الإخوة كارامازوف… راهب يذهب إلى الدنيا/ راتب شعبو
كنت قد قرأت الإخوة كارامازوف هذه المرة بنسختها الكاملة (4 مجلدات، حوالي 1300 صفحة) بترجمة ساحرة لسامي الدروبي، رغم أنها مترجمة عن لغة وسيطة هي الفرنسية.
يمكن للقارئ، إذا تأمل، أن يرى في هذا العمل الفذ تجسيداً روائياً لضياع وحيرة روسيا في إدراكها ذاتها، في تصادم نزوعاتها المتعارضة التي يمثل كل واحد من الإخوة كارامازوف الثلاثة أحدَها. النزوع الفطري غير المثقف، الذي يمكن اعتباره “الطبيعة” الروسية، يمثله الأخ البكر “ديميتري ” الضابط الذي يختلط فيه الخير والشر اختلاطاً عجيباً، خليط من البساطة والعنف والاندفاع والشهامة والشهوانية والطمع. والنزوع إلى الغرب العقلاني الإلحادي، الذي يمثله الابن الأوسط “إيفان”، المثقف وطالب العلم والكاتب الذي يصر على أن “كل شيء مباح، وما ينبغي أن يحرم شيء بعد الآن” في تحد صريح ومروّع للدين. ويمثل الابن الأصغر “ألكسي” أو أليوشا الراهب، النزوع الثالث الذي يعكس ما يمكن اعتباره “روح الشعب الروسي”.
أما الأب، الجذع الذي تنمو عليه هذه الفروع الثلاثة، فإنه يمثل روسيا نفسها التي ينفر منها أبناؤها بقدر ما ينتمون إليها. يجعل الكاتب من ألكسي عصب العمل ومعناه الأعمق، رغم أنه ذو صلة ضعيفة بالحدث الأساسي للرواية الذي هو جريمة قتل الأب. في النظر الأولي يمكن اعتبار ديميتري بلا تردد بطل العمل، ويمكن للقارئ المحاججة في أنه هو فعلاً بطل العمل وعصبه، ولكن الكاتب، في افتتاح كلمته الأولى “إلى القارئ”، يقول إن الرواية هي “قص حياة بطلي ألكسي فيدوروفيتش كارامازوف”، والحق إن حياة ألكسي لم تكن سوى “سيرة نبوية” لشاب بروحية خاصة تقترح سبيلاً دنيوياً لخلاص البشر. ولم تكن أحداث الرواية سوى المادة الضرورية لحمل هذه الروحية وإظهار معناها.
محاولة عميقة في الخلاص البشري
يمكن للقارئ أيضاً أن يرى في “الإخوة كارامازوف” حكاية محكمة البناء تنطوي على ظلال من تشويق بوليسي، أو أن يرى فيها نوافذ تطل على روح الإنسان وتناقضاتها الرهيبة بما يضيء جوانب في علم النفس، وقد سبق أن اعتبرها سيغموند فرويد منجماً لتحليل النفس البشرية. كما يمكن تقدير هذا العمل من زاوية أدبية تخص البناء والحوارات والوصف، فهي مادة ثرية بكل هذه الجوانب، إنها بناء محكم ومتماسك الأجزاء كأنها كائن عضوي يصعب أن ترى تعارضاً في بنيانه، وأحداث لا يقلل من تشويقها الاستطرادات الوصفية ولا الحوارات الطويلة التي تشكل أيضاً أحد أجمل جوانب الرواية وأعمقها.
الإخوة كارامازوف… يمكن أن نرى في هذا العمل الفذ تجسيداً روائياً لضياع وحيرة روسيا في إدراكها ذاتها
ولكن بالنسبة لي كانت هذه الرواية شيئاً آخر تخدمه كل الأشياء السابقة، كانت، في نظري، محاولة عميقة في الخلاص البشري. ويبدو لي أن ألكسي الراهب، الابن الأصغر، يشكل المعنى العميق للعمل، ليس بوصفه راهباً في كنيسة أو ممثلاً لتعاليم دينية معينة، بل بوصفه “الروح” التي يمكن أن تنقذ العالم، الروح التي تنغمس في العالم ولا تستقل عنه في كنيسة أو في مكان للعبادة، أو قل بوصفه راهباً دنيوياً، إن صح القول.
ولا تعني الرهبنة هنا الانعزال عن العالم والامتناع عن متع الحياة، بل تعني الطهارة من استبطان السوء في الآخرين، والابتعاد عن مبدأ إدانة الآخرين والحكم عليهم، لصالح مبدأ شامل هو الحب الواسع والقدرة على رؤية الجمال في مكامنه العسيرة. الأهم من ذلك، أن رهبنة ألكسي دنيوية وليست دينية فهو في حياته وفي اتصاله مع الواقع لا ينطلق من تعاليم “خارجية”، ولا يوجد لديه ما هو فوق أو أعلى أو أهم من الواقع ومن الحياة كما هي وكما يعيشها الناس بمختلف صنوفهم وتمايزاتهم.
تتبدى دنيوية ألكسي كارامازوف من الواقعة المهمة التي تكشف ميزة أساسية في شخصية هذا “الراهب”. مات الشيخ زوسيما الذي كان النموذج الإنساني الأعلى في نظر ألكسي، بدأت جثته بالتفسخ وبإصدار رائحة لا تحتمل، كان هذا، في النظرة داخل الكنيسة، مؤشراً على قلة اعتبار الرجل في معايير السماء، أو شهادةً تقول إن قيمته الكبيرة التي كانت على الأرض لا توازيها قيمة كبيرة في السماء. حزن من كان يحب الشيخ، فيما ارتاح لهذا الحكم السماوي، رجالُ دين كان يغطي حضور الشيخ بعلمه وحكمته البهية على حضورهم، فراحوا يتهامسون: “يبدو أن حكم الله لا يؤيد دائماً حكم البشر”. لكن هذا لم يغير في نظر أليكسي إلى الشيخ في شيء، ما حدث هو أن أليوشا ترك الدير موجهاً احتجاجه إلى السماء التي لم تقدر قيمة الرجل، ولم تتدخل لتحمي الشيخ من العار، حتى كأنها استسلمت هي نفسها أمام قوى الطبيعة. لا يوجد في نظر ألكسي حَكَماً على العالم من خارجه، وهو ما يجعله، كما يبدو لنا، راهباً دنيوياً.
لكن يبقى السؤال، أي قيمة لمثل هذه الشخصية؟ وأي اقتراح تقدمه لخلاص البشر؟ وهل تستحق حكايته أن تُروى “ماذا في صاحبك ألكسي فيدوروفيتش هذا من أمر فذ، حتى اتخذته بطلاً؟ ما الذي قام به من أعمال نادرة، ولماذا يجب علي أنا القارئ أن أضيع وقتي في دراسة وقائع حياته”؟ لا يوجد لدى الكاتب جواب على هذه الأسئلة التي يطرحها على لسان القارئ، سوى القول “إن هذا الرجل يبدو لي فذاً، ولكني أشك أقوى الشك في أن أصل إلى إقناع القارئ بذلك”. لدوستويفسكي هذا الحضور الفريد في روايته، فهو ليس فقط كاتباً، عيناً ترصد وتروي، بل هو أحد أبناء الحي ولكن بلا أي حضور في أحداث الرواية سوى أن مسكنه قد يكون قريباً من مسكن أحد شخصيات الرواية، فضلاً عن تدخله المباشر من خارج سياق الرواية كي يشرح أمراً أو يعطي رأياً أو يبدي تخوفاً.
وحدة السلوك البشري؟
بما يشبه التصور الحلولي الذي يدمج الخالق والمخلوق في وحدة واحدة لا وجود مستقلاً فيها لأحدهما عن الآخر، ينظر دوستويفسكي إلى سلوك الناس أجمعين على أنه جسد واحد متكامل، فلا ينفصل فيه فعل الشر عن فعل الخير، ولا القاضي عن الجاني. تقرأ مثلاً “جميع البشر مسؤولون عن آثام سائر الناس … كل منا مسؤول عن جميع ذنوب المجتمع، وعن أخطاء كل إنسان على هذه الأرض … إن هؤلاء الذين جحدوا المسيح وتمردوا عليه ليسوا أنفسهم إلا صورة المسيح نفسها”.
يخرج من هذا التصور بنتيجة تقول “ليس من حقك أن تحكم على قرينك كائناً ما كان. ما من أحد يستطيع أن يجعل نفسه قاضياً على مجرم قبل أن يدرك أنه، وهو القاضي، لا يقل إجراماً عن الجاني الماثل أمامه، وإنه ربما كان هو المسؤول الأول عن الخطأ الذي ارتكبه الرجل”.
الإنسان، بنزوعه الجرمي وبنقصه، إنما أدخل النقص إلى الكون، “كل ما في الكون بريء وكامل إلا الانسان”، وينبغي أن نفهم الإنسان هنا على أنه يعني الناس جميعاً ومعاً، ولكن لا يمكن علاج هذا النقص، إذا كان له أن يعالج، سوى بالإنسان نفسه، بالإنسان الإله وليس بالإنسان العبد، ولا يكون الانسان كذلك عبر القوة بل عبر العدل، ولا عبر العقوبة بل عبر الرحمة. “لا يظهر الرب في القوة، بل في العدل”، ولا محل للعدل مع البشر “الناقصين” إلا بالرحمة، على هذا لا يقول الكاتب فقط إن “الكنيسة أرحم على المجرم من القانون”، بل يضيف إنها “أنجع”، فهي لا تطرد الجناة من حضنها، ولا تحرمهم من إحسانها، “وتعاملهم كسبايا أكثر مما تعاملهم معاملة جناة … وتتصرف معهم تصرف أم حنون رؤوف”. والكنيسة هنا ليست مبنى لممارسة الطقوس، وليست هيئة لحفظ الدين، وليست مؤسسة لرعاية المحكومين، إنها هنا طريقة تفكير بالأحرى، وطريقة في النظر إلى العالم، يمثلها ألكسي كارامازوف، بطل دوستويفسكي الذي يصفه بأنه “رجل ليس فيه من العظمة كثير ولا قليل”، ثم يقول إنه “رجل غريب، شاذ” ولكنه “يحمل في ذاته حقيقة عصره”.
نافذة لروح تعيسة
مركز ثقل الرواية ورسالتها الأهم يكمن في الحوار الذي يدور بين ديميتري وأخيه ألكسي، في الجزء الأول، حين يقوم ميتا (ديميتري) بما يشبه “الاعتراف”، مدفوعاً بالخاصية النادرة التي يتمتع بها ألكسي وهي كونه مغرياً لأن يكشف له الشخص خبابا نفسه دون أدنى خشية من لوم أو مذمة، أو نظرة سيئة. “لا يدهشك أنني لا أستحي منك، وأنني ربما ألتذ بانعدام الخجل في حضورك” يقول ديميتري ، بعد أن ترك نفسه تتعرى وترمي أثقالها على المنبسط السهل لحضور ألكسي. فقد سرد الأخ الأكبر قصصه وأسراره ووصف دناءات نفسه وانحطاط رغباته والمتعة التي يجدها في هذا الانحطاط، وحبه للمجون ولعاره، وبعد أن انتهى واصفاً نفسه بالبقة والحشرة الخبيثة التي تستمد متعة في رؤية أثر أذيتها على الضحية، لاحظ ديميتري احمرار وجه أخيه الأصغر والتماع عينيه، فتوقف عن الكلام ظناً منه أن ما قاله هو السبب، لكنه فوجئ بأليوشا يقول إن وجهه لم يحمر من دناءة أخيه بل من دناءة نفسه هو: “إن وجهي يحمر لأنني مثلك”. يرتاح ديميتري لهذا القول ويصرخ بغبطة “وددت لو أقبل يدك، هكذا، حناناً وعطفاً”. ليس أليوشا من طينة مختلفة عن أخيه، إنه مجبول مثله بالرغبات والدناءات ولكنه ينظر إلى العالم بطريقة مختلفة، فتغلب لديه رؤية الخير عند غيره، ما يجعله مرآة تعكس للآخر صورة حسنة عن نفسه. وكم يكون هذا مؤثراً حين تكون صورة الشخص المعني سيئة في مرايا المجتمع، التي هي مرايا تكرر نفسها بعدد الأفراد المتكررين كنسخ متشابهة، وحين تكون المرآة التي تعطي الشخص صورة حسنة عن نفسه، هي مرآة نقية من شخص نقي له صورة حسنة في مرايا المجتمع.
ديميتري الذي تلبسته جريمة قتل الأب، حتى بات عاجزاً عن الدفاع عن نفسه، لا يبقى لروحه سوى النافذة الأخيرة التي هي ألكسي، فيسأله بأمل اليائس: “هل تصدق أنت أيضاً أنني قتلت أبانا”؟ لن يكون ثمة قيمة قضائية لجواب أليوشا هنا، وليس هذا ما ينتظره التعيس ديميتري ، لكن ما ينتظره ميتا من أليوشا هو فتح نافذة لروحه، أن يكون هناك انسان صادق مثل أخيه الصغير، مؤمن ببراءته. يمكن لهذا أن يعادل ويوازن من الناحية النفسية قرار المحكمة.
وجدت المحكمة ديميتري جانياً، حين سارت على دروب القانون المتجرد من الروح أو “الأعمى”، وحين استمعت إلى محامين يحللون وقائع باردة تحمل التفسير ونقيضه استناداً إلى ترابطات منطقية لا تدرك تعقيدات النفس، ولكن أليوشا، بروحه وإحساسه العميق، رأى أخاه بريئاً. ديميتري يستسلم لقرار المحكمة ولكنه، بتأثير نافذة الروح التي فتحها له أليوشا، يشهد تحولاً عميقاً نحو نوع رقيق من الايمان: “لئن أعرف أن الشمس تتلألأ، فذلك وحده حياة كاملة”. الرجل التعيس المحكوم بأعمال شاقة في المناجم حيث لا يرى الشمس، يكفيه أن يعلم أن هناك شمساً تتلألأ، كي يعيش في ظلمته حياة كاملة. الشمس التي تتلألأ تطل عليه من نافذة أليوشا هذا الرسول الذي تنبع رسالته من داخله وليس من خارج مفارق للعالم ومستقل عن شهواته ودناءاته وخسته ومتعه، وهو لذلك نصير الإنسان الإله، وليس الإنسان العبد.
جمال القبح؟
يبدو دوستويفسكي قاسياً وعدوانياً تجاه شخصياته. ولكن اللافت، وربما الغريب، أن هذه العدوانية التي تمزق الشخصية وتحطمها إلى حدود الاحتقار لتعرية دوافعها العميقة وعجائب ميولها والمنابع الغريبة لالتذاذها، دون اكتراث “بجمالها”، تجعل القارئ يحترم الشخوص أكثر، وتجعله يكتشف فيها جمالاً “واقعياً”، هو جمال ضعفها وتناقضاتها وارتباكها وانحطاطها ونبلها، وقد نقول جمال قبحها. لكن هل يعني هذا أن ما يميز صاحب “الأبله” و”الجريمة والعقاب” هو أنه واقعي، أي هل يكمن تميزه في أنه واقعي لا يجمل شخصياته؟ يمكن القول إنه واقعي ولكن ليس بمعنى تصوير الواقع، بل بمعنى اكتشافه، أو بمعنى قسر الواقع على أن يكشف حقيقة ما يستره عن العيون والأفهام. هكذا يمكن أن تقرأه يقول على لسان (ليزا) الصبية المعاقة التي تتعلق بأليوشا ولا تكف عن تحدي رحابته بجرأتها وقسوة أقوالها: “البشر يحبون الجريمة”، يصدمك الحكم، فتقول في نفسك، لا بأس، هذا تعميم يقتضيه السرد، ولكنه لا يتركك ولو لحظة واحدة، في هدوء البال الذي تبغيه، فيردف مباشرة: “جميع البشر يحبون الجريمة”، ثم يستأنف بكل قسوة: “يحبونها دائماً، لا في بعض الساعات فحسب”. هكذا لا يسمح لك الكاتب أن تتنفس، ولا يترك لشخصيته ظلاً، مهما يكن، تستر به عريها وانكشافها.
كما لو أن لدوستويفسكي ثأرًا مع شخوصه لا يرتوي، فيخرج من هذا بشخصيات تحمل وتظهر شتى صنوف الضعف والميول والتناقض، ويختار لعرض هذه الشخصيات زوايا كاشفة، فتجد في عرضه وحواراته ما ينتهك أعماق قارئه. يبدو لك أثناء القراءة أن خفاياك تتعرض لغزو، وأن ضوءاً جريئاً ووقحاً، وحتى عدوانياً، يقتحم مسارب تريدها خفية، فتشعر أنك “ضحية” هذه القسوة الدوستويفسكية التي سلاحها صدق جريء وعبقرية في الحدس، قسوة لا ترحم في كشوفاتها، ولو على حساب أي شيء.
لكن هذه القسوة، من ناحية أخرى، تريح القارئ حين يجد شركاء له في ضعفه أو نذالته أو غرابة ميوله، حين يجد من يقول له إن هذه اختلالات طبيعية. يرتاح القارئ حين يشعر إن جوانبه المعتمة تنال شيئاً من الاعتراف. لا يمكن للقانون مثلاً أن يفهم لماذا حمل ميتا يد الهاون حين خرج مسرعاً من بيت جروشنكا، المرأة التي سحرته، حين علم أنها غادرت مع زوجها السابق، سوى بوصف ذلك نية مبيتة للقتل. لا يوجد في القانون خانة لسلوكيات “خرقاء” لا معنى لها، ولا يعلم حتى فاعلها سبباً “منطقياً” لها. لا يستطيع القانون أن يرى في الإنسان “بلاهة” تجعله يقدم على سلوك غريب وبلا معنى محدد ومستقر، ولكن في لحظات معينة قد يتكامل سلوك كهذا مع عناصر أخرى ويصبح مستمسكاً قانونياً يقود إلى تجريم بريء. لا غرابة إذن أن يقول الكاتب، في الجزء الأخير، على لسان “شيطان” إيفان المريض، “ما أفقر العالم حين يخضع لسلطة العقل والرشاد”. عندئذ تسيطر المعايير والأنماط وتختفي الروح والاضطراب والعشوائية والبله. ولا غرابة إذن أن يرى ديميتري الهائج والعاشق والشديد القسوة والضعف، الذي يجد نفسه ضائعاً في بحر طبيعته هذه البكر والمتعارضة والحية كنافورة، أن يرى في إيفان الذي يغلب عليه العقل، “قبراً”، وفي أليكسي الذي تغلب عليه المحبة “ملاكاً”. ومن الممتع، بالمناسبة، أن نرى كيف يبدو “إيفان” في نظر أليكسي على أنه “لغز”. الفارق كبير بين القبر الذي هو نهاية، واللغز الذي هو بداية. هكذا يبدو أن ما يجمع بين ديميتري (الطبيعة البكر غير المثقفة) وبين إيفان (العقل المثقف) هو ألكسي (المحبة).
هل في قبول العطاء صغار، وهل يتغذى الكرم على متعة التفوق؟
“ما أفقر العالم حين يخضع لسلطة العقل والرشاد”
لا تتوقف عدوانية دوستويفسكي ضد شخصياته، قسوة ضارية تبحث عن أساس ثابت تستقر عليه الرحمة والتفهم والعدل. لإنها قسوة جريئة تجعل صاحب “المقامر” يقول إن القديس يوحنا الرحيم الذي تضرع إليه متشرد جائع مرتعد من شدة البرد أن ينجده ويدفئه، فأضجعه على سريره وأحاطه بذراعيه ونفخ في فمه النتن المتقيح المريض، كما تقول الكتب، لا يقوم بهذا العمل بدافع الحب، وإنما يلزم نفسه بذلك إلزاماً باسم حب لا يشعر به. إلى هذا الحد يبحث الكاتب عن أساس ثابت. والحق إنه يبحث عبثاً، فمن الصعب أن تعثر في رمال النفس البشرية على أساس ثابت.
لا يمكن للقارئ أن يخرج من الإخوة كارامازوف دون ندبة دائمة تتركها فيه شخصية غير رئيسية، هي شخصية النقيب المتقاعد سنيجريف، الذي يعيش مع عائلته في فقر مدقع ومرض مقيم. فقد فرح هذا البائس مثل طفل حين قدم له أليوشا مساعدة مالية كان قد جمعها من متبرعين. سنيجريف، الذي سبق أن تعرض لإهانة شديدة في البار على يد ديميتري ، إهانة أضافت دماراً معنوياً إلى البؤس والعوز المادي للأسرة، بدأ يتصور بفرح ظاهر، وهو يمسك بالمال، الحذاءَ الذي سوف يشتريه لابنه الحافي والطعام الذي سيأتي به لأسرته والعلاج لزوجته المصابة باعتلال عقلي… الخ، وبلحظة واحدة ينقلب الرجل إلى حال نقيض، عندما يقول له أليوشا السعيد بفرحه، إنه سيثابر على تأمين المساعدة له.
في لحظة واحدة يرمي الرجل الفقير المال على الأرض ويشرع بدوسه بجنون، ثم يمضي مبتعداً. لقد انتاب النقيب المتقاعد شعور بالذل لأنه بالغ في التعبير عن فرحه، لأنه أسرف في الصدق والإخلاص، فانتقم لنفسه ولكرامته على هذه الشاكلة. يدرك أليوشا سر هذا الانقلاب، فيجمع المال المرمي عن الأرض ويحفظه ليقدمه للرجل المحتاج لاحقاً، وهو على ثقة بأنه سيقبله بعد أن انتقم لكرامته بحق، بعد أن رفض المال بكل صرامة دون أن يكون لديه أدنى ضمان بأن أليوشا سوف يستوعب سلوكه، وأن هذا المال سوف يقدم إليه ثانية. بين العنفوان والصغار خيط من الاستمتاع تكشفه شخصيات الرواية التي تعيش توتراً رهيباً بين طبائعها النفسية المتحكمة و”الطبائع” الاجتماعية الحاكمة. يجعلك الكاتب تتساءل عن معنى العطاء، وعن موقعه في النفس. هل ينطوي على علاقة صِغار وتفوق؟ هل العطاء منّة ممن يعطي أم ممن يقبل العطاء؟ أم هو فعل “طبيعي” لا منّة فيه لأحد، يشبه حركة الماء الذي يسيل بحسب اختلاف ميول الأرض؟
من بين شخوص الرواية يبقى أليوشا هو البطل الذي تبدو عدوانية الكاتب معه غير عدوانية، فهي تتخذ شكل امتحان مستمر لإمكانية وجود واستمرار شخصية كهذه، إمكانية أن نعثر على “راهب يذهب إلى الدنيا”، يجمع بين طبيعة البشر، وفوق ذلك طبيعة آل كارامازوف “الظمأ إلى الحياة بأي ثمن”، وبين طبيعة أخرى مشبعة بالمحبة وقادرة على التغلب على الطبيعة الأولى في شخصه وعلى فهمها في غيره.
في العرض السابق توقف وجيز عند شخصية أليوشا، على أنه في الكلام عن هذه التحفة الروائية، يصعب التوقف عند حد معيّن، يصعب مثلاً تجاوز ما تتضمنه من نظرة إلى الدين وإلى الحرية وإلى الجمال، أكثر من ذلك، يدرك القارئ إن كل مقطع فيها يصلح أن يكون فاتحة للتأمل.
رصيف 22