صورة أوضح عن النسناس، وأصله، وحركته؛ فمثلاً: تقول بعض الروايات إن كلّهم ذكور ليس فيهم أناث، ولم يجعل الله فيهم شهوة النّساء، ولا حبّ الأولاد، ولا الحرص على المال، يقال أيضاً إنهم كائنات نورانيّة، مخلوقات قبل الإنسان، أي قبل آدم، يعيشون في الغابات إن غادروا جوف الأرض.

الملفت في شأن النسانيس أن البعض كان يصطادهم ويأكلهم، إذ نقرأ في “معجم البلدان” لـياقوت الحمويّ، أن قوماً خرجوا “لاقتناص” النسناس، فوجدوا ثلاثةً، فاصطادوا واحداً، واختبأ اثنان في “شجرة”، فتحدث أحدهم، قائلاً: “ما أحسن صمت هذا (قاصداً صديقه)”، فسمعه القوم وقاموا باصطياد الاثنين.

المرعب في الأخبار السابقة يتحرك في عدة مستويات؛ أولها أن النسانيس كائنات لا تعرف الشرّ حسب بعض الحكايات، أشبه بأرواح طهرانيّة تطفوا في العالم ركضاً. مع ذلك يقوم البعض بصيدها والتهامها، فبمجرد أن رصد القوم النسانيس حتى اصطادوها على الرغم من شكلها البشريّ ثم التهموها، لم يسألوهم عن أسمائهم، أو أعمارهم، بل لم يستغربوا منهم، وكأن صيد أحدهم وأكله شأن متكرر لا جدل فيه.

المثير للاهتمام أيضاً أن حركة الشفاه بعد الصمت هي التي أطاحت بالنسناسين المختبئين، حركة واحدة من داخل الشجرة المظلمة كانت سبب اقتناصهم ثم أكلهم وترك دمائهم مسفوحة على الأرض، لم يعلموا ما حصل لهم سوى أن نتيجة الكلام هي الموت.

تكشف القصة السابقة أن ظهور النسناس لم يحير القوم، ولم يستغربوا منهم إلى درجة رصدهم، وانتظارهم في سبيل قنصهم، ناهيك أننا لا نعلم كم عدد النسانيس الممكن أن يتسع لهم جذع الشجرة، وكيف دخلوا منها أو خرجوا، وكأنها بوابة ربما نحو عالم النسانيس، فاقدي نصف الوجه ونصف القلب، أولئك الذين تبدو حركتهم وكأنها منقوصة إن ركضوا، أيعقل أنهم أرواح من التقطت صورهم تطفو عبر الأزمنة ثنائية البعد، أولئك الذين نلتهمهم أحياء دون أن ندري؟ والأهم، لِمَ لم تُشلّ حركتهم رعباً في الشجرة، ألم يعلما مصيرهما إن تحركا؟ أيضاً، كيف تم رصدهم، هم كائنات نورانيّة، تُعمي من ينظر إليها حسب بعض الحكايات، أي لا يمكن إبصارها بوضوح، فكيف “قنصهم القوم؟”.

هواية مفرطةٌ في خطورتها

اضطر العاملون في ICARDA (المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة) الواقع في ريف حلب إلى إخلاء المنشأة عام 2012 بسب اشتداد المعارك، المركز الذي سمح حافظ الأسد بإنشائه واستثمار الأرض القائم عليها مجاناً لدواعٍ سياسية، لم يعد مكاناً آمناً لا للبشر ولا للحبوب. حينها، قرر القائمون عليه نقل الحبوب إلى المركز الرئيسي في النرويج، و السفر واحداً تلو الآخر خارج سوريا.

أثناء عمليات الإخلاء التي استمرت أسابيع، لم يتوقف عالم النباتات الألماني لودفيج فون أونان عن ممارسة هوايته بالتصوير في الطبيعة، لكن انتشار المسلحين من الطرفين واشتعال الحرب، والخوف من حمل الكاميرا، دفعه للاستعانة ببندقية قام بإعادة تركبيها جاعلاً فيها كاميرا تقليدية ذات دقة متواضعة، وتمكن بسهولة بعدها من الحصول على زي عسكري، وعلمين صغيرين يوضعان على الكتف اليمنى، واحد يمثل العلم الرسمي لسوريا، والآخر علم الثورة. كان فون أونان يغير العلم على كتفه حسب المنطقة التي يتحرك فيها، وبما أنه يحمل بندقية فلم يشك أحد بأنه ليس بجندي، أو ثائر مسلح، ما مكنه من متابعة هوايته حتى آخر لحظة.

عاد فون أونان إلى ألمانيا وبعد عدة إيام من وصوله إلى منزله المطل على قصر شارلوتنبورغ في برلين (يقال إن هذا القصر كان في زمن النازيين مركزاً لإعدام الأطفال المصابين بالتخلف العقلي و الأمراض التي لا شفاء منها). دخل غرفة التحميض، وقضى ساعات لطباعة الصور، لكن النتيجة كانت مفاجأة، الصور تحوي كائنات غريبة، أطرافها غير مكتملة، بعضها يهرب، بعضها بنصف وجه، وبعضها يتألم وكأنه يُلتهم، وبعضها ساكن دون حركة، كأنها تنتمي للأساطير، كائنات بين الحياة والموت، أو ربما الحياة ما بعد الموت.

اكتشف فون أونان السبب بعد فحصه للكاميرا، إذ كانت فتحة العدسة غير مضبوطة، ولم تسمح بدخول الكثير من الضوء، وبسبب نور النهار الشديد، التقطت ما لم يره هو لحظة التقاط كل صورة، أي ما لم يكن يره بعينه المجردة، لم يمتلك فون أونان أي تفسير لما رآه، فنشر الصور على مدونته الشخصية، وهذه عينة منها.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى