فوضى ذكورية: ما «النظام» الثقافي لقتلة النساء؟/ محمد سامي الكيال
يصعب الحديث بثقة عن تصاعد العنف الذكوري في العالم العربي، في ظل غياب أرقام دقيقة، وعدم تحديد معايير واضحة للمفهوم، سواء من الناحية القانونية أو الاجتماعية. وقد يكون لوسائل التواصل الاجتماعي دور في إبراز حوادث معينة، تعطي انطباعاً عاماً بتصاعد الجرائم ضد النساء، في حين أن العنف ربما كان دائماً موجوداً وفاعلاً، ومؤسِّساً، بشكل بنيوي، للشرط الاجتماعي لحضورهن في الحيزين العام والخاص.
إلا أن عدم القدرة على رصد تصاعد كمي للعنف الذكوري، لا يمنع من ملاحظة تغير نوعي في أنماط ممارسته. يلقي كثيرون عادة اللوم على «النظام الأبوي» في الجرائم المرتكبة بحق النساء حالياً، وتسود شعارات مثل «النظام الأبوي قاتل». بالتأكيد يقوم هذا النظام، مثل أي نظام اجتماعي وثقافي آخر، على كثير من العنف التأسيسي واليومي، إلا أنه، في الوقت نفسه، يوفّر نوعاً من الأعراف؛ الأخلاقيات؛ القيم؛ التي تؤطر عنفه ضمن قواعد معينة، وتؤمّن بعض الحماية المجتمعية لأفراده. يصعب فهم النظام الثقافي للعنف الذكوري في أيامنا، إذ يبدو أقرب لحالة من الفوضى غير الاجتماعية. بمعنى أن الاجتماع الإنساني نفسه يقوم على بنى رمزية معينة، يستبطنها الأفراد في سلوكياتهم، ويتوقعون عقوبة، أو ألماً ما، إذا ارتكبوا عنفاً أو أذى غير مبرر ضمن تلك البنى. فهل في قيم «المجتمع الأبوي» ما يبرر هذا الانتهاك الشامل للنساء في العالم العربي؟
لا يمكن تحديد نمط واحد للمجتمعات الأبوية، فقد تنوّعت بشدة عبر التاريخ، ولكن إذا أخذنا أحد أكثر التعريفات الأنثروبولوجية عمومية للمفهوم، وبالتالي من أقلها دقة وتحديداً، فإن الشرط الأساسي لأي مجتمع أبوي هو قدرته على ضمان عملية «تبادل النساء»، أي ببساطة، الحفاظ على علاقات القرابة والمصاهرة والتحالف وتوزيع الملكيات ونقلها، عبر قواعد معينة تُفرض على النساء أساساً، اللواتي يتم تداولهن بشكل مماثل لتداول العلامات والرموز اللغوية، ما يعطي المعنى للنظام الاجتماعي بأكمله. أهمية تبادل النساء هذا يجعلهن محميات من قبل آباء المجتمع الذكوري: زعماء العائلات والعشائر، رجال الدين، بل حتى الملوك والقادة. والاعتداء على امرأة ما يعني الاعتداء على جماعة بشرية بأكملها، وقد يؤدي إلى حروب واضطرابات وعمليات ثأر وانتقام طويلة.
