نقد ومقالات

بعد رحيل حسب الشيخ جعفر: تساؤلات وتكهنات/ نادية هناوي

على الرغم من أنّ رحيل الشاعر حسب الشيخ جعفر لم تمض عليه سوى عدة أسابيع، بيد أن هذا الرحيل أثار تساؤلات كثيرة، وولّد ردود أفعال تفاوتت في أهميتها. ومن التساؤلات التي تظل مهمة: إذا كانت عزلة الشاعر حسب الشيخ جعفر سبباً في نبوغه وتفرده، فهل يعني هذا أنّ اجتماعية قول الشعر ودعائية الترويج له تنتهي إلى الذواء حتماً وبداً، ومعها يذوي الذين يشتغلون على ترويج شعرهم بأساليبَ ومساعٍ شتى، وبعضها ممنهجة أو مخطط لها لأسباب غير فنية ولا جمالية؟ ولماذا صرنا نشهد ـ بعد رحيل شاعرنا الكبير ـ تبارياً في إجراء الحوارات الشعرية هنا وهناك ؟ أهي رغبة خفية من بعضهم في التنصب خليفة لحسب الشيخ جعفر؟ أم هي إعلان ضمني أنّ للشعر فرسانه وأنّ حسب الشيخ جعفر ليس آخر الفرسان؟

وإذ أُعيد التنقيب مجدداً في شعر الستينيات نشأةً وإنجازاً، فعلام يدل هذا الاهتمام والسعي إلى الانضواء في ركب شعراء الستينيات؟ ولماذا يصر بعض النقاد على وضع شاعرية حسب الشيخ جعفر ضمن قطار عقد معين من قطارات عقود ما بعد منتصف القرن العشرين؟ وهل كان حسب الشيخ جعفر أحد ركابه حقاً؟ أو بالأحرى هل ذلك القطار يناسبه أو كان قادراً على احتواء تجربته برمتها؟ وكيف يحتويها وقصيدته هي قطار بحد ذاتها استطاع أن يعبر بها عدة عقود متماهياً مع من سبقوه فتمثل حداثتهم، وتعاطى السعي مع المجايلين له فتمثلوا حداثته التي بدت على قصائدهم شاءوا أم أبوا؟ وما الغاية من وراء هذا التناقض ما بين حصر شاعرية حسب الشيخ جعفر في التدوير الإيقاعي، وانتزاع أسبقيته في التدوير ونسبتها إلى غيره؟

وهناك تساؤلات أخرى أيضا لن نذكرها، لأن الإجابة عنها يسيرة وليست بالمهمة أولا، ولكي نعطي أيضا للتساؤلات السابقة مساحة أوسع في التأمل، بحثاً عن إجابات وافية لها ثانياً. ولعل التساؤل الذي يفرض علينا أن نُجيب عنه، مقدمين إياه على غيره من التساؤلات هو ما يتعلق بالتربع على عرش الشعرية واستخلاف حسب الشيخ جعفر أو أحقية التفكير أساساً في مثل هذا التربع، ومشروعية أن يكون للشعراء الكبار خلفاء؟

لا نغالي إذا قلنا إنّ هذا الأمر كان قد أُثير في أكثر من مناسبة وبشكل مبطن، مخفياً في تضاعيفه رغبة متدارية لكنها واضحة لا تقبل الشك في أن يكون بعضهم حامل لواء الشعرية العراقية، وإلا كيف نفسر هذا التباري المحموم من لدن شعراء بعينهم، على تأكيد معايشتهم عقد الستينيات وأنهم كانوا جزءاً فاعلاً من حركته، وأنّ لهم حداثة فيه، هم فيها مؤسسون، على الرغم من أنهم جاءوا قبل هذا العقد أو بعده؟ ثم كيف نفسر الأمر وهذا التأكيد يأتي متوافقاً ما بين إجراء لقاء هنا، واسترجاع ذكريات هناك لا لشيء سوى لإثبات أنهم ستينيون، اعتقاداً منهم بأن عقد الستينيات قادر على أنْ يكوِّن لوحده جيلاً شعرياً.

ومما لا يخفى عن النقاد وعن أولئك الشعراء أيضا أنّ الشعر ليس بمملكة يبحث القاطنون فيها عن عرش يتقلدون تاجه، ولا هو بالبرلمان يسعى الطامحون إلى الفوز بمقعد ما من مقاعده، كما أن الشعر ليس ألعوبة يمكن لأي محترف يتمرس في مجال اللعب عهوداً أن يتفنن أصوله، ويمسك بيديه وحده زمام الربح فيها. ومما لا يخفى أيضاً أنّ القصيدة الواحدة لا تكرر نفسها إلا وهي شوهاء حتى عند الشاعر نفسه، بمعنى أنّ الشعر الجيد لا يكرر نفسه في نماذج شعرية تأتي على المقاس نفسه وبالمرام عينه.

ويخيل إليّ أننا مهما حاولنا جاهدين التقريب بين فئة من الشعراء وضمهم إلى بعضهم زمراً، فلن يكون الأمر ممكناً في غضون زمن قصير محدد عشري السنوات، مع وجود التنوع في المشارب والتوجهات في هذا الأمد القصير.

