“حديقة الكلاب” للفنلندية صوفي أوكسانين تقدم صورة سوداوية لأوكرانيا ما بعد السوفيات/ عبد الكريم الحجراوي
الفنلندية صوفي أوكسانين ترصد الواقع الاجتماعي والسياسي الأوكراني المأزوم
عبر رواية طويلة ممتدة زمنياً بين 1992و2016 ومتعددة الأماكن داخل مدن الاتحاد السوفياتي السابق، تأخذنا الكاتبة الفنلندية صوفي أوكسانين إلى أعماق المجتمع الأوكراني، تقارن فيه بين الحياة في أوكرانيا بعد استقلالها والحياة في فنلندا، كاشفة بذلك الفارق الحضاري الكبير بين البلدين. بلد أوروبي غارق في الفقر وآخر ينعم بالرخاء، وليس هناك أدل لرصد واقع البلدين المتناقضين من مقارنة بطلة الرواية بين أوضاع البشر في بلدها والكلاب في فنلندا.
“تأملت المشهد حولي، وأنا أفكر في طبيعة حياتهم وهم يعيشون في بلد يتمتع فيه الكلاب بحدائق خاصة بهم، فكرت أن متنزهات الكلاب هنا تلقى عناية فائقة أكثر بكثير من الحدائق الترفيهية المخصصة للبشر في أوكرانيا” ص115. فالرواية تقدم صورة سوداوية لأوكرانيا ما بعد حقبة الاتحاد السوفياتي. حال من الفقر وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي تدفع الجميع دفعاً للمشاركة في الأعمال غير القانونية.
هروب من الموت
وتدورأحداث راوية “حديقة الكلاب” ترجمة ريم داوود (دار العربي للنشر والتوزيع – القاهرة) بين مدن روسية وأوكرانية وفنلندية عدة، تبدأ سردها المفكك من اللحظة الآنية 2016 من مدينة هلسنكي الفنلندية حيث الأوكرانية أولينكا جالسة على أحد المقاعد في حديقة عامة للكلاب تراقب زوجين وطفليهما وهم يريضون كلبهم، فتجلس بجوارها امرأة تكتشف أنها صديقتها القديمة داريا، مما يجعلها تستعيد ماضيها القديم المملوء بالاضطرابات ورحلات الهرب.
تسرد البطلة رحلة حياتها التي لم تعرف فيها الاستقرار من رحلة هرب من الموت إلى أخرى، فبعد فشلها في أن تكون عارضة أزياء في باريس تعود كاسفة البال إلى أمها وعمتها في أوكرانيا لتشاركهما زراعة الخشخاش (عام 2006)، إلا أنها تجد وظيفة في إحدى الشركات المشبوهة التي تقوم بعمليات بيع الأجنة، وبعد خضوعها لاختبارات صارمة بما في ذلك اختبار الذكاء والقوى البدنية يجري تزوير بياناتها العائلية كما يجري مع غيرها من الأوكرانيات بخاصة إذا كن قادمات من أماكن قريبة من تشرنوبل أو ملوثة بالفحم أو أن أحد أقاربهم في السجن، ليكن ملائمات للعملاء الأثرياء القادمين من غرب أوروبا وأميركا.
وبفضل قدرات أولينكا وملكاتها اللغوية المتعددة، تعتمد عليها الشركة في جلب مزيد من المتبرعات، فتستقر حياتها المادية لفترة إلى أن تجد نفسها مضطرة إلى الهرب بعد اتهامها بقتل ابن رئيسها في العمل، فتسافر إلى فنلندا وتعمل في شركة تنظيف كخادمة في المنازل.
وتعتمد الرواية في حبكتها الفنية على السرد المتقطع الذي ينطلق من اللحظة الراهنة، ليعود بالزمن إلى الوراء للكشف عن كيف آل حال الساردة إلى هذا الوضع، وعن طبيعة الأحداث والأماكن والخلفية الثقافية والاجتماعية التي جاءت منها ودفعتها إلى هذا المصير، وهذا التنقل من زمن إلى زمن ومكان إلى مكان أعطى مساحة كبيرة لرصد واقع المجتمع الأوكراني والأزمات التي يمر بها من حقبة إلى أخرى، بداية من الفساد السياسي البرلماني والعنف المنتشر داخل المجتمع الذي تعبر عنه النكتة التي يرددها الأوكرانيون أن “الشرفاء هنا في السجون بينما الكاذبون في البرلمان”.
الفساد السياسي
يمتد هذا الفساد إلى جميع مناحي الحياة، فنحن أمام مجتمع مكون من طبقتين اجتماعيتين، طبقة فقيرة مطحونة تمثلها غالبية المجتمع الأوكراني، وطبقة تتمتع بثراء فاحش، وقد عبرت الشخصية الرئيسة في الرواية عن هذين العالمين، فهي من طبقة مطحونة وفي طريقها للترقي تحتك وتعايش تلك الطبقات الغنية فتكشف إلى أي مدى تغلغل الفساد داخل المجتمع.
تستخدم الحفلات وأعمال الخير والتبرع للجمعيات الخيرية ودور الأيتام كستارة للتغطية على نشاطاتهم غير الشريفة، وترصد الرواية الفساد في القطاع الصحي من قبل المسؤولين بداية من التطعيمات التي لا تقدم إلى جميع الأطفال، وتشارك في هذه الجريمة المدارس التي تطعم طلابها مرتين وتعطي شهادات كاذبة لغير المطعمين بأنهم قد حصلوا على التطعيم، إضافة إلى امتناع الأهالي عن منحها لأطفالهم معتقدين بضررها.
وتحكي الرواية أنه حين منحت الولايات المتحدة لقاحات “إنفلونزا الخنازير” اعتقد كثيرون أن الهدف منها هو إصابة الفقراء بالعقم، وانتشرت في الفترة نفسها جائحة الحصبة من جديد وانهمك السياسيون ورجال الأعمال الذي بدأوا هذه الشائعات ليقنعوا الممولين في الغرب بضرورة دعم إنتاج اللقاحات المصنعة محلياً كي يثق فيها الناس، وبالفعل منحت الدول الغربية مجموعة من المعونات والتبرعات بالمعدات والأجهزة، وبعد مرور أكثر من 10 سنوات لم تستخدم هذه المعدات أو يعلن للناس عن مكانها، لتشعر الدول المانحة بالخديعة.وترصد الرواية قيام الوزراء وممثلي الحكومة الأوكرانية بالاستيلاء على هذه المنح والإعانات لاستخدامها في تجديد منازلهم الريفية.
ومن مظاهر استشراء الفساد المحلي محاولة أوليكنا في 2010 إيصال الغاز لبيت عمتها في دنبروبتروفسك، فشرح لها الموظف المسؤول أنه لا يمكن ذلك لأنه تم توصيل شبكة الغاز الخاصة بالمنطقة بالفعل، لكن الحقيقة أنه تم تركيب الأنابيب لنصف المنطقة وسرقت الجهات الحكومية البقية، وذكرت الأوراق الرسمية والخرائط أن المنطقة بأكملها تملك الغاز.
ولا يتوقف الفساد عند هذا الحد بل تعتمد الأحزاب السياسية على تأجير المتظاهرين للهتاف ضد جهات معينة في مقابل أجور تمنح لهم، فأثناء رحلة أولينكا بحثاً عن العمل تعرض عليها إحدى الفتيات هذا العمل قائلة، “يحتاجون وجوهاً جميلة في التظاهرات، يدفعون لك في التو واللحظة، يقبلون الجميع ولا يرفضون أحداً”، وذلك على غرار ما كان يحدث عقب الثورة البرتقالية حيث كانت تنشر إعلانات في الجرائد تطلب أشخاصاً للمشاركة في التظاهرات.
الفقر الشديد
ينعكس هذا الفساد الحكومي على المستوى الاجتماعي ويجعل من أوكرانيا بيئة خصبة للأنشطة الإجرامية مثل العصابات التي تعمل في تجارة المخدرات وتسخر الأهالي لزراعتها لحاجتهم إلى المال الذي تدره عليهم، مما يشيع عمليات الاختطاف والقتل والجرائم البشعة، فبطلة الراوية وصديقتها السابقة داريا كانتا بين ضحايا هذا العالم الإجرامي، فبعد تفكك الاتحاد السوفياتي عمل والد كل منهما على شراء أسهم مناجم الفحم مع شريك لهما بعد اتجاه الدولة إلى خصخصة هذه المناجم، ليتعرض هو صديقه للتصفية من شريكهم الثالث الذي يتحول لواحد من أثرياء المجتمع، فتعمل لمصلحته البطلة من دون معرفة أنه قاتل أبيها.
ووسط هذا العالم الغارق في الفقر يجري استغلال الجميع، فإيفان الشاب يدخل السجن في جريمة بسيطة فيتعرف على تجار المخدرات، وحين يخرج يصبح واحداً منهم، إضافة إلى العمالة غير القانونية للأطفال داخل المناجم، وعدم وجود وسائل حماية من الأضرار الصحية التي يسببها العمل في المصانع، ناهيك عن الانهيارات التي تحدث فيروح ضحيتها العشرات داخل المناجم.
