عن الكتابة القَطْعية في سوريا… في مديح “السلَفية السجالية”/ عبدالله أمين الحلاق
في مقالي السابق في رصيف22، ذهبتُ إلى الحديث عن الدور الذي لعبته سجالات صادق جلال العظم مع آخرين، في خلخلة الكثير من الوعي السابق بالقضايا لدى جيلنا، وفي تحريك الأجواء الفكرية والنقاشات التي لم تكن راكدة آنئذٍ كما هي راكدة اليوم، وهذه مفارقة تستدعي النقاش.
فاندلاع الثورة السورية رافقتْهُ طاقة تحرّر كبيرة على مستوى “النشاط السياسي”، وعلى صعيد اللغة والصورة والقراءات والكتابات الجديدة التي كانت ممنوعة أو ممتنعة، قبل عام 2011، وتستمر حتى اليوم بصيغ وأشكال مختلفة. لكنّ مسار تلك الكتابات، ومع بعض التعميم الذي لا يلغي استثناءات هنا وهناك، كان ولا يزال هو نفسه منذ لحظة عام 2011 وحتى إلى ما بعد تراجع الثورة ثم هزيمتها.
في البداية، كانت هناك محفّزات للكتابة عن المستقبل المنشود الذي حلمنا به كسوريين منضويين في صفوف تلك الثورة. أما بعد تحوُّل الصراع تلك التحولات الرهيبة، وتحوُّل سوريا إلى بلد بلا أفق منظور وبلا إمكانية للتنبؤ بمآلاته، إلا باستخدام التنجيم وقراءة الكف والأبراج، وعلى رأسها “برج الأسد”، فإنه من المستغرب أن يتكرّس اليقين وأن تثابر الكتابات السورية في أغلبها على إعطاء أجوبة “قطْعية”، تصدر عن “قطْعيّين” يفترض أنهم مشتغلون بالعمل السياسي وما يصاحبه من ديناميكيات، أو بالثقافة وما يتفرع عنها من فضاءات رحبة مضادة لليقين.
فإذا كتبَ “القَطْعيّون” اليوم عن مستقبل سوريا، “فاجأونا” بأن الحل هو “الديمقراطية”، وإذا قدّموا ورقة عن التخلف الاجتماعي، قالوا إن الحل هو بتحرير المرأة ومساواتها مع الرجل ونبذ العصبيات. وإن كتب أحدهم حول تصوره لمستقبل سوريا، أنبأَنا أن “العلمانية هي الحل”، وبأن “سوريا ليبرالية حداثية ستكون مستقبلنا بعد التغيير السياسي”. وعندما نسأل، من باب الفضول وحب المعرفة وحسن النية، عن كيفية تحقيق الديمقراطية، يأتينا الجواب بأنه يتم عبر”تلاحم قوى الشعب”، وهو تلاحمٌ يمكن بلوغه، بلا شك، من خلال “رص الصفوف وتوحيد الكلمة وإعلاء راية الحرية”، من دون أن ننسى ضرورة “الترفّع عن الانقسامات والخلافات وكل ما يؤثر على وحدة الشعب السوري العظيم من أجل بلوغ الغد المنشود والمشرق لسوريا، مهد الحضارات والأبجدية”.
“يتميز” هذا النوع من الكتابات بـ “ميزتين” رئيسيتين:
الأولى، أنه يقدم حلولاً وخلاصات وأفكاراً هي ذاتها الأفكار التي نحملها، كسوريين كُثر، عَلمانيين، على علاقة طيبة بالغرب وبـإرث التنوير الاوروبي غير الخطّي بطبيعة الحال، وديمقراطيين، أقلُّه كما نقول عن أنفسنا. والثانية، أن هذا التقاطع في الأفكار يبقى ضعيف القيمة، لأنه لا يتيح توافقات “كتابية” وسياسية ومعرفية بين القَطْعيين وغير القَطْعيين في التفكير والكتابة والعمل المشترك، رغم علمانية وحداثية وديمقراطية كليهما.