وإذا كان التجييل الأدبي مهماً في وضع الشعراء في خانات فينبغي أن لا يكون كيفياً غير مدروس وبلا أقيسة. والتجييل مراحل، ولكل مرحلة ظروفها التي تجعل ما بين الجيل والجيل مسافة زمنية كافية قد تكون ثلاثة عقود أو خمسة، وربما قرنا بأكمله تبعا لطبيعة الظروف ومدى قدرتها على التأثير في الشعر وتحفيز المواهب في قوله.

أما مسألة أن يولد شاعر صاحب مدرسة في الشعر فذلك لا يكون إلا لمن اتخذ من التجريب منهجاً متناً وزمناً، وذلك بوصف التجريب هو أسُّ التطور ولبُّه. ونحن نشعر بمعاناة الشاعر حسب الشيخ جعفر وهو يجرِّب في القصيدة على مدى عقود، وكانت خلاصة كل تلك المعاناة ولادة قصيدة ظلت في حالة اتقاد مستمر حتى ما خفتت فيها جذوة التجريب قيد أنملة.

وهذه المداومة على التجريب انتهت بحسب الشيخ جعفر شاعراً متألقاً يتصدر المشهد الشعري، أما عزلته فلم تكن نفسية ولا مرضية، بل هي من نواتج هذه المداومة على التجريب والتمرس في أوديته. وهو القائل في حوار أجرته معه مجلة «نزوى» عام 1997: (الشاعر الفذ والحقيقي يعيش غربتين غربة مكانية وغربة زمانية. لأن الشاعر لا ينتمي إلى مكان جغرافي بعينه. إنما ينتمي إلى العالم ككل. وانتماؤه إلى العالم ككل يجعل منه غريبا، فأنا شخصيا أنتمى إلى العالم ككل، أو في الأقل إلى بقع جغرافية محددة هي التي أجد نفسي فيها منسجما، وعندما أجد نفسي في بقعة لست على اتفاق معها فهي ليست بالنسبة لي وطنا.. والقصيدة التي تقف أمام حواجزها ليست قصيدة عظيمة، إن القصيدة الراقية هي التي تصل إلى ذروتها انسيابياً دون الخضوع أو الاستجابة لأي عوائق فنية تعترضها).

ولأن حسب الشيخ جعفر شاعر مجرِّب، صار هذا التجريب سبباً في جعله صاحب مدرسة في الشعر العربي. ومن الضروري أن يتعلم فيها الشعراء بعضهم من بعض، فلا يجحد الكم الكبير من الشعراء فضل القلة النابغة منهم.

وإذ يرى بعضهم أنّ الشعر خفتت ناره وقلَّ حراسه ونام أهله فماتت القصيدة اليوم وغداً؛ فإنهم واهمون لأن الشعر لا يموت وهو مثل أي فن من الفنون نصيبه الخلود. أما أمر فتوره أو اتقاده فذلك رهن بالحياة الثقافية ومن هم فاعلون فيها وكذلك طبيعة النقد وقدرته على أداء مسؤولياته الجمالية، فضلا عن مسائل وأشياء أخرى هي خارج عالم الشعر والثقافة ولكن لها أهميتها كالسياسة التي ما أن تطبخ القصيدة في دكاكينها حتى يموت الشعر الذي في داخلها. ولا أقول إن التمرد على السياسة هو الحل الناجع الذي يحول دون فساد القصيدة، وإنما أقول ما دام الشعر يجافي السياسة فلن نجد الجمهور مشككاً بالشعر والشعراء، ظاناً ظناً سيئاً بالقصيدة متصوراً أن زمن الشعر ولى. وخير برهان على ذلك أن رحيل شاعر مهم كافٍ ليعيد الأمور إلى نصابها، وهكذا حرّك رحيل الشاعر حسب الشيخ جعفر الغفوة الشعرية، وأعاد النظر في الشعر وأبنيته ومساراته السابقة، موجهاً الأنظار إلى حقيقة أن الشعر ليس هذا الذي نقرأه في وسائل الترويج الاجتماعي أو في الإيوانات والباحات غير الثقافية، بل هو ما تنشره الصحافة الثقافية في الجرائد والمجلات.

ويظل الشعر الحقيقي مقدساً وشحيحاً ولا بد أن نبحث عنه، والعزاء بالقارئ الذي يظفر بعد بحث حثيث عن مثل هذا الشعر. وليس مهماً بعد ذاك إن كان قائل الشعر حاضراً أو غائباً، قريباً أو بعيداً، له أبهة أو من بسطاء العامة، لأن ذلك كله ينتهي أمام الإجادة الشعرية في شكل قصيدة يخلد معها اسم قائلها. ومن ثم لا قصيدة تتربع عرش القصائد ولا شاعر يعتلي معها العرش، فالشعر لا عرش له، كما أنْ ليس لقائلي الشعر الجيد خلفاء، وإنما الشعر ببساطة قصيدة أجاد قولها شاعر.

كاتبة عراقية

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى