الرئيس السوري أديب الشيشكلي : مذكرات متأخرة تعيد تشكيل الصورة!/ محمد برو
في عام 1964 اغتال نواف غزالي من محافظة السويداء الرئيس السوري أديب الشيشكلي في البرازيل، وختمت حياته بالدم، ذلك الدم الذي أنف الشيشكلي أن يكون سبباً في إراقته، للاحتفاظ بكرسي الحكم، فاستقال وخرج من البلاد ليحقن دماء مؤيديه ومعارضيه، وليجنب البلاد حرباً لا تحمد عقباها.
في مسعى يهدف لإنصاف هذا الرجل، عمد الباحثان السوريان بسام برازي وسعد فنصة لمراجعة آلاف الوثائق التي ضمتها، أرشيفات الخارجية الأمريكية والفرنسية والبريطانية “ما يزيد عن ثلاث آلاف وثيقة” ومقارنتها بعشرات الساعات من التسجيلات والتدوينات، والروايات التي تحدثت باستفاضة عن تلك الحقبة وعن دور أديب الشيشكلي فيها، ليقدموا لنا مذكرات لم يكتبها صاحبها، ربما لثقته بأن التاريخ سينصفه في وقت لاحق.
يستهل الكتاب صفحاته بحديث عن مدينة حماة ( وسط سوريا ) وبيئتها وأجوائها السياسية، ودور الحركة الوطنية فيها، حيث تتفتق بواكير ذكرياته عن ذلك اليوم العظيم الذي نجا به والده من حكم الإعدام المحقق بتهمة تزويد ثورة صالح العلي بمئة بارودة حربية “1919” وذلك بتدخل محافظ دمشق حينها “حقي بيك العظم”، حيث عمد إلى إعادة محاكمته، وحال دون تنفيذ الحكم بما لديه من نفوذ لدى إدارة الانتداب.
تعبر بنا هذه الذكريات والروايات بحياة الشيشكلي، حين تم التحاقه بالمدرسة الحربية بدمشق “1929” ليصبح بعد عامين ضباطاً في جيش الشرق، الذي أسسه الفرنسيون المنتدبون على سوريا.
وحين شبت ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941 كان أديب الشيشكلي في محافظة دير الزور ( شمال شرق سورية ) ، حيث يروي نزار صائب أن أديب الشيشكلي غامر خلال ثورة الكيلاني، وبطلب من قادة المقاومة الشعبية في العراق، بإحصاء عتاد القوات الفرنسية الرابضة في دير الزور ومناطق الميادين والبوكمال ( محافظة ديرالزور ) ، بغية الاستيلاء عليها وتسليمها للثورة العراقية عند حاجة الثوار.
ولكن بعد سقوط بغداد بيد قوات الجيش البريطاني الثامن، واشتراك قوات كلوب باشا الأردنية، تساندهم قوات فرنسا الحرة، التي يقودها ديغول، انسحبت قوات المقاومة الشعبية إلى مدينة البوكمال، وكان جُلّها من الشباب السوريين.
وجاءت الأوامر إلى أديب الشيشكلي باعتقالهم في الثكنة العسكرية الخاضعة لإمرته، فما كان من الملازم الأول أديب الشيشكلي إلا أن أجبر سائقي الباصين الوحيدين بين البوكمال ودير الزور على حمل الثوار الذين هم في عداد السجناء، وتهريبهم إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم.
وكانت له وقفات من الصعب أن تحصى لكثرتها، في مواجهة القوات الفرنسية وخوض العمل الفدائي في مقاومتها، ودوره في تجنيد المتطوعين وتنظيمهم للقتال في فلسطين.
يروي الزعيم أكرم الحوراني أن الضابط الشيشكلي باشر فوراً بتنظيم شؤون المتطوعين، يسجل أسماءهم، يحصي أسلحتهم ويوزع عليهم الذخائر، وينظمهم في فصائل وسرايا، ويتابع بالقول: “في مطلع يناير/كانون الثاني أجرى الشيشكلي تجربة استنفار للتوجه إلى فلسطين، كعملية تمويه واختبار للانضباط والنظام، وبعد أيام توجهنا إلى فلسطين.
جاء الفصل الثالث في الكتاب بعنوان انقلاب أديب الشيشكلي، في صباح يوم الإثنين التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1949، بلاغ رقم واحد، إلى الشعب السوري الأبي:
“ثبت لدى الجيش أن رئيس الأركان العامة اللواء سامي الحناوي، وعديله السيد أسعد طلس، وبعض ممتهني السياسة في البلاد يتآمرون على سلامة الجيش وكيان البلاد، ونظامها الجمهوري مع بعض الجهات الأجنبية، وأن ضباط الجيش يعلمون هذا الأمر منذ بدايته، وقد حاولوا بشتى الطرق، بالإقناع تارة، وبالتهديد الضمني تارة أخرى، أن يحولوا دون إتمام هذه المؤامرة، وأن يقنعوا المتآمرين بالرجوع عن غيّهم فلم يفلحوا، فاضطر الجيش حرصاً على سلامة البلاد، وحفاظاً على نظامها الجمهوري، أن يُقصي هؤلاء المتآمرين.
وليس للجيش أية غاية أخرى، وأنه ليعلن أنه يترك أمر سلامة البلاد في أيدي رجالها الشرعيين، ولا يتدخل إطلاقا في القضايا السياسية، اللهم إلا إذا كانت سلامة البلاد وكيانها يستدعيان ذلك”، العقيد أديب الشيشكلي.
وفي بلاغ رسمي بتاريخ 26 |10|1950 تحدث عن محاولة اغتيال تعرض لها العقيد أديب الشيشكلي حيث كان يتنقل بسيارة عسكرية ناحية دمر مع عدد من مرافقيه الضباط.
وحين زار أديب الشيشكلي منفذي المحاولة في سجنهم وتعرف إليهم وحاور بعضهم، وأصغى إلى أهدافهم وحركتهم، خرج بانطباع عُدَّ مأثرة تاريخية سجلت له، إذ اعتبر أن هؤلاء الشباب وطنيون قد غُرر بهم، لذلك قام من فوره وأسقط حقه الشخصي بالادعاء عليهم في حالة نادرة من التسامح، كما شهد غالبيتهم بوطنية هذا الرجل وندمهم الشديد فيما بعد على تهورهم بهذه العملية.
يعرض الكتاب الغني بآلاف الوثائق واللقاءات الشخصية لتفاصيل ترهق المتتبع في تاريخ الحكم في سوريا، وربما تجيب على عشرات الأسئلة التي بقيت غامضة وملتبسة لزمن طويل من الاستبداد والتشويه وسياسة طمس الحقائق التي مارستها الأجهزة الأمنية التي حكمت البلاد واستعبدتها فيما بعد.
ويكفي ان نقرأ النسخة الأصلية من بيان الاستقالة الذي بعث به الشيشكلي ونقارنه بالبيان الذي تمت قراءته في الإذاعة، لنعلم مقدار التشويه الذي ما يزال يمارس إلى اليوم.
جاء بيان الاستقالة بالصيغة الآتية التي وردت في أصل النص:
“أيها الشعب السوري الكريم”
“إن بعض ضباط الجيش الذين يخضعون لمؤثرات حزبية، قد قاموا بحركة تمرد في عدة مناطق من البلاد ترمي إلى إسقاط الحكم الدستوري القائم في سوريا، ولم يكن عسيرا عليَّ قمع هذه الحركة، غير أن جيشنا سيقتتل والعدو رابض على حدوده، والمؤامرات تحاك على استقلاله، والفتن الداخلية تطل برأسها من تحت الرماد، من أجل هذا وحقناً لدماء الشعب الذي أحبه والجيش الذي أفتديه، والوطن العربي الذي أردت أن أخدمه بتجرد وإخلاص، أقدم استقالتي”.
بحسب الكثيرين ممن عرفوا تفاصيل الأمر يومها لم يكن الجيش كله في قبضة الانقلابيين وكان بمكنة الشيشكلي المقاومة، وربما تأتت له فرصة قمع الانقلابيين والضرب على أيديهم لكنه رفض أن تراق دماء سورية لأجل موقعه الرئاسي وهذا يحسب له.
في سياق هذه المعمعة والصراعات، التي اتخذت منحى دموياً، وجد أديب الشيشكلي وقد حطّ به المقام في المملكة السعودية، وقد عرض عليه منصب رفيع في المملكة، إلا أن الرئيس السابق اعتذر عن أي منصب ومكانة.
وتوجه بعدها ليعيش في باريس حياة من التقشف كما يرويها عبد الحق شحادة الذي رافق أديب الشيشكلي خلال محطته الفرنسية في المنفى، حيث ينقل عن أديب النحوي الوزير والسياسي البارز، عندما زارهم في باريس، شَهِدَ كيف كان الشيشكلي الرئيس السابق لسوريا يعيش في تقشف واضح .