الكتابة القطعية إذ تُؤدْلج سوريا
الكتابة القطعية كتابة “لا تاريخية”، تنطلق من أفكار تراها عابرة لكل زمان ومكان، وهي بهذا تشبه الدين، مع فارق أن أفكار القَطْعيين، في حالتنا هذه، هي أفكار وفلسفات وقيم وسياسات قامت عليها تجارب بلدان كثيرة ونجحت، خصوصاً في الغرب. إلا أن هذا النجاح هو الذي يضع القطعيين ونصوصهم في خانة “اللاتاريخية”. فمن دون قراءة عوامل نشوء النهضة الأوربية والثورة الصناعية والفلسفات السياسية التي صاغت العالم الغربي في القرنين الأخيرين، يتم ترديد كلمات كـ “العلمانية” و”الليبرالية” و”الاشتراكية الديمقراطية” و”الحداثة” و”علم الاجتماع السياسي” بشكل دائم، واستعراضي أحياناً، دون البحث في الأسباب والمناخات التي كانت معيقة لتأصيل تلك القيم وتبيئتها في المجتمعات العربية، وهي بالدرجة الأولى سياسية طبعاً ذات علاقة بالأنظمة، وبالنظام السوري في حالتنا، لكنها أيضاً ثقافية ودينية واجتماعية تنهل من أزمنة سابقة.
وفيما خصّ الأزمنة السابقة، فإنه كثيراً ما يتم استحضار الخمسينيات السورية وبعض الستينيات، للحنين إلى “زمن وعصر ذهبي” عاشته البلاد، وهي مرحلة كانت غنية فعلاً بـ “الاحتمالات التي دكّتها الانقلابات العسكرية”، على حد تعبير حازم صاغية. وهو حنين مفهوم بعد كل ما شهدته سوريا وما كابده أُناسها، ولكنه يفتقد إلى الحُجج عندما تتم الكتابة عنه بصفته أفقاً للبلاد، بعيداً عن التحولات التي عاشتها، ومع التعامي عن صراعات طائفية وإثنية ودينية يبدو أنها هي التي سترسم شكل سوريا القادمة، يراها القطعيون بسيطة، وعابرة، إلى جانب القفز عن واقع يقول بضعف وتدنّي احتمالات استمرار الكيان السوري على ذات الشكل الذي كانه.
لقد كانت سوريا في بعض سنوات الخمسينيات مكاناً تتواجه فيها، ديمقراطياً وبرلمانياً، تيارات إيديولوجية بامتياز، شيوعية وقومية عربية وإسلامية بشكل رئيس، وهذا يبقى صحّياً ومطلوباً كائناً ما كان الرأي بتلك الإيديولوجيات، إلا أن هذه الأخيرة شكّلت منذ تلك الفترة وعي جيل كامل ثم وعي أجيال لاحقة حتى اليوم، وازدادت صلابة لدى قطاعات واسعة من المثقفين والسياسيين، على رغم التحولات التي شهدها العالم.
صحيح أن التركيز في الكتابات السورية منذ التسعينيات وحتى اليوم بات تركيزاً على سوريا، وهذا ضروري، لكنه جعل من البلد معطى مقدساً، يستلهم الإيديولوجيات الميتة والعابرة للحدود لدى التفكير بالبلد وبمصيره، وحدةً وطنيةً وشعباً واحداً وروابط ونقاءً لا تعكّره الشوائب. ولهذا بالضبط، أي انطلاقاً من عدم الاعتراف بالكارثة وتجاهلها لصالح اليوتوبيا، تحوّلَ التفكير بسوريا إلى تفكير إيديولوجي، وتحولت سوريا نفسها إلى إيديولوجيا!
في ستينيات القرن الماضي، كتب مثقف سوري بارز هو ياسين الحافظ، عمّا أسماه بـ “الوعي المطابق”، وهو وعي “يؤدي الارتطام بصخرة الواقع في ظل غيابه إلى قفزة من الرومانسية الثورية إلى الواقعية المحافظة الاستسلامية”. وفي السياق عينه، يتابع صاحب كتاب الهزيمة والإيديولوجية المهزومة (1991) حديثه عن هذا النمط في التفكير بالقول إننا “نريد أن نجمع “المجد” من أطرافه، لذا نحاول أن نكون “بتاع كلّه”: الماضي والحاضر، القديم والحديث، التقليدي والعصري، متجاهلين أن الحديث، في تجارب الشعوب المتقدمة، لم يتكون إلا على أشلاء القديم، وأن المستقبل جُبل في عملية تناقضية مع الماضي الوسطوي، وأن العصري تبلور مع مطاردة التقليدي”.
قد يكون هذا التوصيف الذي كتبه الحافظ قبل نصف قرن من الزمن، ملائماً كثيراً لوصف كتابات سورية لم تغادر الماضي الذي مات فعلاً، وتحاول إحياءَه بتلفيق ثقافي أساساً، ثم سياسي. فالعالَم السوري القديم قد زُلزل وانهار، ومعه سوريا وخمسينياتها وستينياتها وبعض الاحتمالات التي كانت قائمة في سبعينياتها، لكنّ الكتابات القطعية تبقى كتابات مضادة للزلازل، يعجز أمامها مقياس ريختر بالمقدار الذي تعجز فيه، هي نفسها، عن قياس حجم ما حصل وعن محاولة تفسيره والبحث فيه، خشية أن يتداعى عالمها التوراتي الذي لا تزال تنهل منه.
السلَفية السِّجالية”
لم يأت الاستشهاد أعلاه بياسين الحافظ من فراغ. إنه استشهاد يركز على وعي مطابق يغيب اليوم عن كتابات وتنظيرات وثقافة عدد من المنظّرين للحالة السورية. وهو يحمل دلالة على تقدم بعض الكتابات السورية قبل عقود على الكثير مما يُكتب ويفكّر فيه اليوم، ويجعل من التطور المعرفي مرهوناً بالنص المكتوب وبأدوات التفكير والتحليل، كما هو الحال مع نص الحافظ، لا بالعمر أو الزمن الذي كتب فيه، ولا بـ “دور الشباب والمهندسين والأطباء والصيادلة والعمال وصغار الكسبة والجمعيات الحرَفية” على ما يتم الترويج اليوم وبكثرة، وهذا يعيدنا إلى صادق العظم نفسه.
فالسجالات التي خاضها العظم وجورج طرابيشي وغيرهم مع آخرين، كانت قرينة على أهمية الأفكار القابلة للاشتباك معها والمثيرة للنقد والنقاش والجدل، على عكس كثير مما يكتب اليوم من نصوص تجعل التاريخَ خطياً، والتطور حتمية، والديمقراطية والعلمانية والليبرالية و… أفقاً أكيداً، بحيث تغلَق أبواب السجال والاختلاف مع النص القطعي، الحديدي، والموصَد من كافة جوانبه.
لهذا كله، ولغيره أيضاً، لا يخفي كاتب هذه السطور غرَقَه الحالي وإعجابه بما يقترح تسميته بـ “السلفية السجالية”، حيث القراءة اليومية لجدالات ومناظرات ولكتب مؤسِّسة كتبت قبل عقدين أو ثلاثة أو أربعة. وهي السلفية الوحيدة التي قد تكون مقبولة، من وجهة النظر الشخصية، في الفضاء الثقافي العربي والسوري، ومن دون أن تبخس قدر كتابات معلِّمة وجديدة وواعدة تكتب وتنشر اليوم في سوريا والعالم العربي، ما تزال في بداية طريقها وفي بداية محاولتها إعلان القطيعة مع النص القطعي.
فالعظم وطرابيشي مروا بالماركسية، وكانوا إيديولوجيين في فترات من حياتهم بشكل أو بآخر، كما أن ياسين الحافظ كان ممن حاولوا خلق مصالحة أو توافق بين الفكر القومي العربي والماركسية غير السوفييتية، وهذا ما لن يصمد اليوم بطبيعة الحال.
لكنهم كانوا كتاباً نقديين، غير قَطْعيين، متقدمين بما كتبوه في سياقهم التاريخي قبل عقود، على نصوص مُملّة تفيض علينا اليوم من هنا وهناك… نصوص كُتبت بعد ثورة غيرت كل شيء تقريباً، إلا أنها لم تغير النظام الحاكم، لسوء طالعنا جميعاً، كما لم تغير في الكتابة القطعية الغارقة في اليقين وفي الكسل المعرفي، ولا يبدو أنها ستفعل.
رصيف 22
—————————-
الجزء الأول من المقالة
إن لم يجد خصماً اخترَعَه… صادق جلال العظم “مساجلاً” مصطفى طلاس/ عبدالله أمين الحلاق
يأخذ كثيرون من الكتاب والمثقفين العرب على أستاذنا الراحل صادق جلال العظم، غرَقَهُ في الكتابة السجالية، وحيازة هذه الأخيرة لمساحات ليست قليلة من مؤلفاته، وخصوصاً المؤلفات التي تضمنت الاشتباكات الفكرية للعظم مع خصوم له في الضفاف المقابلة، وأحياناً مع “أصدقاء لدودين” قد يقاسمونه ويشاركونه عدداً من قناعاته.
