“الوطن فكرة يحاول الإنسان تحقيقها”… سنان أنطون في القاهرة/ رنا ناصر
“سعيد جداً بوجودي في القاهرة لما لها من مكانة لدي، فهي أول مدينة عربية عشت فيها بعد الخروج من بغداد، وأكملت فيها كتابة روايتي الأولى إعجام”. بهذه الكلمات استهل الكاتب العراقي سنان أنطون ندوته الثقافية التي عُقدت في مكتبة “تنمية” في القاهرة، يوم الجمعة الماضية، لمناقشة أعماله وتوقيعها، وقد حضر الندوة عدد من الصحفيين والقُراء من مُحبين الكاتب العراقي، وناقشته الصحفية كارولين كامل.
سنان أنطون شاعر وروائي وأكاديمي عراقي. تتناول رواياته الأربعة المنشورة “إعجام، وحدها شجرة الرمان، يا مريم، فهرس” تاريخ العراق والأحداث التي عصفت بالعراقيين في العقود الأخيرة. ترجمت أعماله إلى أكثر من 16 لغة وحازت على جوائز عالمية.
كانت البداية مع أنطون عن ترجمته لروايته الثانية “وحدها شجرة الرمان” بنفسه من اللغة العربية إلى الإنجليزية، فقال بخصوص هذا: “بعد الانتهاء من كتابة عمل أدبي يشعر الكاتب بفراغ، لأنه كان يعيش مع شخصيات روايته لمدة طويلة، ولذلك كنت أنوي ترجمة روايتي الأولى إعجام أيضاً بنفسي، لكني وقتها كنت أخرج فيلمي (حول بغداد) فانشغلت به، لكن بعد انتهائي من كتابة (وحدها شجرة الرمان) التي أُثرت بأجوائها وبعالم بطل الرواية جواد، شعرتُ بالاشتياق لهذه الشخصيات التي عشتُ معها 4 أو 5 سنوات، فضلاً عن أن الرواية مليئة بالإشارات للتراث الإسلامي والثقافة الشعبية، وبالتالي إذا أسندت ترجمتها لمترجم آخر كان سيغرقني بالأسئلة لذا قررت ترجمتها بنفسي”.
وأضاف: “الشيء الوحيد الذي كان يصعب ترجمته في روايتي هو الحوار، لأنه كان بالمحكية البغدادية، كما أصرّ الناشر بالخارج على تغيير عنوان الرواية إلى (غاسل الجثث Corpse washer) لتبسيط الأمر للقارئ الأجنبي”.
عناوين مميزة… ونهايات الحزينة
أخذنا حديث سنان أنطون خلال ندوته عن كيفية اختيار عناوين أعماله، فيقول: “من الكُتاب الذين ألهموني في حياتي محمود درويش وسركون بولص، وكانت عناوينهم مميزة، فالعنوان لا بد أن يكون جذاباً ويبلور قدر الإمكان مناخ الرواية مثل عنوان روايتي (فهرس) الذي يتضح فيه افتتاني بتراث السرد العربي، كما أن (فهرس) لها معاني كثيرة تلائم فكرة الرواية، وعندما أجد العنوان المناسب أستقر عليه ولا أغيره”.
وأوضح: “مثلاً رواية (إعجام) كان هذا اسمها منذ البداية، أما (وحدها شجرة الرمان) فوجدتُ عنوانها وأنا في منتصف كتابتها، ففي هذه الفترة قرأت أن هناك كاتباً أمريكياً له عادة أن تكون عناوين رواياته هي آخر كلمة في الرواية، وبالفعل (وحدها شجرة الرمان) كانت آخر جملة في الرواية، وأيضاً في رواية (يا مريم) كان دعاء يا مريم هي آخر كلمات يقولها يوسف بطل الرواية، فضلاً عن أن هذا الدعاء يختزن بداخله موروثاً ثقافياً، فهذه الكلمات كانت تتردد على سمعي منذ الصغر، ورغم كوني شخصاً غير متدين لكني في أوقات أجدني أقول يا مريم”.
ومن العناوين انتقلت الصحفية كارولين كامل إلى نهايات روايات سنان أنطون وعن كونها دائماً حزينة، فقال: “منذ الصغر، عندما بدأ هوسي بالأدب والسينما كنت أنجذب أكثر للروايات والأفلام والسرديات التي لا تكون بها نهاية بسيطة تختزل كل شيء، ثم تطور الأمر لدي بسبب أبعاد أخرى سياسية، إنما فكرة أن حياة الناس تنتهي نهاية سعيدة ربما يكون موجود في الروايات والأفلام الرومانسية أو الهوليوودية السائدة، لكن ليس موجوداً في الحياة الواقعية، فإذا نظرنا إلى ما حدث في العراق وسوريا وفلسطين نجد أن هناك كماً هائلاً من المعاناة والألم والموت، فمثلاً في رواية (وحدها شجرة الرمان) شخص كان يريد أن يصبح فناناً، وأجبرته الظروف الاقتصادية والطبقية أن يعمل المهنة التي حاول جاهداً الهرب منها، فكيف تنتهي حياته؟ فملايين الناس ممن يعيشون على هذا الكوكب يعيشون حياة صعبة جداً”.
وطن ليس فيه معنى الوطن
غادر سنان أنطون العراق عند اندلاع حرب الخليج، وكان عمره 23 عاماً، وعاد إلى بغداد مرتين، مرة عند الإطاحة بنظام صدام حسين في 2003، ومرة أخرى في 2014 مما كون لديه نظرة مختلفة لمفهوم الوطن، فعلق قائلاً: “بدأت الهجرات من العراق في 1991، وفي نهاية التسعينيات كان ثلاثة ملايين مواطن قد تركوا العراق أي 20% تقريباً من الشعب، فحدث تشتت كبير بسبب الأوضاع العراقية، والكثيرون غادروا لأسباب اقتصادية، لكن السؤال هنا لماذا قد يشعر الإنسان بالاغتراب حتى في وطنه؟”.
وأجاب على تساؤله: “لأن معنى الوطن يُصبح مفقوداً ومُصادراً إذا كان الإنسان يعيش في نظام ظالم وليس لديه حقوق، وفي الحقيقة كنت أشعر باغتراب دائم في العراق، وكنت أحاول الهروب لكي أحصل على الحرية وأكتب بحرية، ولكن وأنا في الحافلة في الطريق إلى الأردن بكيتُ، لأني أدركت بشكل غريزي أني سأشتاق لشيء لم يكن موجود، وهذه هي الإشكالية، فالوطن هو فكرة يحاول الإنسان تحقيقها، ورغم ذلك مازالت أشعر عندما أعود إلى بغداد أن هذه هي مدينتي”.
وعن الانتفاضة التي خرجت في العراق وكان شعارها الرئيسي “نريد وطن”، قال سنان: “هذا شعار يلخص كل شيء، فمعظم الذين يعيشون داخل العراق لا يشعرون أنهم يعيشون في وطنهم، والكثير من الشباب والشابات في العراق يكتبون على مواقع التواصل الاجتماعي بسخرية مريرة (اللهم هجرة)، مثلما أنا هاجرت من وطن ليس فيه معنى الوطن”.
ومن مفهوم الوطن انتقل حديث سنان أنطون إلى الطائفية التي تجتاح العراق منذ سنوات طويلة، فقال: “كنت متشائماً لفترة طويلة فيما يخص العراق، بسبب السموم التي تبثها الفضائيات المملوكة لأنظمة طائفية تستغل صراعات سياسية لترسيخ الرواية الطائفية، وكانت لحظة بارقة الأمل الوحيدة عندما انطلقت انتفاضة ذات شعارات وطنية، تُعيد فكرة ترسيخ الوطن الواحد لدى الجميع، وتعجبتُ من وجود شباب صار عندهم وعي بأن الخطاب الطائفي وسيلة لتحقيق أهداف سياسية”.
ضد ورش الكتابة… وتلهمني الموسيقى
أعرب سنان أنطون خلال ندوته عن رأيه في ورش الكتابة الإبداعية قائلاً: “أنا ضد ورش الكتابة، بالطبع لا بد أن يستفيد من يرغب في الكتابة من نصائح بعض الكُتاب الذين لديهم تجربة لكننا نعيش في دول بها عشرات من ورش الكتابة، على الرغم أنه من الصعب أن تُصبح الكتابة مصدر رزق، وهذه هي الإشكالية. قبل أيام قرأت لكاتب جملة تلخص ما أريد قوله، وهي: يمكن أن يتعلم المرء لكن لا يمكن أن تُعلم الكتابة الإبداعية”.
وعن طقوسه في الكتابة، فليس لديه طقوس أو روتين خاص بالكتابة سوى الاستماع إلى الموسيقى حتى لو ليس لديه الفكرة التي سيكتبها: “تُلهمني الموسيقى لإنتاج فكرة جديدة للكتابة”، كما قال.
خزامى
أما العمل الأدبي القادم لسنان أنطون فيتناول تجربة اللجوء والهجرة التي تتغير على حسب الانحدار الطبقي، وبحسب التعليم، والوضع الاقتصادي، وكيف تتغير وتتضارب فكرة الوطن، شارحاً: “هناك الكثير من المهاجرين الذين يصلون إلى بلد الهجرة ويحاولون محو البلد الأصلي واستئصاله من داخلهم، فتدور الرواية حول شخصية تحاول محو الماضي، والبدء في حياة جديدة تتقمص خلالها هوية جديدة لكي تبتعد عن كل الصراعات، كما تتعرض الرواية للصراعات بين المظلوميات المختلفة”. وجدير بالذكر أن الرواية عنوانها حتى الآن هو “خزامى”.
ومن خلال الحديث اتضح اهتمام سنان أيضاً بالفنون المختلفة عامة والسينما خاصة، وبالفعل كانت له تجربة إخراج واحدة لفيلم تسجيلي بعنوان “حول بغداد”، فسألناه هل كان مقصوداً صناعة فيلم للتأريخ للعراق أم أن الفكرة كانت وليدة لحظة الرغبة في الإخراج؟ فصرح سنان لرصيف22:
“المفارقة أنني وأعز أصدقائي في الولايات المتحدة وهو صديق لبناني، كنا نرغب في عمل فيلم كوميدي عن إشكاليات الجالية العربية في أمريكا، مثل العنصرية، بما أننا جزء منها، لكن ما حدث أنه في عام 2002 بدأ التحضير لغزو العراق في الولايات المتحدة، وكانت هناك طريقة سخيفة ومختزلة، صور بها الإعلام الأمريكي تاريخ العراق، ومحو تاريخ تورط أمريكا في دعم صدام حسين، وتحويل موضوع غزو وحرب وتدمير بلد لمعادلة بسيطة، وهي أن هناك ديكتاتورية، وأمريكا تحاول تحرير الشعوب من الديكتاتوريات، وحين ذلك قلما كان يُسمع أو يُقرأ صوت عراقي في المنابر الأمريكية يقول أنا ضد الديكتاتورية ولكني لا أريد أن تؤذى بلدي”.
وأضاف: “بجهود بسيطة جمعنا المال، وذهبنا إلى العراق وصورنا لمدة ثلاثة أسابيع، نتحدث فيهم مع عراقيين من مختلف الطبقات والخلفيات والاتجاهات السياسية، وسألناهم عن رأيهم في الديكتاتورية وفي الولايات المتحدة، وكنا ننوي الذهاب إلى أماكن أخرى في العراق لو كان لدينا المزيد من المال، وحتى الآن أنا فخور جداً بأن الفيلم واحد من الأفلام القليلة باللغة الإنجليزية الذي يتحدث فيه العراقيون وليس الخبراء”. كما سألناه عن إذا كان ينوي تكرار تجربة العمل السينمائي مرة أخرى أم لا؟
فقال “في الصغر كان لدي حلم أن أصبح فناناً شاملاً، وأقدم أفلاماً ومسرحيات، وأصبح فناناً تشكيلياً، ومازالت لدي أمنية أن تتحول الروايات إلى أفلام، لكن الجميع يعلم جيداً أن السينما لها علاقة بسوق رأس المال، وهذا يُعني أنه لا بد من البحث عن منتجين وممولين ليساهموا في الفيلم دون تدمير الفكرة، فالكثير من الروايات التي تتحول إلى أفلام تُمسخ، وبسبب انشغالي في كتابة الروايات والعمل الأكاديمي لم تسنح لي فرصة تكرار التجربة ثانيةً”.
وأنهى حديثه لرصيف 22 قائلاً: “لا بد من الإشارة أن النبرة السائدة في الولايات المتحدة عن حرية الإعلام في دول الغرب ليست حقيقية، فعندما كنت أتناقش مع مجموعة الزملاء الذين صنعوا الفيلم معي عن كيف نضمن أن يظل الفيلم مرجعاً لسنين طويلة وليس فيلماً عابراً، حينذاك قلتُ لهم إن معظم المناخ السائد في أمريكا لا يهتم برأي العراقيين، ولا أعتقد أنه ستنتج أفلام عن العراقيين من قبل الأمريكان، وبعد 20 سنة هذه هي الحقيقة هناك أفلام معدودة، ثلاثة أو أربعة أفلام فقط”.
رصيف 22