“فائزة” الناجية من سبي داعش: “أرفض أن تنظروا إليّ كضحية”/ ميسر الأداني
لم تكن فائزة كمال قد بلغت الـ12 بعد حين هاجم عناصرٌ من تنظيم داعش في الثالث من آب/ أغسطس 2014 قريتها “وردية”، جنوبي قضاء سنجار، على بعد 120 كيلومتراً غربي الموصل، واختطفوها مع اثنتين من شقيقاتها وجدّها لأبيها، لتقضي خمساً من سنوات طفولتها، سبيةً تُنقل من مكان إلى آخر.
تنقبض ملامِحُ وجهها وهي تستذكر تلك اللحظات التي فُصلت فيها عن والديها وشقيقين لها، إذ تمكنوا من الهرب والوصول إلى جبل سنجار، وبقوا محاصرين هناك لأسابيع قبل أن يتم إنقاذهم. تقول لرصيف22 بنبرة حزن: “كانت تلك آخر مرة رأيتهم فيها إلى أن تم تحريري في 25/9/2019، أما شقيقتاي فقد أرسلهما الدواعش مع جدي إلى أماكن مجهولة ولا نعرف عنهم شيئاً لغاية الآن”.
رفعت يدها المرتعشة وأشارت إلى البعيد: “كانوا يخبرونني كل يوم أن عائلتي لم يعد لها وجود. غيّروا اسمي مرتين. أبدلوا ثيابي، وحاولوا أن يبدلوا لغتي وديني”.
تحاول تجنب الأمر، لكن صوتُها يختنق بالبكاء، والقوة التي تحاول إظهارها تلاشت مع تذكرها لواقعة اغتصابها من قبل أول داعشي اشتراها واسمه “حجي مهدي التركماني”، من قضاء تلعفر، على بعد نحو 100 كيلومتر غربي الموصل.
تمسحُ دموعها بظاهر كفها، وتصف ما قاسته: “اغتصاب، ضرب، حرق بالماء الساخن، حبس في سرداب مظلم. قاموا بكل شيء لكي أمتثل لأوامرهم وخلق فائزة جديدة تناسب مقاساتهم وتعاليمهم. ولكسر إرادتي أخذوني ذات مرة إلى منزلنا الطيني في قريتنا ‘وردية’، وسجنوني هناك بين صور عائلتي المعلقة على الجدران ورائحة ملابسهم وحاجياتهم، لكنني لم أستسلم، وكنت دائماً أفكر بالهروب والنجاة”.
تفرد أصابع يدها اليمنى وتعدد: “في المرة الأولى، أطلقوا عليّ اسم جمانة، وكنت وقتها ما زلت في العراق، وفي المرة الثانية حين نقلوني إلى سوريا وباعوني لداعشي آخر، أسموني خلود”.
تأخذها لحظة شرود، قبل أن تضيف: “نقلوني من تلعفر إلى الموصل وإلى باغوز وعدة بلدات سورية أخرى كدير الزور والرقه، لكن ماذا حدث في النهاية؟ أنا ما زلت فائزة، وها أنا بين أهلي”.
تستعيد رباطة جأشها، وتأخذ نفساً عميقاً ثم تؤكد بعزمٍ أنها تتمسك بأمل العثور على شقيقتيها وجدها وعلى المفقودين الآخرين من أبناء جلدتها، وتُسخِّر جُل وقتها لمد يد العون للناجيات مثلها لأنها تعرف جيداً ما قاسينهُ وهن سبايا مختطفات.
يقدّر مكتب إنقاذ المختطفين الأيزيديين في إقليم كردستان أعداد المختطفين من قبل داعش في 2014 والذين ما زالوا مجهولي المصائر بـ2865 شخصاً، جُلهم نساء وأطفالٌ، إناث وذكور. وكان العدد الكلي للمختطفين 6417 شخصاً، رجالاً ونساءً وأطفالاً.
وبدءاً من نهاية 2015، أي منذ تحرير سنجار، ولغاية منتصف 2022، أُنقذ 3552 شخصاً منهم: 1209 نساء و339 رجلاً و1049 طفلاً و955 طفلة.
توق إلى الحياة
حالياً، تدير فائزة محلاً للألبسة ومساحيق التجميل، في مخيم “مام رشان”، في قضاء الشيخان (47 كيلومتراً شمالي الموصل)، وترى أن افتتاحها له شكّل رسائل لتشجيع المرأة الأيزيدية على الدخول في سوق العمل، إثباتاً لقدرتها، بعد أن كان ذلك حكراً على الرجال فقط، بسبب البيئة الأيزيدية المحافظة.
ترفض الشابة الأيزيدية أن ينظر إليها المجتمع على أنها مجرد ضحية تستحق العطف، ولديها فلسفتها الخاصة بشأن ذلك: “لم أكن ضعيفة وأنا بين أيديهم، بل كنتُ أقاومهم، وأرفض ما يطلبونه منّي على الرغم من تعذيبهم لي وسجني وبيعي مرات عديدة، كنت أقول لا، لكي أشعر بوجودي، فكيف بي وأنا حرة؟”.
إضافة إلى عملها التجاري الخاص، تقوم فائزة بأعمال وأنشطة طوعية، وتركز في جهودها على المطالبة بحقوق المختطفات والمختطفين ومحاولة تغيير واقع الفتاة الأيزيدية. وفي سبيل ذلك، ترتدي الزي الفلكلوري الأيزيدي، وترافق ناشطاتٍ أيزيديات أخريات وتتنقل معهن من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.
وأنشأت مع ناجيات أخريات شبكة “الناجيات الأيزيديات” التي يتركز عملها على الدفاع عن “حقوق الأيزيديات اللواتي تعرّضن للاضطهاد الجنسي والعبودية والاسترقاق”، وفقاً لتعبيرها.
تقول: “يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي، ولا بد لنا من تحقيق الأهداف ومحاسبة مرتكبي الجرائم من أفراد التنظيم وعبر المنظمات والحكومات الوطنية والدولية، وملاحقتهم قانونياً لمنعهم من العودة إلى ممارسة حياتهم الطبيعية وكأنّ شيئاً لم يحصل، ولنضمن غداً نعيش فيه حياة خالية من التطرف والانتهاكات”.
وفي إطار جهودها لتحقيق ذلك، صدر في 2021 كتابٌ باللغة العربية عن مطبعة كازي، حمل عنوان “وردة بيضاء في غابة سوداء”، ويتألف من 122 صفحة، لكاتب أيزيدي اسمه حسين حاجي باعدري، تضمن قصة اختطافها والحياة التي قاستها في السبي.
تناولَت نسخة من الكتاب كان على طاولة قريبة. قلّبت صفحاته دون رغبة في التوقف عند صفحة معيّنة، ثم أطبقتهُ وأعادتهُ إلى مكانه وقالت: “إنها قصتي المحفورة تفاصيلها هنا”، ووضعت يدها على جبهتها.
وتابعت: “قضيت 1882 يوماً مختطفة لدى داعش. أيامٌ وساعاتٌ ودقائق كلها رعبٌ. يجب ألا يذهب كل ذلك سدى وألا نتوقف أبداً حتى نستعيد كل المختطفات الباقيات لدى التنظيم”.
نهضت فائزة من كرسيها الذي كانت تجلس عليه. سارت بضع خطوات داخل متجرها الصغير. انشغلت بطي قمصان نسائية. رتبتها برفق فوق بعضها، وعادت إلى الكلام: “يوم اختطفوني، كنتُ في الصف السادس الابتدائي في سنجار، وكانت أحلامي وأمانيّ أن أصبح معلّمة أو ممرضة في منطقتنا التي تفتقر إلى العاملات في السلك التعليمي والصحي، فأكثر الفتيات الأيزيديات لا يُكملن تعليمهن الجامعي وينخرطن في سن مبكرة بالعمل في الزراعة ومتطلبات حياة القرى”.
تقاطع ذراعيها فوق صدرها وتقول بشيء من الأنفة: “الآن لدي أهداف وطموحات أكبر بكثير من ذلك، إنها بحجم المأساة التي عشتها، وأشعر بأن لدي الإرادة لتحقيقها، إرادة تشكلت خلال سنوات خطفي وكبرت بعد تحرري، أعرف جيداً ما هو الظلم وكم من النساء والفتيات يتعرضن له يومياً، ولهذا نعمل للدفاع عنهن والسعي من أجل حقوقهن وإنصافهن ليصبحن أصواتاً حرة لجميع النساء المظلومات”.
فائزة تقيم حالياً مع والديها وشقيقيها في ذات المكان الذي افتتحت فيه متجرها، في مخيم “مام رشان” وتحلم كما غيرها من الفتيات من أقرانها بتأسيس عائلة والعمل على خدمتها بكل ما تستطيع.
كسر حاجز الخوف
عادت الشابة بهدوء إلى مقعدها، وقالت، كأنها تحاول إفراغ رأسها مما علق فيه من ذكريات: “في مطلع 2019 قُتل الداعشي الأخير الذي اشتراني قبلها بثلاث سنوات ونقلني إلى سوريا، كان اسمه علي حسين ولقبه أبو عبد الرحمن، من أهالي حي النور في مدينة الموصل”.
زمت شفتيها وقالت بسخرية: “كان اسمي وقتها خلود”.
فكرت قليلاً ثم تابعت: “بموته، أصبحت حرة، واعتقلوني مع امرأة اسمها سارة، زوجة داعشي اسمه إسماعيل، صديق لعلي حسين. نقلونا إلى مخيم الهول في سوريا، لم أخبر أحداً هناك بأنني أيزيدية، لم تكن لدي ثقة بمخلوق، لغتي العربية كانت جيدة ولم يكن أي شخص يشكّ بأنني غير عربية”.
تصلبت ملامح وجهها وهي تواصل بغضب: “كنت خائفة من أن يقتلوني، فكثيراً ما كان علي حسين يريني مقاطع فيديو فيها قطع رؤوس ناس، ويقول لي سيحدث لك هذا إذا قلتِ لأحد بأنك أيزيدية”.
في شهر آب/ أغسطس 2021، تسللت سارة وزوجها من المخيم وفائزة معهما، واجتازوا الحدود نحو تركيا، لكن حراس الحدود الأتراك اعتقلوهم هناك وأعادوهم إلى مخيم الهول في سوريا. في غُضون ذلك، كانت هنالك جهود أيزيدية حثيثة تجري للبحث عن ناجين وتحريرهم.
كانوا قد نجحوا بالفعل في العثور على الكثير من المختطفين وقتها، يقول الباحث عادل كمال لرصيف22، ويشير إلى أن مكتب إنقاذ المختطفين الأيزيديين في دهوك، والذي يحظى بدعم رئاسة إقليم كردستان، كان يتواصل بعد تحرير نينوى وباقي المناطق من داعش، مع وسطاء في العراق وسوريا، مهمتهم “الإرشاد إلى مكان المختطف، امرأة أو طفل، ثم تجري عملية التحرير بمساعدة قوات أمنية، أو لقاء مبالغ مالية كفدية”.
استطاعت فائزة في أواخر آب/ أغسطس 2019 كسر حاجز الخوف، وتمكنت من خلال اتصالات هاتفية أجرتها من الوصول إلى أقرباء لها، فسارع ممثلو مكتب إنقاذ المختطفين إلى مكانها في المخيم، ونقلت من هناك إلى إقليم كردستان في العراق يوم الأحد في الأول من أيلول/ سبتمبر 2019.
يعود الباحث عادل كمال ليؤكد أن ثمة أسباب وراء صعوبة العثور على مزيد من السبايا والمختطفين الأيزيديين، ولا سيما النساء والأطفال ويقول: “قسم كبير من المجتمع الأيزيدي معروف بأنه لا يتساهل مع القضايا التي تُعرف بالشرف، ويكون مصير المرأة التي تجلب العار لهم حسب المعتقد السائد هو القتل، لذلك فمن المحتمل أن تكون هنالك أيزيديات لديهن بالفعل فرصة للعودة إلى ذويهن لكنهن يخشين على أنفسهن من ذلك المصير”.
كما يشير إلى سبب آخر، وهو أن يكنّ قد ولدن أطفالاً من حياة السبي، ويخشين من فقدانهن لهم لمعرفتهن الأكيدة بأن المجتمع الأيزيدي لن يتقبل وجود “أطفال من صلب داعشي بين أفراده”.
أما في ما يخص الأطفال، فيصف ما جرى لهم بأنه “غسل أدمغة” ويقول إنهم انصهروا وكبروا في كنف عائلات أخرى وباتوا يعتقدون أنهم أفرادٌ فيها. “الطفل الذي كان عمرهُ على سبيل المثال ثلاث سنوات يوم اختُطف في 2014، اليوم عمره 11 سنة تقريباً، لن يتذكر قطعاً عائلته الأيزيدية”، برأيه.
أمنية عظيمة
ترتسم ابتسامة على وجه فائزة للمرة لأولى وهي تتحدث عن يوم العثور عليها أو ما تحب أن تسميه “يوم تحريري”، وتقول عن ذلك اليوم: “كانت أمنية عظيمة بالنسبة إليّ وتحققَت بعد صبر طويل، عدت من الجحيم إلى جنة أهلي. شيء أشبه بالحلم أن احتضن تراب سنجار وأشجار المدينة المقدسة ‘لالش’ مرة أخرى وحولي أقاربي يستقبلونني بالورود، وينظرون إليّ كما فعلوا مع كل الناجيات بفخر كبير. منحتني تلك المواقف القوة لمواجهة كل التحديات”.
ومع أن أشهر ما بعد نجاتها الأولى كانت صعبة، ولم يكن لديها مخطط واضح لحياتها، لكنها تخطت ذلك أيضاً وقررت تغيير حياتها نحو الأحسن. تصطبغ وجنتاها بحمرة خفيفة وهي تقول بثقة: “أنا الآن في العشرين من عمري، وأمامي الكثير لأنجزه لي ولمجتمعي، ومَن يدري فقد أعثر قريباً على فارس أحلامٍ يعوضني عن كل ما فات!”.
بعد عام ونصف العام من عودتها، أي تحديداً في آذار/ مارس 2021 توجت جهود فائزة ورفيقاتها بإقرار مجلس النواب العراقي “قانون الناجيات الأيزيدات” الذي تضمن منحهن رواتب شهرية وقطع أراضي سكنية، وتوفير فرص عمل لهن، وضمان حصولهن على الاستشارة الصحية والنفسية المجانية، واعتماد يوم الثالث من آب/ أغسطس من كل عام، يوماً وطنياً في العراق، وهو اليوم الذي هاجم فيه تنظيم داعش مناطق تواجد الأيزيديين في قضاء سنجار وارتكب عناصره هناك ما يوصف محلياً ودولياً بجرائم إبادة جماعية.
ترفع يدها، تضيق المسافة بين سبابتها وإبهامها وتقول: “المصادقة على هذا القانون نصرٌ تحقق، لكنه بهذا الحجم، وهو غير كافٍ”.
تضع يدها على صدرها من جهة قلبها، وتقول بأسى: “هنالك المئات من المختطفات اللواتي يعشن الآن في مكان ما في رعب وعذاب. أعرف ذلك جيداً لأنني كنتُ مثلهن ولم أكن أملك سوى الحلم بالخلاص”.
رصيف 22