الهوية الفردية والهوية الجماعية/ رشيد الحاج صالح
يعتقد غالبية السوريين أن هويتهم الجماعية، سواء كانت قومية أو دينية أو طائفية أو مناطقية، أمر شبه مقدس، وعليهم الدفاع عنها أيا كان الثمن، دون أي اعتبار لهويتهم الفردية وحقوقهم الخاصة وقناعاتهم الشخصية. وكأن بذل النفس في سبيل أمر جماعي أمر واجب وكبير، دون الانتباه إلى أن الهوية والحقوق هي فردية بالأساس وأن الجماعات ظهرت في التاريخ من أجل حماية الفرد وصون كرامته.
يحاول هذا المقال التذكيّر بأن الفرد لا يقل أهمية عن الجماعة وبأن على الفرد أن يعتمد على عقله عندما يفكر بجماعته. فالجماعات مثلما هي تحفظ الفرد وتعلي من مكانته وتحقق امتلاءه الروحي كذلك استخدمت في التاريخ للسيطرة وأكل حقوق الناس وظلم الآخرين أيضا، بغض النظر عن أخلاقية الانتماء للجماعة وقدسيته.
يجادل المفكر الهندي إمارتيا صن الحائز على جائزة نوبل بأن الهويات الجماعية، إذا لم تبن على العقل والتفكير بحقوق الفرد واحترامه لذاته، كثيرا ما تحولت إلى أداة للعنف تجاه الآخرين بحجج أخلاقية. فالانتماءات الجماعية: كالهويات والانتماء للقوميات والأديان والطوائف وغيرها، هي “أكبر قاتل في التاريخ. سواء داخل المجتمع بين أفراده، أو في الحروب بين الشعوب”. ولذلك يلاحظ صن أنه في المجتمعات التي يعلو فيها الانتماء للجماعات ليصل إلى حد التقديس كثيرا ما ترتفع التوجهات السلبية المحرضة للعنف وينخفض مستوى الثقة بين الناس ليصل إلى أدنى الدرجات، مثلما يقل الاحترام بين الناس المختلفين في الانتماءات.
ولذلك فإن المعادلة البسيطة التي يطرحها علم النفس الاجتماعي المعاصر اليوم هي أن الفرد هو من عليه أن يتحكم بجماعته وانتمائه لها بدلا من ترك الجماعة تتحكم به. فالمشكلة أن الفرد يعلي من قيمة الجماعة، وهذا حقه، ولكنه لا يعلي من قيمته ضمن الجماعة، ولا يعي أن عليه أن يساهم في صورة الجماعة والأفكار التي تتبناها الجماعة. أما أن يبقى مجرد متلقّ لقيم الجماعة، ومدافع عنها، أيا كانت تلك القيم فهو أمر سهل ولا يكلف الفرد عناء التفكير في مسؤوليته عن الجماعة، ولذلك فإن الأغلبية تلجأ إلى هذا الخيار.
ولعل ضعف ثقافة الهوية الفردية بين السوريين هو ما يفسر تراجع ثقافة تقبل المختلف عندهم. فالمتابع لنقاشاتهم وجدالاتهم حول قضاياهم الكبرى ومواقفهم من تراثهم وعقائدهم وهوياتهم وقضايا السياسة، وكل ما يتعلق بأمور كهذه، يجد أنها تنتهي نهايات مغلقة بحيث لا نصل إلا للرفض والتشكيك والتخوين وما إلى ذلك. فمثل ذلك الضعف يضعف أيضا شعور السوري بالمسؤولية تجاه آرائه وتصرفاته وصورته أمام المختلفين معه. ولعل هذا ما يفسر أيضا تجمعنا في الحدود القصوى على الجانبين.
الانتماء إلى جماعة ما، إذا لم يبن على العقل والتفكير بمصالح الفرد والجماعة بنفس الوقت، وإذا لم يؤسس على مبادئ أخلاقية إنسانية كثيرا ما يتحول إلى منبع لا ينضب للتعصب والعنصرية والتحيز بمختلف أشكاله. وهذه إحدى الإشكاليات الناتجة عن اعتقاد الفرد بأنه تابع في جماعته وليس سيداً.
