هل ندين “الكفاح المسلح”؟… ماذا يبقى من “القضايا العادلة”؟/ راتب شعبو
بعد 20 عاماً من السجن، سبقتها ثلاثون عاماً من التخفي في لبنان وغيره من بلدان الشرق الأوسط قبل أن تعود سراً إلى بلدها اليابان، وتُعتقل هناك في العام 2000، أفرجت السلطات اليابانية عن إحدى أبرز النصيرات العالميات للقضية الفلسطينية. هذه المرأة التي تحمل، في بلدها الأم، لقب “امبراطورة الإرهاب”، أو “الملكة الحمراء”، لها اسمان: الأول ياباني “فوساكو”، والثاني فلسطيني “مريم”. لا تصعب اليوم ملاحظة هذا التناسب الصريح بين مسار تضاؤل قضية فلسطين ومسار شيخوخة هذه المرأة اليابانية التي تثابر على وضع الكوفية الفلسطينية على كتفيها.
بداية سبعينيات القرن الماضي، كانت اليابانية فوساكو شيغينوبو (ابنة ضابط في الجيش الياباني، تحول بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية إلى بائع بقالة)، في منتصف العشرينات من عمرها، وكانت منخرطةً في الاحتجاجات ضد حرب فيتنام، وضد سياسة الحكومة اليابانية في السماح للقوات الأميركية بالبقاء في اليابان، حين تعرفت على القضية الفلسطينية وانخرطت في الفرع الأممي للجيش الأحمر الياباني، وجاءت إلى لبنان لمناصرة هذه القضية العادلة.
في كتاب أهدته لابنتها عام 1973، كتبت فوساكو: “في البداية، لم أكن مؤيدةً للعرب أو معاديةً لإسرائيل. لكن (في ذلك الوقت) كان للقضية الفلسطينية صدى فينا، نحن الشباب الذين عارضوا حرب فيتنام، والذين كانوا متعطشين للعدالة الاجتماعية”. وقد نفذت هي ومجموعة من رفاقها (هذه المجموعة ضمت نحو أربعين مقاتلاً يابانياً قدموا إلى لبنان سنة 1971)، بالتعاون مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عمليات مسلحة عدة في ما أرادوه أن يكون دعماً للقضية الفلسطينية، أشهرها عملية مطار اللد (مطار بن غوريون حالياً)، عام 1972، احتجاجاً على المساعدات اليابانية لإسرائيل، وعملية احتجاز رهائن في السفارة الفرنسية في هولندا في 1974، العملية التي نجحت في تحقيق هدفها بإطلاق سراح أحد عناصر الجيش الأحمر الياباني المحتجزين في فرنسا، وقد حوكمت فوساكو وتمت إدانتها بوصفها المدبرة الرئيسية لهذه العملية.
في حياتها ونشاطها واسمها وثمرة بطنها (الابنة اليابانية الفلسطينية التي “قررت ولادتها تحت شجرة التفاح”)، كانت فوساكو ورفاقها نقطةً بارزةً في ذلك اللون الصارخ الذي تكلّم وعبّر -وإن بأسلوب عنيف لم يوفر المدنيين- عن وحدة القضايا العادلة في العالم، ووحدة أنصار هذه القضايا، غير أن هذا اللون راح يتراجع ويبهت مع الوقت، وراح ممثلوه وحملته يهترئون في القبور والسجون والنسيان، وراحت قضاياهم تضمحل وتتحطم. لا يخفى هذا المعيار العالمي على مراقب.
صحيح أن محصلة ذاك العمل المسلح الذي اتخذ شكل الإرهاب لم تكن في صالح القضايا التي يجري الدفاع عنها، “كانت النهاية قبيحةً”، كما تقول فوساكو، لكن ذاك العمل كان بمثابة صراخ احتجاجي في وجه عالم لا يبالي بالضعفاء، ويبطش بالمحتجين، ويصعب عليه الاعتراف بحقوقهم أو بسوء أفعاله.
