حركات الساحات والاعتصامات… وسياسة المساواة/ وضاح شرارة
قلما يتناول كُتَّابُ سياسةٍ عرب، منذ أعوام قد ترقى إلى عشرة، الحوادث التي يجمعها الأدب السياسي الصحافي أو التاريخي في باب “الربيع العربي”. وهو في تسميته الأجنبية، الأوروبية والغربية، فصول: فصل تونسي وفصل مصري… وليس فصلاً واحداً، رغم اشتراك بلدان يتكلم معظم أهلها العربية في الحوادث المتعاقبة، المتصلة والمتفرّقة التي يُطلق عليها الاسم.
ولعل مصائر هذه الحوادث، المأساوية والوخيمة في معظمها الغالب، من أسباب إهمال أو تناسٍ يبلغ حد الإغفال التام. ومن الأسباب تقلّب مواقف “قيادات” الدول العربية والإسلامية من الحوادث تلك. فارتدّ ترحيب علي خامنئي، الحاكم الإيراني، في مستهل الحركة المصرية الذي غلب عليه العداء الإخواني و”الإسلامي” لنظام حسني مبارك وللتيارات “الليبرالية” أو شبه الليبرالية (على غرار تيار محمد البرادعي)، ارتدّ جفاءً وتنديداً حادّين. ويتوارث هذين اليوم أنصار الحاكم وأجهزته وفروعها في البلدان العربية.
وأدّت غلبة الأجنحة الإسلامية والأهلية الإقليمية البلدية والقبلية، على بعض الحركات الربيعية، في ليبيا على الخصوص وفي (بعض) مصر قبل سوريا، وانتقال هذه الحركات من طور مواجهة متماسك إلى طور الإعداد للاستيلاء على السلطة والانفراد بها، إلى تفريق المؤيدين والأنصار والمتعاطفين. فاختار كل فريق دوراً من أدوار الحركة، وطعن في الدور الآخر، ونفاه من الوقائع.
وافتقرت الحركات هذه، عموماً، إلى سوابق تعتدّ بها وتنتسب إليها. وهي عاشت عهوداً طويلة، لم تقلّ عن ثلاثين عاماً في تونس واليمن، وبلغت الأربعين في مصر وسوريا وليبيا، تسلّطت في الأثناء على مجتمعاتها أنظمة استبدادية وبوليسية شديدة الوطأة، وأعملت تغييراً عميقاً، لم ترده ولم تستبقه في هذه المجتمعات. فنزحت جماعات ريفية عريضة إلى مدن لا عمل فيها. وعمم المستولون العسكريون والأمنيون في بلدانهم تعليماً رثاً في شقّيه: “الإنساني”، على ما يسميه الأوروبيون، أو الثقافي، والعلمي التقني. وأعيل نتاح هذا التعليم، وجلّه من الموظفين، من ريوع النفط أو من الفوائض الهزيلة المتحصّلة من المرافق الوسيطة ومن العمل المحلي.
فعدمت الحركات، بين بعد عهدها بسوابق حية وبين دوام مرحلة مديدة من الخمول، مراجع تاريخية تستقوي بتقاليدها على تدبير أشكال عملها وابتكار معانيها. وربما تدين بولادتها ويقظتها، على ما ذهب إليه مراقبون وكتّاب كثر، إلى انحسار بعض الريوع وتقلّصها.
التقاسم
وبينما تذوي ذاكرة فصول “الربيع العربي” في معظم البلدان التي كانت مسارح لها، وتختلط حوادثها المفاجئة والمدهشة الجدة والابتكار (اندلاعها من وقائع “ضئيلة”، تلقائية انتشارها وعدواها، جرأتها على أنظمة مجربة وعاتية، مخالفتها أعرافاً وتقاليد اجتماعية راسخة، جمعها روافد كثيرة من الناس والاحتياجات، حسم مطاليبها، إهمالها القضايا السياسية “الكبيرة” والاستراتيجية…)، تتناول كتابات غربية، فرنسية، هذه الحوادث في معرض التفكير في تحوّلات العالم المعاصر ومصائره.