ولعل أول ما يتبادر إلى الأذهان لدى ذكر سجالات العظم الكثيرة، كتابا “ذهنية التحريم” و”ما بعد ذهنية التحريم”، حيث الدفاع الأصيل عن حق سلمان رشدي في الكتابة والحياة، والسجالات مع أدونيس وهادي العلوي وعلي حرب وآخرين كُثُر، وقبل ذلك، اشتباكه الفكري والمنهجي وسجاله مع إدوارد سعيد في “الاستشراق والاستشراق معكوساً”، والذي جرّ عليه عدداً من الاتهامات كالَها له عميد المكارثيين العرب ومؤلف كتاب “الاستشراق”: سِفر الممانعة العربية ومرجعها الرئيس.
دوافع السجال ومسبباته المفترَضَة
ذاك أن صادق العظم كما يلاحظ أحد نقاده “لا يستطيع ممارسة فعل الكتابة، إجمالاً، إلا في مواجهة خصم، وهذا إلى حد أنه إذا لم يجد خصماً اخترَعَه”. وهو قول قد لا يجانب الحقيقة فعلاً، لكن ربما حوّله العظم نفسه إلى “ميزة” كما يقول، مثلاً، في حوار أجراه معه ماهر الشريف:
“نعم. حين أكتب وأفكر وأحلل وأناقش وأطرح الآراء والأحكام، أحتاج إلى من أحاوره وأنتقده وأتناقض معه أحياناً وأتفق معه أحياناً أخرى، جزئياً أو كلياً، كما أفضل الانطلاق مما طرحه غيري حول مسألة من المسائل، وأن آخذ بعين الاعتبار، سلباً أو إيجاباً، ما توصل إليه الآخرون من نتائج قد أستند إليها وأختلف معها. ولا أرى في هذا كله إلا ميزة عالية ومتقدمة، لأني أعي جيداً أني لا أعمل في الفراغ ولا أتصرف عموماً وكأنني أنطلق من نقطة الصفر”.
انطلاقاً من كلامه أعلاه ومن كتاباته، يبدو العظم كاتباً سجالياً ومساجلاً، ليس لرغبة منه دائمة أو لنزوع مجّانيّ إلى السجال، بل ربما انطلاقاً من ضرورة كون الكتابة، وخصوصاً الكتابة العربية، كتابة يفترض بها أن تشتبك مع نص أو حالة أو فكرة أو نظام سياسي واجتماعي، بحكم تراكم الكوارث والقضايا والمسائل التي تنهل من اليقين والمقدس، ومن التبسيط والسذاجة في طرح الحلول. فالخمسينيات والستينيات التي كانت تحفل بالإنشاء الكلامي، وهو ما تشهد عليه مقولة ميشيل عفلق من كونه كتب وألّف عدداً من الكتب من بنات أفكاره ومن دون أن يحتاج إلى قراءة كتاب واحد، تستمر حتى اليوم، وبما يجعل تلك العقود، في بعض الأحيان، صنو العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، من حيث آليات وأنماط التفكير والاستنتاج الرائجة اليوم، ومن حيث أدوات الكتابة والذهاب سريعاً إلى تقديم حلول.
غير أن الستينيات نفسها شهدت مواجهة صادق العظم لمؤسسات مكرسة، دينية وسياسية واجتماعية وثقافية، من خلال كتابه- الصدمة “نقد الفكر الديني”، والذي أوصله وناشر الكتاب إلى المحكمة، في بيئة كانت تستقل من التفكير والتجرّؤ على المحرمات، وخصوصاً تابو الدين. كما أن صادق، في العقدين الأولين من الألفية الثالثة، كان المثقف المساند لتجربة “ربيع دمشق” بين عامي 2000 و 2001، والمنحاز إلى الثورة ضد بشار الأسد منذ عام 2011 وحتى رحيله. وهو، وعلى رغم الاختلاف مع بعض أفكاره بعد الثورة، كان دائماً يثير النقاش بما يكتبه وما يقوله حول مسائل سورية وعربية كثيرة.
وفيما خص السجال أيضاً والدوافع إليه، يرى أستاذ راحل آخر هو جورج طرابيشي، أن صادق العظم “ليس مجرد هاوٍ للجدال والسجال ولممارسة التقاليب النقدية. فمؤلف ذهنية التحريم لا يضع في الكفة الأخرى للميزان سوى حياته”. لقد خلقَ من خلال ممارسته النقد، ونقد النقد، ونقد نقد النقد، قضية من الوزن الثقيل. فمنذ صدور كتاب “ذهنية التحريم”، والكلام هنا لطرابيشي، “تحولت الآيات الشيطانية من قضية عالمية إلى قضية عربية أيضاً… وحسبنا تدليلاً على ما نقول الإشارة إلى أن عدد النصوص المنشورة في (ما بعد ذهنية التحريم) والتي راوحت مواقف أصحابها بين الدفاع والنقد، بل النقض، قد بلغ 23 نصاً.. وقد أفلح ص. ج. العظم في أن يستجر إلى السجال ناطقين بلسان أبرز التيارات الفكرية والأيديولوجية في الساحة الثقافية العربية، وبخاصة منها التيار القومي والماركسي والليبرالي والإسلامي. وليس من قبيل المصادفة، من وجهة النظر هذه، أن يكون في عداد جملة الردود المنشورة نص لمحمد الموسوي، الكاتب في مجلة (العهد) التابعة لحزب الله، ونص للعماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري في حينه”.
السجال مع مصطفى طلاس
كان السجال مع طلاس مختلفاً بدرجة كبيرة عن سجالات أخرى مع العظم، على ما نرى، لسبيين:
الأول، لأن وزير دفاع حافظ وبشار الأسد استطاع كتابة نص يساجل فيه مثقفاً بمستوى العظم. فلا نظام الأسد ولا عسكره ولا ضباطه ولا جيشه العربي السوري ولا “مؤسساته” الثقافية قادرة على التنطح الفكري لقامة مثل العظم، اللهم إلا من خلال التخوين والاتهامات البعثية الرائجة، أو الأذية الجسدية كـ “سجال” أقصى كما حصل مع كثيرين. والثاني، معطوفاً على الأول، أن نص طلاس، إن كان طلاس هو من كتبه فعلاً، لم يغادر اللغة البعثية والمحتوى الذي وصل إلى حد إنكار وجود شخصيات مكرسة ووازنة في التاريخ العربي، واعتبارها شخصيات من وحي خيال الزنادقة.
فطلاس يهاجم أدونيس مفترضاً أن دوراً يهودياً قد أوكل إليه ليكتب ما كتب، ويهاجم نجيب محفوظ معتبراً إياه جزءاً من مؤامرة. ويكتب مخاطباً العظم: “وكيف يتأتى القول بأن علينا أن نجعل من العبث حجة لإزهاق الحق؟ هذا، ولعلك إن عدتَ بشيء من التنقيب والتحقيق في كل هذا الذي نقلت من سخرية بالإسلام أو القرآن، ولعلمك أنها فصول من الكلام الحاقد حيكت من قبل زنادقة في الظلام، ثم ألصقت بأبطال وهميين لا وجود لهم”. (ما بعد ذهنية التحريم. طبعة دار المدى. ص 349). وهو يضع شروطاً لحرية الكتابة والإبداع على سلمان رشدي بالقول: “ليس لك يا أخ جلال أن تجهل أمراً بديهياً يعرفه سائر المثقفين، وهو أن من حق الفن الروائي عندما يدخل في حقل الأحداث والتاريخ الواقعي أو تراجم الرجال، أن يتخيل وينسج من الأحلام صوراً شاخصة أو متحركة، على أن يسير ذلك مع تيار الواقع لا عكسه…”. (ما بعد ذهنية التحريم. ص 338).
أخيراً، يختم وزير دفاع الأسد نصه بكلمة لباسكال يقول فيها: “الناس ثلاث فئات: فئة بحثت عن الحق فعرفته فاستمسكت به، وفئة جادة في البحث عنه، وفئة لم تعرفه ولا هي جادة في البحث عنه. فهذه الفئة ثقل وعالة على الإنسانية كلها” متمنياً على من يسميه بـ “الأخ جلال” أن لا يكون عالة على الإنسانية ولا يتطوح في الضباب.
