مايكل مور والسينما الفضاحة/ صبحي حديدي
كلما شهدت الولايات المتحدة واقعة جديدة في المسلسل الدامي الذي ينطوي على إطلاق النار جماعياً وعشوائياً على أفراد أبرياء، في المدارس والمعاهد ومراكز التسوّق وأماكن العبادة والشوارع العامة؛ عاد السينمائي التسجيلي الأمريكي مايكل مرور إلى ممارسة ما اعتاد عليه من صراخ، في وادٍ غير ذي زرع غالباً: إلى متى؟ كم من الأرقام أيضاً؟ هل تحتاج أمريكا إلى 100 طفل/ جثة، مثلاً؟ أم إلى 1000، كي تقول: لا، هذا يكفي؟
لكنّ انخراط مور في هذه الحملة، نبيلة الأغراض بالطبع وغير المتخففة من أنساق النقد العميق للصناعة التي تقف خلف تجارة السلاح وللعقائد اليمينية التي تواصل الدفاع عنها، يكشف من جانب آخر بُعداً خاصاً غير ضئيل الدلالة يعيد ربط السينما التسجيلية بالحياة اليومية، ثمّ بالعناصر الأعمق التي تتجاوز التوثيق إلى التنشيط المعارض، وصياغة شارع الاحتجاج، وبلورة الحراك الرافض والفعّال. وليس من دون مغزى كبير أنّ شريط مور «فهرنهايت 11/9» كان قد فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الـ 57، سنة 2004؛ فانتزع جائزة عزيزة المنال، والتحق بكبار من أمثال السويدي إنغمار بيرغمان، والياباني أكيرا كيروساوا، والهندي ساتياجيت راي، والإيطالي فيتوريو دي سيكا، والفرنسي هنري-جورج كلوزو، والسوفييتي سيرج يوتكيفيتش، والأنغلو-أمريكي ألفريد هتشكوك. ليس أقلّ أهمية، أيضاً، أنه كان الثاني الذي يحصد السعفة عن شريط تسجيلي، بعد «عالم الصمت» بإخراج مشترك للمستكشف وعالِم المحيطات الفرنسي الشهير جاك-إيف كوستو والمخرج الفرنسي لوي مال، سنة 1956.
ولكن قد يصحّ، هنا، القول: كأنها المرّة الأولى، رغم كونها الثانية فعلياً!
إذْ شتّان ما بين شريط كوستو- مال، الذي يطلق غوّاصة الأعماق «كاليبسو» في باطن البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي؛ وشريط مور الذي يطلق العنان للكاميرا كي تغوص عميقاً في قلب ظلمات الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن! وشتّان بين المعركة الشرسة التي يلتقطها الفيلم الأوّل بين أسماك القرش وكائنات المحيطات المسالمة، وبين جرائم الحرب التي ارتكبها بوش ضدّ الأفغان والعراقيين… وهيئة تحكيم دورة 1956 وقعت، أغلب الظنّ، أسيرة الشاعرية المذهلة التي اكتنفت تجوال عدسة فريق كوستو في تلك العوالم الصامتة طيّ المياه ذات الغور البعيد البهيم، وذلك قبل أن تشدّها أسلوبية لوي مال الآسرة بدورها، ولكن التجريبية المعقدة المتنافية في كثير أو قليل مع روحية التسجيل. وأمّا هيئة تحكيم دورة 2004 فقد أعلنت أنها لم تمنح السعفة الذهبية للسياسة، بل للفنّ السينمائي وحده، وليس كثيراً أنّ نصدّق هذا الزعم، خصوصاً إذا كنّا في عداد مَن شاهدوا شريط مور السابق «باولينغ كولومباين».
هذا رجل سينمائي من رأسه حتى أخمص قدميه، بادئ ذي بدء، الأمر الذي لا يعني البتة أنه ليس ناشطاً سياسياً. ثمة معادلة شائكة هنا، وثمة الفنّ الذي يتصدّر شبكات تلك المعادلة واشتباكاتها. وأن يكون المرء داعية ماهراً (في الكتابة والخطابة والنشاط اليوميّ…)، وفناناً مشهوداً مكرّماً (في الفنّ السينمائي، وفي فرع شاقّ منه هو الفيلم التسجيلي تحديداً…)؛ أمر لا ينطوي على تناقض منطقي. وليس نجاح هذا الرجل في الفنّ وفي السياسة معاً إلا بعض تجليّات نجاحه الفائق في تفكيك أطراف تلك المعادلة الشائكة، على نحو متوازن متلائم لا يليق إلا بموهبة فريدة.
ومن المعروف أنّ مور بدأ صحافياً في جريدة محلية مغمورة تصدر في بلدة فلنت، ولاية ميتشيغان، قبل أن يلفت انتباه مطبوعة كبيرة هي Mother Jones فتعيّنه محرّراً، ثمّ تقيله لأنه رفض نشر مقال متحيّز ضدّ ثوّار نيكاراغوا. وشركة «جنرال موتورز»، إحدى أكبر أيقونات الرأسمالية المعاصرة، حفزت مور على إنجاز فيلمه التسجيلي الأوّل «أنا وروجر» 1989 الذي يروي مسؤولية الشركة ورئيسها روجر سميث في تحطيم الاقتصاد المحلّي في بلدة فلنت. ولقد حقق الشريط نجاحاً مذهلاً، وحصل على جوائز أساسية في العديد من المهرجانات، مما شجّع مور على متابعة الموضوع ذاته في شريط ثانٍ بعنوان: «لحمٌ أم حيوانات أليفة: العودة إلى فلنت». شريطه الثالث، الروائي، كان بعنوان «لحم خنزير كندي»، ويسرد مخطط رئيس أمريكي لتلفيق حرب باردة ضدّ كندا. شريطه الرابع يمسح أمريكا طولاً وعرضاً، ويرصد انعدام المساواة والفقر وانحطاط الحياة…
في جانب الداعية والناشط السياسي عمل مور مع رالف نادر، وكتب عشرات التعليقات السياسية التي جمع بعضها في كتاب هامّ بعنوان «تهديدات عشوائية من أمريكي بلا اسم»، تجاوزت مبيعاته رقماً قياسياً مفاجئاً. كتابه التالي كان بعنوان «رجال بيض أغبياء»، وقد اعتبرت دار نشر راندوم أنه أكثر عداء للرئيس بوش الابن من أن ينشر بعد 11/9 فامتنعت عن إصداره، قبل أن تضطرّ إلى ذلك في ربيع 2002 تحت ضغط حملة واسعة من القرّاء!
سينمائي وداعية، داعية وسينمائي؛ ولكنه، في غضون اشتغال العدسة مع المنشور فنّان تفضيح قبائح النظام الرأسمالي المعاصر، وكاشف الغطاء عن أمراض الولايات المتحدة بوصفها رائدة «عالم حرّ» زائف مزيّف؛ لا يلوح أنّ الملايين من مواطنيها سوف يرتوون يوماً من دماء المذابح العشوائية، الآن إذْ تقول التحقيقات إنّ اقتحام الكونغرس كان «ذروة محاولة انقلابية».
القدس العربي