هوية ثورية
مايكل يونغ
يتحدث كريم سجادبور، في مقابلة معه، عن الاستراتيجية الإيرانية الكبرى، والمفاوضات النووية في فيينا، ومسائل أخرى.
كريم سجادبور باحث أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تركّز أبحاثه على الشؤون الإيرانية والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. مؤخرًا، كتب سجادبور مقالًا في مجلة “فورين أفيرز” بعنوان Iran’s Hollow Victory: The High Price of Regional Dominance (النصر الإيراني الأجوف: الثمن الباهظ للسيطرة الإقليمية)، تطرّق فيه إلى الاستراتيجية الإيرانية الكبرى، متحدّثًا عن الاستمرارية اللافتة في مقاربتها حيال الولايات المتحدة والشرق الأوسط. أجرت “ديوان” مقابلة مع سجادبور في منتصف نيسان/أبريل لمناقشة مقاله، إنما أيضًا للوقوف، بصورة أوسع نطاقًا، على الموقف الإيراني في الشرق الأوسط، ولا سيما أن المفاوضات الجارية في فيينا لإحياء الاتفاق النووي اصطدمت على ما يبدو بحائط مسدود.
مايكل يونغ: أين أصبحت محادثات فيينا لإحياء الاتفاق النووي مع إيران؟
كريم سجادبور: تبدو المفاوضات في فيينا – المستمرة منذ أكثر من عام – على مشارف الانتهاء أو الانهيار. يسود راهنًا تشاؤم بشأن احتمالات إحياء الاتفاق النووي المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة، على الرغم من أن واشنطن وطهران على السواء متّفقتان على أن معظم المسائل الأساسية قد سُوِّيت.
من النقاط الخلافية المتبقّية المطلب الإيراني بشطب الحرس الثوري الإسلامي عن قائمة التنظيمات الإرهابية الخارجية التي تضعها وزارة الخارجية الأميركية. تبدو إدارة بايدن منقسمة داخليًا بشأن تقديم هذا التنازل نظرًا إلى ضلوع الحرس الثوري في مقتل مئات الجنود الأميركيين في العراق، ناهيك عن آلاف المدنيين العرب والإيرانيين. وعلى الرغم من أن الاقتصاد الإيراني يعاني من وطأة العقوبات الشديدة، يبدو أن القادة في طهران لا يعتبرون أن المسألة ملحّة. فقد أدركوا خلال العام المنصرم أن الفرصة متاحة دائمًا أمامهم لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة من جديد، وأنهم إذا تمسّكوا بموقفهم، فسوف تجري الولايات المتحدة مفاوضات ذاتية وتعود إليهم في نهاية المطاف مع شروط مؤاتية أكثر لهم.
يونغ: كتبت في العدد الأخير من مجلة “فورين أفيرز” أن إيران نفّذت استراتيجيتها الكبرى باستمرارية لافتة، لكنها لم تحقق في الوقت نفسه أيًا من طموحاتها الكبرى، وأنها لا تستطيع تنفيذ الإصلاحات، لأنها لن تصمد على الأرجح أمام هكذا مجهود. هل يمكنك تفسير هذه المفارقة؟
سجادبور: تتطلّع إيران إلى إلحاق الهزيمة بالنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، واستبدال إسرائيل بفلسطين، وجعل الشرق الأوسط على صورتها. تشعر طهران بالزخم نتيجة النجاحات التي حققتها في العراق وسورية واليمن، وكذلك نتيجة تراجع الحضور الأميركي في المنطقة، بما في ذلك الانسحاب الأميركي الذليل من أفغانستان في العام 2021.
أظهرت العقيدة الثورية الإيرانية استمرارية على مدى أربعة عقود من الزمن ولن تتغير ما دام آية الله علي خامنئي هو المرشد الأعلى. تواجه الجمهورية الإسلامية، شأنها في ذلك شأن أنظمة ديكتاتورية كثيرة، معضلة إصلاحية لأن عليها الانفتاح كي تتمكن من الصمود، لكن القيام بذلك قد يؤدّي إلى تدميرها. لدى خامنئي اعتقاد راسخ بأن التخلي عن المبادئ الثورية، بما في ذلك معارضة إيران للولايات المتحدة وإسرائيل، أشبه بضرب أعمدة المبنى بواسطة مطرقة ثقيلة، والتعجيل في سقوط النظام بدلًا من إطالة أمد حياته. أعتقد أن خامنئي مصيب في حدسه بأن القمع، لا الإصلاح، هو الأساس لبقاء الجمهورية الإسلامية.
يونغ: ماذا تخبرنا عن خامنئي، وإلى أي حدٍّ يُعتبَر أساسيًا للاستراتيجية الإيرانية الكبرى؟
سجادبور: من الأسباب التي جعلت إيران تمتلك استراتيجية كبرى قد تكون الأكثر تماسكًا واستمرارية بين الدول خلال العقود الأربعة المنصرمة أنها عرفت قائدَين فقط في المنصب الأعلى منذ العام 1979. فقد ورث خامنئي، البالغ من العمر 82 عامًا، السلطة من آية الله روح الله الخميني في العام 1989 وحافظ على التزامه بعقيدة الخميني الثورية. لقد ارتقى إلى المنصب الأعلى واحتفظ بنفوذه في سياق الوضع القائم. على الأرجح أن التطبيع الأميركي-الإيراني سيكون، في نظر خامنئي، عامِلًا مزعزِعًا للاستقرار أكثر بكثير من الحرب الباردة المستمرة مع الولايات المتحدة.
يونغ: كتبت أن من حسن حظ حلفاء إيران الإقليميين أنهم لا يُلامون على الشوائب في حكم بلدانهم، فاللوم يُلقى كاملًا على الحكومات الوطنية. ولكن في لبنان، شهدنا نزعة مختلفة، حيث يُنظَر إلى حزب الله على نحو متزايد بأنه المدافع الأساسي عن المنظومة الفاسدة والنخبة السياسية. إذًا، في ضوء النفوذ الكبير للمجموعات الموالية لإيران في الدول العربية، إلى متى يمكن أن تدوم هذه الدرجة من الفصل بين تلك المجموعات والمسؤولية عن الحوكمة السيئة؟
سجادبور: ثمة مسألتان منفصلتان، اللوم والمساءلة. قد يلوم اللبنانيون حزب الله بصورة متزايدة على الضيق الذي تعاني منه البلاد، لكن الأمثلة عن مساءلة الحزب ضئيلة. على الرغم من دور حزب الله في الأحداث المروّعة – بما في ذلك اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في العام 2005، وانفجار مرفأ بيروت في العام 2020 – ينجح الحزب باستمرار في التهرّب من المساءلة من خلال تهديد خصومه وإحكام الخناق على القضاء.
لا يتعرّض أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، للتدقيق المالي والانتقادات التي يواجهها أقرانه في السياسة اللبنانية. نادرًا ما نسمع دعوات لاستقالة نصر الله، ربما لأنه يُنظَر إليه بأنه مَدينٌ لإيران، وليس للبنان.
حاولت إيران استنساخ نموذج حزب الله في العراق واليمن، أي بصورة أساسية ممارسة النفوذ من دون الخضوع للمساءلة. تستخدم طهران وأذرعها، تمامًا كما المافيا، القوة والترهيب والرشاوى لتكريس مصالحها، لكنها لا تريد المساءلة التي هي جزء من ممارسة الحكم. بعبارة أخرى، لا يمكن اتخاذ قرارات سياسية كبرى من دون موافقة طهران، إنما إياكم وتحميل إيران مسؤولية الفساد وعدم الكفاءة في الحكم.
ثمة مؤشرات وافية على الاستياء الشعبي من إيران وأذرعها. تُظهر استطلاعات الرأي أن نحو ثلثَي الشباب العرب في المنطقة ينظرون الآن إلى طهران بأنها خصم، وتريد أكثرية كبيرة من العرب من مختلف الأعمار أن تنسحب إيران من النزاعات الإقليمية، ولدى أكثر من نصف الشيعة العرب رأي “غير مؤيّد” لإيران. في الأعوام الأخيرة، هاجم محتجّون عراقيون القنصلية الإيرانية في كلٍّ من النجف وكربلاء – اللتين تضمان مقامات دينية شيعية وتشكّلان منذ وقت طويل معقلًا لإيران في العراق – وأشعلوا النيران فيها، ونظّم شيعة لبنانيون احتجاجات ضد حزب الله في مدينة النبطية جنوب لبنان.
يونغ: كيف تهدّد الاستراتيجية الإيرانية الكبرى النظام الإيراني على الجبهة الداخلية؟
سجادبور: يُعرّف المؤرّخ جون لويس غاديس الاستراتيجية الكبرى بأنها “مواءمة الطموحات التي يُرجَّح أنها غير محدودة مع القدرات المحدودة حكمًا”. لقد استثمرت إيران قدراتها المحدودة في العمل على تحقيق تطلّعها إلى إنهاء النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة أكثر مما فعل أي بلد آخر في العالم على الأرجح، بما في ذلك الصين وروسيا. ومن خلال قيامها بذلك، أهملت رفاه شعبها وأصبحت أكثر فقرًا وأقل أمانًا. علاوةً على ذلك، ونظرًا إلى الهوة بين طموحات الجمهورية الإسلامية وقدراتها، سوف تواصل إيران استنزاف مواردها الوطنية لتمويل الميليشيات الإقليمية والنزاعات الخارجية، ما يتسبّب باستفحال الغضب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لدى الرأي العام، ويفرض اللجوء إلى مزيد من القمع.
تجدر الإشارة إلى أن الأهداف الإيديولوجية للجمهورية الإسلامية ومصالح إيران القومية أمران مختلفان. إذا أخذنا تعريفًا بسيطًا لـ”المصالح القومية” – أي تلك التي تساهم في تحفيز أمن السكان وازدهارهم – من الواضح أن عقيدة “الموت لأمريكا” التي قامت عليها الثورة الإيرانية جعلت حياة المواطنين الإيرانيين أكثر فقرًا وأقل أمانًا.
يونغ: كتبتَ عن الولايات المتحدة: “يعتقد تقدّميون كثر أن تعنّت طهران هو مجرد ردّ فعل على السياسات الأميركية المعادية، في حين أن محافظين كثرًا اعتبروا أن المشقات الاقتصادية المتعاظمة ستدفع بطهران مرغمةً إلى الاختيار بين إيديولوجيتها وبقاء النظام…” هلا تشرح لنا موقفك من الرأيَين؟
سجادبور: غالبًا ما تتمحور نقاشات السياسات الخارجية في الولايات المتحدة حول ما إذا كانت أميركا هي المشكلة أو الحل. هل كانت أميركا وراء قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا، أو هل تستطيع أميركا تغيير طبيعة السلطة السياسية في موسكو؟ يصف مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق إيتش آر مكماستر ذلك بأنه “نرجسية استراتيجية”، في إشارة إلى النظرة القائلة بأن جميع الأحداث العالمية هي ببساطة ردّ فعل على الولايات المتحدة، وبأنه ليس للحكومات الخارجية والمستبدّين تأثيرهم الخاص.
في سياق العلاقات الأميركية-الإيرانية، تعتقد إدارة أميركية جديدة، كل أربع إلى ثماني سنوات، بأنها تستطيع معالجة التحدي الإيراني من خلال اتخاذ خطوات مناقضة لما قامت به الإدارة السابقة. أظنّ أن الخطأ الذي يقع فيه الجانبان هو أن العقيدة الثورية للجمهورية الإسلامية هي جزء لا يتجزأ من هويتها، وليست وليدة السياسات الأميركية الضعيفة أو المتصلبة. فالحوافز والضغوط الأميركية لن تنجح في أن تفرض على الجمهورية الإسلامية أو تدفعها بالإكراه إلى تغيير هويتها.
يونغ: على الرغم من الخصومة بين الولايات المتحدة والصين على الساحة العالمية، ألمحت إلى وجود قواسم مشتركة بينهما في ما يتعلق بإيران. هلّا تشرح ذلك، ولا سيما أن الصينيين مدّوا إيران بشريان حياة اقتصادي من خلال شراء النفط منها وتوقيع اتفاق تعاون معها لمدة 25 عامًا؟
سجادبور: تتباين آراء الصين والولايات المتحدة في المسألة الإيرانية، إنما لديهما مصلحة مشتركة في استقرار الشرق الأوسط والتدفق الحر للطاقة من المنطقة. في الأعوام الماضية، شنّت إيران وأذرعها هجمات على منشآت “أرامكو” السعودية، وناقلات النفط في الخليج الفارسي، والمطارات المدنية في السعودية والإمارات، ولم يصبّ أي من هذه الهجمات في مصلحة الصين. صحيح أن إيران تعتمد اقتصاديًا على الصين، إنما صحيح أيضًا أن التجارة الصينية مع السعودية والإمارات تتفوّق بأشواط على التجارة الصينية مع إيران.
مع التقارب بين القوى العظمى، على الرغم من الاختلاف في وجهات النظر بينها، للتوصل إلى مقاربة قائمة على الحد الأدنى من القواسم المشتركة من أجل احتواء طموحات إيران النووية، السؤال المطروح هو ما إذا كانت واشنطن وبيجينغ وقوى كبرى أخرى ستتمكّن من التوصل إلى مقاربة قائمة على الحد الأدنى من القواسم المشتركة في ما يتعلق بالأمن في الشرق الأوسط. في المدى القصير، الحظوظ ضئيلة بحدوث ذلك، نظرًا إلى أن اهتمام المجتمع الدولي ينصبّ على الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن مع تنامي الوجود الصيني في المنطقة، من الطبيعي أن تؤدّي بيجينغ دورًا قياديًا معزَّزًا في معالجة التحديات الأمنية الإقليمية التي تقوّض مصالحها الأساسية، والتي يرتبط قسمٌ كبير منها بإيران.
يونغ: لماذا سيتبيّن أن النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عابِر، كما كتبت في مقالك في مجلة “فورين أفيرز”؟
سجادبور: أشبّه الوجود الإيراني في الشرق الأوسط حاليًا بناطحة سحاب ذات أساس متعفّن. البلدان حيث تمارس إيران تأثيرًا – سورية ولبنان والعراق واليمن – هي دول فاشلة ترزح تحت وطأة النزاعات والفساد والمعاناة الاقتصادية بدرجات مختلفة. ليست للوجود الإيراني في المنطقة قيمة إنقاذية تُذكَر للمجتمعات حيث تمارس إيران نفوذها. وفي ما يُشبه إلى حد كبير ما حدث في العقود الأخيرة للاتحاد السوفياتي، أكثر المعجبين بـ”محور المقاومة” الإيراني هم أولئك الذين لا يعيشون في ظلّه.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.