على باب السجن كانت تنتظرها ابنتها “مي” (لأب فلسطيني من قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حين كانت تنهض قلوب كثيرة لاسم هذه الجبهة)، بباقة من الورد وشال فلسطيني على الكتفين. وكان ثمة بضعة أشخاص مثل زهور في غير موسمها، يمسكون لافتةً تشبه اليأس، مكتوباً عليها “نحن نحب فوساكو”. وعلى باب السجن أيضاً، كانت مجموعة من الصحافيين الذين جاؤوا يقطفون من فم السجينة العجوز المحررة جملاً تزيّن هذا الخبر الهامشي، مثل “تسببنا بآلام لأشخاص أبرياء لا نعرفهم عبر إعطاء الأولوية لمعركتنا”، أو “آمالنا لم تتحقق وكانت النهاية قبيحةً”. صحافيون تستعجلهم عناصر شرطة مسلحون بالهراوات، جاؤوا كي يكتبوا “أعربت فوساكو شيغينوبو عن أسفها بسبب الكفاح المسلح لتحقيق مثلها الثورية”.
تغادر هذه المرأة سجنها وقد بلغت السادسة والسبعين من العمر، وتقف خارج الأسوار أمام العدسات كأنها علامة احتضار قضية، أو كأنها أثر حزين باقٍ من زمن غابر، أو كأنها شاهدة بيضاء على قبر مرحلة. وقد أرادت هي وأمثالها ألا تنتهي تلك المرحلة كما انتهت. ولكنها فشلت هي وأمثالها، وتقف اليوم بعيون ذابلة أمام العالم وتقول: “أعتقد أن اليابانيين الآن أصبحوا أقل اكتراثاً بالقضايا السياسية (…)، وأعتقد أن أفعالي وأفعال آخرين (ثوار يابانيين) ساهمت في ذلك”.
المغلوب يتأسف للعالم، فيما للغالب أن يصنع معايير الحق والعدالة، ويرى إلى ما تسبب به من ضحايا ودمار، على أنه ضريبة ضرورية لمحاربة “الإرهاب”، أو منتج ثانوي لصناعة الحق الذي يفرضه على العالم.
لماذا فشلت فوساكو وأمثالها؟ ألم تكن قضاياهم عادلةً؟ أم أن قضاياهم انتهت إلى هذا الحال من البؤس والتردي لأنها عادلة ولأن القوى المضادة للعدل هي الغالبة، ولأن الظلم ملح الأرض؟ أم أن المشكلة في أن أنصار القضية يكونون مشبعين بعدالة قضيتهم وغاياتهم إلى حدود تدفعهم إلى التطرف والتهور في الدفاع عنها؟ ولكن ألم يكن عدوّهم الذي يسعى إلى خنق قضيتهم أكثر تطرفاً في عنفه ووسائله؟ لماذا ينتصر العدو دائماً؟ أم أن استعمال وسائل العدو، العنف والإرهاب، هو ما قاد إلى ما يجعل سجينةً أكل السجن عمرها قبل أن يلفظها عجوزاً، تبدي أسفها على شكل احتجاجها ضد عالم ظالم، فيما لا يتأسف الغالبون في هذا العالم، ويظهرون على أنهم أدنى إلى الحق والعدالة، ويمتلكون القلم الذي يصنف القضايا والنضالات؟ يمكن ويجب على المغلوب أن يتأسف على أفعال حملت الأذى لأبرياء، ولكن لماذا لا يتأسف الغالب؟ وهل يبدو الغالب على حق إذا تأسف المغلوب؟
ليس في هذه الأسئلة دفاع مبدئي عن العمل المسلح، وليس فيه، على نحو خاص، أي ظل من دفاع عن استهداف المدنيين لمناصرة قضية ما، لكنها أسئلة تبحث عن تبديد ضباب الاعتياد وإقلاق راحة التسليم بما يفرضه الغالبون من حيف ومظالم كبرى، من دون أن تجد منهم من يأسف لها أو يعتذر عنها أو يقول كما قالت فوساكو: “لقد تسببنا بآلام لأبرياء”، القول الذي يراد له أن يأتي على لسان ضحية لكي يدين عنفاً دون عنف آخر (الاحتلال والاستيطان والقتل والتهجير والقمع…) أكثر هولاً واتساعاً، فضلاً عن كونه السبب الأولي لكل عنف تلاه. وكأن الحق يختار، بعد انتهاء الصراع أو انقلاب كفّته بوضوح، أن يضرب خيامه في معسكر الغالبين، وكأن الوعي والنفسية العامّين يعتادان على قبول الواقع الذي صنعته غلبة الغالبين.
رصيف 22