فيجمع الفرنسي جاك رانسيير- المتحدر من البنيوية الماركسية في فتوته الفلسفية، والمشارك النشط في أيار/ مايو 1968، والمنعطِف مذذاك نحو البحث في ما يسميه “تقاسم الحسي” في الحركات السياسية الاجتماعية والكتابية والسينمائية، على قدم المساواة بين “العوام” أو مَن “ليسوا شيئاً”، ثلاثين مقالة كتبها في الأعوام الثلاثين المنصرمة، بين 1991 (غزو العراق) و2021 (اقتحام أنصار دونالد ترامب مبنى الكابيتول بواشنطن)، ووسم مجموعتها بـ”الثلاثون الوضيعة/ مشاهد سياسية”، دار لافبريك، باريس 2022.
والحق أن الكاتب الفرنسي لا يخص الحوادث العربية بمقالة واحدة، على حدة من الموضوعات التي يعالجها. ولكن معظم ما كتب بعد 2010، وهو الشطر الأوسع والأكثر تفصيلاً ودقة وإحاطة من مقالاته، يدرج الحوادث العربية الربيعية في شواهده وإحالاته. وتؤيد الشواهد والإحالات رأي الكاتب، وهو يكاد أن يكون مذهباً، في حوادث “محلية”، أي غربية، فارقة، تتصدّرها حوادث أيار/ مايو 1968 المستعادة.
تناقضات “الحجاب”
وتتناول الشواهد والإحالات، وقبلها وبعدها الموضوعات، صنفي الحركات التي تطرقت إلى مسألة المساواة، وكانت هذه المسألة مدارها ومحورها. والصنف الأول يطرح المساواة، ويطعن فيها، على شاكلة تيارات الرأي الأوروبية، والفرنسية على وجه التخصيص، التي “عالجت” تعاظم عدد المهاجرين من بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب الصحراء الإفريقية، واستقرار أولادهم في مهاجرهم، بالإقصاء والازدراء وتحميلهم التبعة عن البطالة واضطراب الأمن وأزمة التعليم والخدمات الصحية.
وجعل اليمين المتطرف والقومي من المسألة هذه قميصاً يلوّح به، وينيط بـ”حلها” السحري- تصفير الهجرة، وتسفير المقيمين غير الشرعيين، وإعادة النظر في إجراءات التجنيس واللجوء، وفرض تجانس المظهر والمسلك على ذوي الأصول الأجنبية- معالجة مشكلات فرنسا، ومن ورائها الغرب كله (نظرية “الاستبدال الكبير”).
ويسعى الصنف الثاني في الإقرار لكل المقيمين بحقوق واحدة ومتساوية. ومن حركات هذا الصنف واحدة شهرت تضامنها مَع من سُمّوا “مَن لا أوراق (ثبوتية) لهم”. وكان جاك رانسيير سمّى العوام الذين ليسوا شيئاً ويفتقرون إلى المرتبة بـ”المجرّدين من الحصة”. والتسميتان متناغمتان.
ويناصر الكاتب حركات الصنف الثاني، ويناهض حركات الصنف الأول، من طريق إخراج منطقها المتناقض والمتعثّر والمستتر غالباً إلى العلن. وهو يناقش حظر الحجاب في المدارس الرسمية (العامة) الفرنسية، فيقول: يزعم قانون الحظر (خريف 2003) الحرص على المساواة في القيافة والمظهر، وحمل الشواذ (“الشاذات”) على الانقياد للقاعدة الواحدة، باسم العمومية الجمهورية والعلمانية، إلا أنه يخص جمهرة من التلامذة بنهي يفردها جانباً وعلى حدة من الأخريات. ويوجب القانون العمومي، أو الجامع العام (يونيفرسل)، تخصيصاً وسلباً ونفياً محل العمومية المفترضة في التعريف والتشريع.
ويترتب على الخلل الجسيم هذا حمل الجمهرة العامة و”المرجع”، أي “الشعب الفرنسي”، مَصْدر القانون، على قوم، أو إثنية، لا تتميز من قوم المحجبات، المسلمات، إلا بالعدد الراجح. ويخالف هذا النهج المعياري والعمومي الذي ينبغي ألا ينفك منه التشريع.
الحركات
وهذا مثلٌ على تناول الكاتب الموضوعات الحديثة والظرفية التي يكتب فيها. فلا تستوقفه ملابسات الحادثة أو الواقعة الاجتماعية أو التاريخية، ولا يتيح لهذه الملابسات أن تلتهم الحادثة أو الواقعة وتحيلها إلى مفعول من مفاعيل البنية أو الأبنية العامة والشاملة، على خلاف تعليم أستاذه الأول، لويس ألتوسير، وعلى خلاف زعم ماركسي ذهب إلى أن “التاريخ”، الغفل و”السيرورة من غير فاعل”، يتولى من تلقاء منطقه الذاتي تمهيد الطريق إلى حل المشكلات التي سبق له طرحها: فهو أوكل إلى البورجوازية صناعة نمط إنتاج يدمّر أشكال السيطرة السابقة كلها قبل أن يتولى تعاظم قوى الإنتاج قبر الطبقة التي نفخت فيه.
فالحادثة- شأن حركة أيار/ مايو 1968 المستعادة، وشأن الإضراب العمالي الكبير في 1997 احتجاجاً على تأخير سن تقاعد عمال السكة الحديد، وحركة “احتلال” الساحات في طهران ومدريد وتونس والقاهرة ونيويورك وإسطنبول وأثينا وهونغ كونغ وكييف، ومن بعدها حركة “قيام الليل” (“لا نوي دوبو” بباريس)، وأخيراً حركة “السترات الصفر” على مفترقات الطرق في أنحاء فرنسا- الحادثة سياسية، و”تستحق” هذه الصفة حين تخرج على العوامل والمحدّدات الاجتماعية، وتباغت التوقّعات الاستراتيجية والبرنامجية المتفرّعة عن منطق السيطرة والغلبة والنازعة إلى دوام السيطرة وأهلها.
وهذا هو مسوّغ التطرُّق السريع إلى حركات “الربيع العربي” في جملة الحوادث التي يستخلص جاك رانسيير دروسها، على معنى وصفي وغير معياري. فهي تتشارك مع الحوادث الأخرى التي تحصيها المقالات، وتقتصر عليها دون صنعاء وشارع السبعين أو المنامة وساحة اللؤلؤة وحماة وساحة الساعة وغيرها، مبادرة جمهور لا تخصصه صفة (اجتماعية) تسبق مبادرته أو تندبه إليها، وعلى قدم المساواة بين أفراده، إلى إيجاب أو خلق عالم يأهله ناس أسوة، يعلنون، عملاً وفعلاً وجماعةً، حقهم في العناية بما لا يعنيهم، وقطعهم زمن السلطة.
عالم المساواة
فما يأخذه كثر على “حركات الساحات”، إذا جازت التسمية- وهو ارتجالها، وصدورها عن عدم، وافتقارها إلى استراتيجية حكم وقيادات وأبنية تنظيم وتمثيل، وذواء زمنها، وحرفها الأماكن التي تحتلها أو تعتصم بها عن استعمالها العادي- هو على وجه الدقّة ما يرفع مكانتها في نظر الكاتب، ويُدرجها في تاريخ المساواة الديمقراطية، ويخرجها من تاريخ المراتب والسيطرة والتفاوت والاستراتيجيات والتمثيل (الانتخابي والمحترف).
وعلى هذا، فجوهر هذه الحركات هو شكلها أو أشكالها وليس برنامجها، وما “رحَّل” زين العابدين بن علي التونسي، بعد نحو ثلاثين عاماً من التسلّط والإطباق على أنفاس التونسيين وتخويفهم، هو اشتراك المتظاهرين المعتصمين، العوام الغفل من “العلم” والدراية والتجربة وكل ما يوصف به أهل الحنكة، في إرادة رحيله وقول هذه الإرادة من غير مواربة، ولا تخطيط أو مرحلة أو أحلاف.