يميز غابرييل ألموند، عالم السياسة الأميركي المعروف، بين العواطف والإدراك في الفكر البشري. والعواطف، هي ببساطة، أن تحب وتكره وتحقد وتبجل وتحترم وتحتقر، والإدراك أن تفكر في مضمون عواطفك وتفهمها، وأن تكوِّن معرفة عقلية وسياسية قبل أن تتخذ موقفا عاطفيا. المشكلة التي وجدها ألموند في المجتمعات التي تعيش في ظل أنظمة تسلطية أن تلك الأنظمة تعلِّم شعوبها أن تتخذ مواقف مبنية على عواطف وليس على إدراك أو معرفة، ليسهل عليها التحكم بهم. أما اليوم وقد تذوق غالبية السوريين المهجرين الحرية، وإن كانت حرية ممزوجة بالدم والقهر والجوع إلا أنه ليس هناك ما يمنع من تحررهم من الطرق التي أجبرهم النظام على التفكير بواسطتها حول أنفسهم وجماعاتهم.
المشكلة الأخرى هي أن غالبية السوريين يعتقدون أن تغيير مواقف الفرد وتعديل آرائه وقناعاته أمر ينقص من تقدير الناس له فتجده يهتم بالتمسك بآرائه أكثر من اهتمامه بتعقلها واستيعابها. ولعل إجبار النظام الأسدي السوريين على كتمهم لآرائهم، والمخاطر التي يسببها التعبير عن قناعاتهم وتغييب ثقافة “النقد والنقد الذاتي” هي ما أبقت بعض السوريين على التوهم بأن تغيير الرأي فيه “قلة قيمة”، علما أن المنطق يقول العكس، إذ من الطبيعي أن الفرد الذي تزداد تجاربه في الحياة، وتتنوع معارفه وتتعمق، كثيرا ما يقوم بتطوير آرائه ومواقفه من مختلف القضايا، بشكل مستقل عن الجماعة التي ينتمي إليها.
طبعا لا يستطيع الإنسان أن يعيش من دون انتماءات وهويات وجماعات تحيط به وتمنح حياته معنىً وأهدافاً كبرى، كما بيّن نقّاد ما بعد الحداثة، ولكن على الإنسان اليوم أن يوازن ما بين فرديته والجماعة التي ينتمي لها. فللفردية المفرطة وتجاهل الجماعة أيضا أمراض نفسية يحدثنا عنها المفكر الفرنسي إدغار موران، الذي احتفل بعيد ميلاده المئة قبل أشهر، ولا سيما حديثه عن الانطوائية والأنانية المفرطة وتجاهل الأخلاق العامة.
وهنا لا بد من الإشارة أيضا إلى أن الجماعة يجب أن تكون داعمة للفرد الذي ينتمي إليها مثلما لا بد للفرد من دعم جماعته، ولكن الدعم المتبادل يجب أن يكون على قاعدة الفرد ومصالحه وحفظ وجوده وإلا تحولت الجماعة إلى أداة للسيطرة على الفرد وتذويب ذاته من أساسها.
عندما تسيطر الأيديولوجيات الجماعية على الأفراد بشكل لا مفر فيه يتحول السوريون إلى مجرد وقود لتلك الأيديولوجيات، وهذا يعني أن على الجماعة أيضا التعامل مع الفرد على أنه شريك معها، ووجودها من أجله وإلا تحولت الأيدولوجية نفسها إلى سجن وقيود تدمي حتى معاصم معتنقيها. وهنا نذكّر بأن من معاني الهوية الفردية أن الفرد يهتم بصورته أمام ذاته أولا ثم بصورته أمام الآخرين ثانيا، وفي هذه الحالة سيتوقف عن أن يشعر بأنه موجود لخدمة الجماعة وأيديولوجياتها.
الوقوع في فخ العنصرية والعنف والتشكيك بالآخرين التي كثيرا ما تنتج عن تضخيم هوية الجماعة يذكرنا بأننا كيفما فكرنا فيجب أن يبقى الإنسان الفرد في المرتبة الأولى، والقيمة العليا التي من أجلها تكون الجماعة. حتى التعايش السلمي بين الناس لا يتحقق في مجتمعات تعلي من شأن الجماعات على الفرد، لأن استعداء الجماعات الأخرى سيتحول إلى هدف مشروع للفرد، وأشهر استهداف للجماعات في التاريخ هو استهداف الرموز أولا، واستهداف العقائد ثانيا.
تلفزيون سوريا