طبعاً، وكالعادة، كتب العظم نقداً للنقد، وساجَل طلاس وردّ عليه في نص طويل حمل عنوان “سرير بروكروستوس”. وبروكروستوس هو أحد أبطال الأسطورة اليونانية القديمة، كان يحكم على طول أجسام الناس وفق معيار واحد هو طول سريره الحديدي، وكان أيضاً يعيد تفصيل هؤلاء قسراً بما يتناسب مع حجم السرير، “فيقطع الفائض في الطول عند اللزوم ويشد ويمطّ قصار القامة إلى أن تتلاءم أحجامهم مع السرير إياه”.
فالعظم، كما يوضح في نصه المذكور سابقاً، كان يحيل القارئ إلى الطبري مثلاً، ليرد طلاس بإخراج الطبري من الساحة كلياً، مختزلاً إياه إلى كاتب “عرف بولعه بالتجميع وبالأخبار الغريبة ولا سيما بالدسّات اليهودية التي تبناها الجهلة وشجع الحكام عليها من جهة أخرى، وبالروايات الضعيفة وبالأكاذيب”. وإذا فتش العظم في مرويات التراث التي لها علاقة بـ “الآيات الشيطانية”، “ردّ طلاس باستبعاد هذه المرويات كلها بعد إدراجها في خانة الأكاذيب المخترعة والحكايات التافهة، بالإضافة إلى نعتها بـالإفك”. وإذا استدعى أعمال ابن الكلبي والواقدي، رد الضابط السوري بإدراج هذه الأعمال وأصحابها في “قائمة المخربين السوداء”، مستنتجاً انه “ما دامت إسرائيل والصهيونية قائمتين فإنهما واجدتان، دون شك، عشرات سلمان رشدي كما أوجدتا من قبل الواقدي وكعب الأحبار”.
إن سرير بروكروستوس في حالة وزير الدفاع الراحل هو نظرية المؤامرة الصهيونية حيناً، وتقديس التراث كما يكتبه سدنة وفقهاء معاداة الحرية والفلسفة والتفكير، أحياناً أخرى، في خلطة غريبة قد تجمع مادتي “التربية القومية الاشتراكية” و”التربية الإسلامية” اللتين كانتا تدرّسان في مدارس حزب البعث العربي الاشتراكي، وتُطمْئِنان البشر المطيعين والمنصاعين إلى التعاليم والتعليمات إلى بلوغهم الجنة الأرضية (الوحدة العربية الشاملة) والجنّة السماوية (الفردوس الأعلى)، على عكس نار جهنم التي سيقيم فيها، مخلّداً بالطبع، كل من العظم ورشدي وكاتب هذه السطور ومليارات آخرون معنا من البشر.
يختم العظم نصه السجالي مع طلاس بالقول: “لن أكتم العماد بأني أحسده على الطمأنينة الذهنية والنفسية والروحية الكاملة والعميقة، والتي تشع من كل سطر من سطور مقاله، إلى أنه قابض على الحق تماماً، متيقن، دون أدنى ريب، من كل ما يميز الحق عن الباطل في هذا العالم. متأكد، دون أي تردد، من ماهية المقدس وماهية عكسه. أحسده لأنه ليس باستطاعتي الادّعاء، بأي مقدار من الأمانة والصدق مع النفس، بأني أملك مثل هذه الطمأنينة العقلية والعاطفية والروحية، إذ أني لم أتصالح مع نفسي ومع مجتمعي ومع هذا العالم إلى هذا الحد بعد”.
والحال، وعلى سبيل الخاتمة، أن كاتب هذا المقال لا يملك بدوره إلا أن يحسد صادق جلال العظم على قدرته وعلى صبره وتحمله مشقة السجال مع طلاس ومع نص مثل نصـ”ـه”، لكنه في الوقت عينه لا يملك إلا أن يشعر بالامتنان له على تكبده عناء هذا السجال وسجالات أخرى كثيرة، كانت وما تزال شارحة لأنماط ومدارس في التفكير والكتابة، ولتيارات محافظة وكسولة ازدادت رسوخاً وكسلاً وتخلفاً، على رغم الزلازل والبراكين التي انفجرت في تلك المنطقة منذ عقود وخصوصاً في عقد الثورات العربية الأخير، ولهذا العقد ولثقافته وللمحافَظَة والسلفية الفكرية فيه، كما لغياب السجالات والجدالات المثمرة خلاله، حديث آخر يطول…