لا يبدي كثير من المجتمعات العربية المعاصرة الحمية الأبوية القديمة في حماية «نسائها»، ويتم انتهاك النساء علناً، دون أن يظهر من يثأر لهن، بل يتم تحميل الضحية الفرد المسؤولية غالباً. قد يكون «النظام الأبوي قاتلاً» ضمن شروط معينة، ولكنه لا يقتل بالتأكيد بهذه الطريقة، ما يجعل السؤال عن «النظام» وراء كل هذا العنف، إن وجد، شديد الصعوبة. فضلاً عن سؤال آخر لا يقلّ صعوبة: ماذا يقول انفلات العنف هذا عن بنية المجتمعات والدول العربية المعاصرة؟
تبدّد النظام
ولّدت الأنظمة الأبوية القديمة مجموعة من البنى، مثل العشائر والعائلات والطوائف، عبر عدد من الآليات والأداءات الاجتماعية والجندرية، وقد فرضت تلك البنى قيوداً قاسية على النساء، وفي الوقت نفسه أضفت عليهن معاني عاطفية أقرب للقداسة: أمهات، عذارى طاهرات، عشيقات مكرّمات. النساء اللواتي لا يمكنهن الالتزام بهذه المعاني يواجهن مع مجتمعاتهن الأقرب غالباً، الاحتقار؛ ويصبحن علامات ورموزاً سلبية: عاهرات، رجالهن قوادين. جماعات بأكملها مثل الغجر أو «النَوَر»، وسمت بأبشع الصفات لهذا السبب. رغم هذا عملت على الدفاع عن نسائها بطرق متعددة، كي لا يتم انتهاك حياتهن بشكل كامل.
يبدو الشرط الحالي أكثر قسوة من هذا بكثير، البنى القديمة زالت أو تغيّرت طبيعتها، ما يزال هناك حديثٌ كثير عن الشرف والحمية والدين، ولكن النظام نفسه تبدد، وترُكت النساء، خاصة في الفضاء المديني العربي، الذي يزداد بؤساً وإفقاراً على الدوام، وحيدات في مواجهة عنف لا يمكن معرفة قواعده، وبالتالي التحسّب له.
يبدو الجدل حول تصرفات النساء وملابسهن، الذي يتصاعد مع كل حادثة اعتداء أو قتل أو تحرّش، أشبه بمحاكاة ساخرة للعرف الأبوي، سواء كان عشائرياً أو دينياً: لم يكن الضبط العقابي للنساء مسؤولية أي ذكر عابر في الشارع، بل كان يخضع لتوازنات وأحكام معقدة. العنف الحالي يبدو غريزياً أو حتى حيوانياً، لعدم استناده إلى منظومة قيم واضحة، والغريب أنه يلقى دعماً من قطاعات في المجتمع، ربما تحاول بيأس أن تحافظ على ما لديها من بقايا أخلاقيات، ترسّبت إليها من عصر وشرط تاريخي آخر، ولا تفهمها بوضوح. الرواسب القيمية والأخلاقية هذه لا تصنع نظاماً، سواء كان أبوياً أو غير أبوي، وليست أكثر من سديم فوضوي من العناصر، كلٌّ يستعملها حسب رؤيته ومصالحه ورغباته. ولهذا مخاطر كبيرة، إذ يمكن، بغياب ضبط اجتماعي صارم، أن يجد أي ذكر، في الخزّان الفكري الشاسع للمجتمعات الأبوية، ما يشاء من عناصر تبرر كرهه للنساء وإجرامه بحقهن، وأن يستعملها بالطريقة التي يرتئيها. وسائل التواصل الاجتماعي تزيد من حالة الفوضى هذه، إذ بات بإمكان أي شخص أن يعبّر «بحرية» عن فهمه لتلك الرواسب، وهو يظن أنه يناصر قيماً ثابتة وأبدية، رغم أن هذا النوع من القيم، تعريفاً، لا يقبل التعاطي معه بحرية، بل يجب أن يترك تحديده وتأويله للنخب من «أولي الأمر». لهذا فقد لا تكون المشكلة الحالية في النظام الأبوي، بل في زوال هذا النظام دون بدائل كافية.
فشل السياسات الحيوية
لا يتعلّق النظام الأبوي فقط بعشائر وعائلات على النمط العتيق.. الأسرة النووية الأحادية، سواء كانت بورجوازية أو عمالية، كانت الشكل الحديث للنظام الأبوي، المرتبط بالدولة ذات النزعة الاجتماعية. وهو نظّام كان فعّالاً في الغرب، مع دولة الرفاه. وعملت دول التحرر الوطني بعد الاستقلال على إيجاد نظائر عالمثالثية له.
تعمل العائلة الأحادية بوصفها مؤسسة اقتصادية/أيديولوجية، من مهامها الأساسية، إلى جانب نقل الملكيات، تجسيد السياسات الحيوية الأساسية للدولة الحديثة، فيما يتعلق بمستوى الحياة؛ فهم وتعريف الذات الفردية والاجتماعية؛ الأوضاع الصحية؛ القيم الأخلاقية والأداء الجنساني للأفراد/المواطنين، ضمن منظومات سياسية وقانونية متماسكة. يمكن توجيه انتقادات كثيرة للعائلة الأحادية، من منظور أيديولوجي نسوي أو «تقدمي» عموماً، ولكنها في كل الأحوال أدت وظائفها لعقود طويلة. ومن الصعب إطلاق أحكام قيمة مطلقة عن أوضاع النساء آنذاك. ما يهم أن ذلك النمط من العائلة انهار مع انهيار ما ارتبط به من بنى: المصنع والنقابة ومؤسسات الرعاية الاجتماعية.
عملت الدول العربية بدورها على دعم نمط العائلة الأحادي، رغم جذوره المسيحية، في السياسات الحيوية التي اتبعتها دون نجاح كبير: إنشاء فئة وسطى منتجة؛ تحديد النسل أو زيادته؛ تطويع الانتماءات الأولية السابقة للدولة، مثل العشيرة والطائفة، لمصلحة الولاء للسلطة، دون محاولة القضاء عليها نهائياً، ولكن إعادة دمجها في المنظومة التي تفرضها الدولة الضارية والمسيطرة؛ المحافظة على ما يعتبر «روح الشعب»، مثل «الإسلام»، «قيم الأسرة»، والآداب العامة. فشلت هذه السياسات، بعد أن «حدّثت» المجتمعات التقليدية، أو بالأصح بددت منظوماتها القائمة. والنتيجة فائض من السكان الشباب، ينحدر مستواه المعيشي والصحي والاجتماعي على الدوام، ولا يتمتع، في الوقت نفسه، بالحق في تقرير المصير الفردي. يُعرّف نفسه بوصفه «مسلماً» أو «شرقياً محافظاً»، ويعتبر من يخالف هذا خارجاً عن النواميس الاجتماعية والسياسية، التي حفظتها الدولة والمجتمع، ولكنه لا يستطيع إدراك مدى اختلاف المنظومة التي يعيشها عن تصوراته عن العصور الذهبية لمجتمع الذكور المسلمين المسيطرين.
النساء، اللواتي لم يعد يمكن تحديدهن وفق التصور التقليدي؛ ولا يوجد قانون، قائم على المساواة يحميهن في الوقت ذاته، سيكن بالتأكيد أكثر المتضررين من منظومة مختلّة كهذه على كل الصعد.
قانون وأخلاق
قد لا يكون التركيز على بنى لم تعد موجودة، مثل «النظام الأبوي»؛ أو كيانات ماورائية، مثل الروح الذكورية التمييزية والشريرة، هو الحل الأمثل لتحسين وضع النساء، أو حمايتهن في الشرط العربي الحالي. يبدو الوضع الراهن شديد الكارثية بسبب اضمحلال نظام الأخلاق العربي – الإسلامي، الذي ظل يُستَقى من المنظومات الأبوية التقليدية؛ وكذلك قصور أنظمة القانون العربية، التي لا توفر المساواة التامة للنساء، ولا تحميهن بشكل جدي من الاعتداءات الكثيرة، التي قد يتعرضن لها في مجتمع متدهور أخلاقياً بشدة.
وإذا كان إصلاح نظام الأخلاق متعذراً للغاية، مع الأزمة القيمية التي تعيشها الثقافة العربية الإسلامية، فربما كان الأجدى التركيز على القانون والسياسة: لعبت الدولة دوراً قمعياً ضارياً في مواجهة معارضيها، وقد يكون توجيه هذا القمع الآن لحماية الفئات الأضعف من الاعتداء حلاً مؤقتاً، إلى حين حدوث تغيّر جذري في قيم المجتمعات، لن يتمّ بالتأكيد بين يوم وليلة.
القدس العربي