أما النساء فهن ربما الأكثر استغلالاً وينتهكن جسدياً ونفسياً حيث تنتشر إعلانات تحمل صيغة “لماذا ينبغي على فتاة جميلة أن تكون فقيرة؟”، وعادة ما تكون هذه الإعلانات خاصة بشركات جنسية أو وكالات تجتذب الراغبين في الزواج من أوكرانيات أو بيع أعضاء الجسد والأجنة.
وتسلط الرواية الضوء بشكل أساس على عالم تجارة الأجنة الذي تستغل فيه حاجة الفتيات إلى المال والفرار من الفقر الرازح فوق أعناقهن وأسرهن التي لا تملك حق العلاج لمن يمرض فيها وإطعام أطفالها، وعبر هذا العامل الاقتصادي تجتذب هذه المؤسسات المشبوهة الفتيات لهذا العالم الذي تستغل فيه اللاجئات الهاربات من الحروب في بلادهن، والفتيات الصغيرات الموجودات في ملاجئ الأيتام، ويستنزفن من هذه الشركات ليكن عرضة للموت أثناء هذه العمليات، أو ما ينتج منها من أمراض خطرة وعاهات مستديمة.
ونتيجة لغياب الرقابة تحولت أوكرانيا سوقاً عالمية لكل أثرياء العالم الراغبين في الإنجاب الذين يتعاملون مع المتبرعات على أنهن سلعة.
صراع روسي – أوكراني
أما الواقع الخارجي لأوكرانيا فلا يقل سوءاً عن الداخل، بخاصة مع الأزمات الروسية – الأوكرانية، فالرواية التي نشرت عام 2019 تتنبأ باجتياح روسيا لأوكرانيا ككل وهو ما تحقق في 2022، فهناك هاجس يشغل شخوص الرواية الأوكرانيين بأن روسيا تنوي احتلال بلادهم ككل كما احتلت أجزاء في الجنوب الشرقي منها دون أدنى مقاومة ومكنت الانفصاليين من إقليم الدونباس، متخذة من سقوط طائرة ماليزية في يوليو (تموز) 2014 حجة لذلك، ومتهمة الأوكرانيين بأنهم وراء إسقاطها.
وتعلق أولينكا / الساردة على سيطرة روسيا على جزيرة القرم عقب الثورة التي أطاحت الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا بقولها، “تابعت تطورات الثورة من بعيد وتيقنت في بعض الأحيان من أن الدبابات الروسية ستدخل دنيبرو بعد احتلال جزيرة شبه القرم. تابعت نشرات الأخبار الروسية عبر الإنترنت، وتابعت الحال الجوية هناك ولم أكن وحدي من فعل ذلك. قد تضاف أوكرانيا بأكملها إلى الخريطة الروسية خلال ساعات معدودة” ص130.
وتتوقع الرواية أيضاً استمرار هذه الحرب التي ستخلف المئات من الضحايا من دون أن يتحمل مسؤوليتها أحد، “سوف تستمر الحرب وسيكون هناك مزيد من الجثامين بعضها من دون رؤوس وبعضها الآخر أشلاء متناثرة، وقد تسقط أعداد أكبر من الطائرات ولن يتحمل أحد مسؤولية أي حدث” ص106.
وينعكس توتر الأوضاع بين البلدين سلباً على العمال الروس والأوكرانيين الذين يعملون في الخارج، فتنشب بينهم المشاجرات، فالروس يلومون الأوكرانيين والأوكرانيون يلومون الروس.
مؤلفة هذه العمل هي صوفي أوكسانين كاتبة روائية ومسرحية فنلندية مواليد العام 1967، ولها ست روايات أشهرها رواية “تطهير” التي ترجمت لأكثر من 40 لغة ولقيت حفاوة كبيرة، وبيع منها أكثر من مليوني نسخة، ومن روايتها أيضاً “أبقار ستالين” و”عندما اختفى الحمام”، إضافة إلى “حديقة الكلاب” التي نشرت بالفنلندية عام 2019 وبيعت حقوق ترجمتها لأكثر من 24 لغة، وهي العمل الثاني لها المترجم إلى اللغة العربية.
وحازت المؤلفة عشرات الجوائز الأدبية وتحظي بمكانة أدبية كبيرة داخل بلادها، وأطلق عليها لقب “تشارلز ديكنز الفنلندي الإستوني”، وعادة ما تقارن أعمالها بروايات الكاتبة الشهيرة مارغريت أتوود.