ويرد صاحب “الثلاثون الوضيعة”، وقبلها “كراهية الديمقراطية” (2006)، على معلّلي حركة “السترات الصفر” بعوامل مثل الإقامة في ضواحي المدن المتوسطة والصغيرة، والعزلة الاجتماعية والمهنية، والاضطرار إلى الانتقال إلى العمل بواسطة السيارة (وغلاء سعر المحروقات وتخفيض السرعة القصوى على الطرق الفرعية كانا ذريعة الحركة إلى الظهور في خريف 2018)- يردّ بالتنبيه إلى أن علل الحركة هذه هي، من غير زيادة ولا نقصان، علل الإحجام عنها: التعب، العزلة، الأفق الضيق، الموقع البيني أو المترجّح… أي أن مهمة الاجتماعيات هي إنكار السياسة الديمقراطية وإحباطها من طريق ردّها إلى أسباب تجرّدها من خواصها: المخيّلة والابتكار والخروج عن السائر والمستقر. وقام طلاب ربيع 1968 على هذا النهج في الفهم والعمل.
ويمدح رانسيير الاعتصام، أو “الاحتلال”، ونصب المخيّمات في الساحات أو مفترقات الطرق، والجمعيات العمومية الأفقية التي يعقدها المعتصمون. وينسب إليها التمثيل المباشر والعيني على عالم المساواة. فالكلام يتناوب عليه مَن يشاء، وهو مقسوم بين المتكلّمين بالسوية، وغرضه هو بلوغ الاتفاق على رأي وليس تغليب غالبية على قلة.
ويكني عالم الاعتصام المكاني والحسي عن “احتلالات” متعاقبة يستدعي واحدها الآخر، ويجدّد أشكال النسيج الاجتماعي القائم على المساواة والذي مزّقته “الرأسمالية الصرف” (البعيدة من الليبرالية والنيوليبرالية)، ويتخطى الفصل بين دوائر الفعل، وعلى الخصوص بين الاقتصاد والسياسة. ويردّد الكاتب تداعي شعار محتلّي وول ستريت الأول، “احتلوا (أو احتلال) وول ستريت”، إلى “أخواته”: “احتلوا المخيلة”، “احتلوا الحب”، “احتلوا كل شيء”.
اليتم والإرث
ولا يغفل رانسيير، المنخرط في الحركات والحوادث التي يؤرخ لها من قرب ويستخلص منها مفهومات وتعريفات وأبنية مقالات سياسية، عن أن اقتصاره على المعاينة الوصفية والمباشرة، وتعظيم المعاني التي تنطوي عليها الحوادث، يترك هذه الحوادث معلّقة في حاضر مطلق ومغلق. فيداري التعليق الذي يتهدّد الحوادث وفهمها، ويرضخ، على شيء من مضض، لإدراجها في تاريخ وحلقات سبقتها، وأورثتها أشكالاً عملية ومعاني لا مناص لحوادث الحاضر من استلهامها وتحويرها.
فالاعتصام في الساحات العامة ومفترقات الطرق خارج المدن والبلدات، والتخييم فيها، وتحويلها إلى أماكن إقامة وجمعيات مناقشة عمومية، يَخْلِف شكلاً سابقاً من أشكال العمل السياسي والطبقي العمالي. ويعود احتلال العمال، الأوروبيين على وجه الخصوص، المصانع التي يعملون فيها إلى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ودام إلى أوائل الثلث الأخير من القرن العشرين. وقد يكون احتلال ملايين العمال الفرنسيين مصانعهم، في ربيع 1968، من آخر فصول هذا الشكل من الفعل السياسي. وعلى شاكلة الاحتلال اللاحق، جعل العمال من مصانعهم مسرح حياة واجتماع ومداولة وفعل جماعي ومشترك.
والسبب في ترك المعتصمين (الأوروبيين) المصانع إلى الساحات والمفترقات والمخيمات، على قول الكاتب وتأريخه و”اجتماعياته”، هو تصديع العولمة- وتفتيتها العمل المركّب، وتنقيلها أو تعهيدها وحدات الإنتاج إلى أنحاء متفرقة- المجاميع الصناعية الكبيرة. فمحل منشأة سيارات رينو في بيّانكور بضاحية باريس، وكانت من “حصون” الطبقة العاملة الفرنسية وتجمع نحو 30- 40 ألف عامل في موضع مشترك، شُيِّدت “مولات” كبيرة. وفرقت الشركة خطوطها في أماكن متباعدة من شرق أوروبا وجنوب شرق آسيا. وانهيار المثال السوفياتي، ومجمعاته الصناعية، قرينة أخرى على الإخفاق.
فخسرت القوّة العمالية والشعبية المعارضة، والمكافحة في سبيل المساواة والعمومية ضد المراتب والامتيازات وتغليب السوق على وجوه الاجتماع الإنساني الأخرى، حضنها العملي وأفقها السياسي. فعمارة المصنع الكبير، الجامعة والماثلة، أتاحت لمجموعات العاملين التكاتف والتكامل، من جهة، والخبرة في إدارة المصنع ومباشرة هذه الإدارة في أثناء الاحتلال، والتمثيل على أهليتها للأمر، من جهة أخرى.
الهيئات المضادة
ويخلص كاتب “الثلاثون الوضيعة”، بعد مديحه حركات الساحات والاعتصامات، من تأريخه هذا إلى وصف الاعتصام (الاحتلال والتخييم والجمعية العمومية) بـ”اليتيم”، يتيم احتلال المصانع، والجماعة العمالية وصدارة الطبقة العاملة “تحرر” البشر. واليتم، وإنْ كان علامة على فقدٍ وخسارة إلا إنه يحمل، وينبغي ألا يحمل على الاكتئاب والضغينة.
ويندّد الكاتب بغلبة الأمرين على مثقفين “جمهوريين” رجعوا من آمال كبيرة علّقوها، في العقد السابع من القرن الماضي، على الطبقة العاملة، وألقوا باللوم عليها، فنعتوها بـ”الشعبوية” ومماشاة العنصرية، بعدما خابت هذه الآمال، وتعلّقوا بأهداب عقيدة جمهورية تدعو إلى إجماع هو من علامات “الوضاعة” التي يشهرها العنوان.
فما يبقى فاعلاً ومؤثراً من تاريخ الحركات والحوادث الطويل، وما يصل بين حلقاتها على رغم الانعطاف والبتر اللذين نجما عن العولمة، هو إيجابها سلطة “جماعة السوية” (أو الأسوة أو المتساوين)، أي نقيض السلطة الحاكمة وعالم المراتب واحتراف السياسة والحكم والإجماع.
وتظهر مفاعيلُ هذا التاريخ في الحياة العامة والمؤسسات الاجتماعية المتحدّرة من الثورات والحركات المتعاقبة منذ قرنين. فالاقتراع العام من هذه المفاعيل، ومنها كذلك النقابات، والجمعيات والنوادي، والصحافة الحرة، والتظاهرات في الطريق العام، و”الاحتلالات” والاعتصامات والجمعيات العمومية، والمجالس المهنية والمحلية…
فهذه كلها “سلطات مضادة”، وسلطات مراقبة ومحاسبة. ووصفها بـ”الشكلية”، على ما درج عليه تقليد ماركسي، عمىً عن فعلها وحقيقتها، وتعلّق بحبال “تمام تاريخ” (“أو نهاية تاريخ”) يصطنع إجماعاً خاوياً. فهي العنصر أو العامل الحي الذي يُخرج تاريخ الأفراد والجماعات من التكرار المميت والعقيم.
والقارئ المحلي، مواطن أو رعية بلد عربي وإسلامي، حين يفرغ من قراءة عمل رانسيير الأخير، قد ينقسم شطرين: الأول، مخالط المجتمعات الأوروبية بعض المخالطة، تأخذه الحماسة للوجهة التي تُسلِك الحركات السياسية في سلك القيام بالنفس والاستقلال عن الغيبيات والمقدّسات، وتحرر الأفراد والجماعات من التبعية للتمثيل والمراتب- والشطر الثاني، المحلي، يندم على ازدرائه التمثيل البرلماني، وطعنه في البيروقراطية، وبرمه المر باستقرار الأحوال ورتابة تكرارها. ويعود من شطر إلى آخر. فهل يدعو هذا إلى “نسيان” رانسيير؟
رصيف 22