ويقول شحادة بأنهما كانا يعيشان حياة متواضعة، يأكلان غالبية طعامهما بمطعم للطلاب في جامعة السوربون. وهناك تعرف أديب الشيشكلي على سيدة فرنسية وتزوجها فيما بعد.
خلال العام 1959 انتقل أديب الشيشكلي إلى جنيف، وعلم بأن الحكومة البرازيلية تشجع المستثمرين الأجانب والمهاجرين بالكشف عن أراض زراعية جديدة في مشروع لتنمية البرازيل.
قدم أديب الشيشكلي طلباً لقرض إلى أحد البنوك البرازيلية، واستطاع بواسطته، أن يشتري أرضاً في منطقةٍ مجهولة تبعد عن العاصمة برازيليا 300 ميل.
بدأ فيها مشاريع زراعية كان من أهمها (الرز)، واشترى قطيعاً من الأبقار، وأنشأ مشروعاً لتربيتها بنفسه. وتوخى أن يكون بعيداً عن السياسة، إلا من بعض المقابلات الصحفية النادرة. كان يسدد ما عليه من ديون إلى البنك بلا تأخير، ووصف بأنه كان محبوباً ومحترماً من أهل البلدة الذين كانوا ينادونه: (بالرئيس).
في ظهيرة يوم السابع والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول 1964، في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، يسقط الرئيس على وجهه، مضرجاً بدمائه. كانت زوجته الفرنسية (تيريز) تتابع شؤون المزرعة وتعد طعام العشاء، وتهتم بابنتها الصغيرة، عندما سمعت أصوات طلقات نارية من بعيد ، للأسف كان نواف غزالة من أطلق الرصاص على الرئيس .
لكن لماذا بقي طوال السنوات الماضية بعد مغادرته سوريا، وهو يتجول بين فرنسا وسويسرا، ولم يعترضه أحد…؟
حسب شهادة وزير الدفاع الأسبق اللواء حمد عبيد حول حقيقة وأسرار قضية اغتيال الشيشكلي، وما إذا كان هذا الاغتيال يمثل الطائفة الدرزية كون اللواء عبيد أحد أشهر وجوهها في تلك الفترة، أكد اللواء: نحن من أمرنا بتصفية أديب الشيشكلي، نحن كطائفة وأقلية لن نسمح لأحد باضطهادنا.. أديب الشيشكلي اضطهدنا، ووجب علينا أن نمنع ما قد يعرضنا لأي أخطار محتملة في المستقبل، وأن نغلق الباب على أي حركة أو سلوك من شأنه اضطهاد الدروز… لذلك كان في رأينا أن نقتله”.
وحسب دراسةٍ حديثةٍ للباحث أحمد مأمون بعنوان “صراع الأجنحة السياسية داخل المؤسسة العسكرية السورية” يذكر عن أديب الشيشكلي “أنه سعى إلى تحجيم أعداد الأقليات داخل الجيش في نهاية عهده، لصالح الحفاظ على الطابع العربي السني للمؤسسة العسكرية ، لكن هناك الكثير من الشهادات المعاكسة ، رغم أنه من أصول كردية لجهة الأب، وشركسياً لجهة الأم، ما يعنى حمله لأقليتين في هويته وليس بأقلوي”، وربما كان هذا سبباً في اغتياله في منفاه، ففي صباح يوم الجمعة في التاسع من شهر أكتوبر/تشرين الأول 1964. وصل الجثمان إلى مطار دمشق وتسلمته وزارة الخارجية السورية، والتي قامت بدورها بتسليمه إلى عائلته بدمشق، ونقل الجثمان إلى مسقط رأسه حماة ، وسط سوريا حيث ووري الثرى .
يعد الكتاب وثيقة تاريخية تعرض مرحلة مهمة من تاريخ سوريا السياسي والانقلابات التي حصلت فيها، ولأن القطع برواية تاريخية معينة دون غيرها أمر بالغ الصعوبة ، وجرت العادة ، سابقاً ، أن التاريخ يكتبه الغالبون، لكننا اليوم نعيش زمناً يملك فيه المغلوبون أن يقدموا روايتهم أيضاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: أديب الشيشكلي “الحقيقة المغيبة” 1909-1964
وثق الكتاب وحققه الباحثان السوريان . سعد فنصة ، بسام برازي . راجع الكتاب ودققه وأعاد صياغته لغوياً الكاتب السوري خطيب بدلة.
صدر الكتاب عن دار رياض الريس في منتصف شهر حزيران 2022
الناس نيوز