هاجس الهوية السورية بين الإيديولوجيا والمعرفة/ حمدان العكلة
تمهيد
في نيسان (أبريل) 2022، صدر عن مؤسسة ميسلون للثقافة والنشر والترجمة كتاب المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر للكاتب حسام الدين درويش، الذي يسعى في كتابه هذا للبحث عن العلاقة الجدلية بين الفكر السوري والإيديولوجيات المختلفة. والفكرة الرئيسة التي يتمحور حولها الكتاب هي أنَّ وجود هوية سورية متباينة عن محطيها أعطاها نوعاً من الخصوصية، مع العلم أنَّ هذا التباين لم يكن في يومٍ ما تبايناً جغرافياً أو تاريخياً، إنَّما هو تباينٌ أحدثته الثورة ضدَّ أعتى أنظمة القهر والاستبداد في المنطقة العربية. ويحاول الكاتب عبر 316 صفحة تقديم ملامح هوية سورية بمفهومها الواسع والمختلف عن طرح السلطة الحاكمة، التي طمست كلَّ أشكال التنوع والاختلاف بين أطياف الشعب السوري لتفرض إيديولوجيتها عبر سلطة حزب البعث، الذي اغتصب المجتمع والدولة قبل أن ينعم السوريون بحقيقة استقلالهم منذ العام 1946م.
إذاً نحن أمام طرح جديد لإشكالية تكاد تكون من أبرز المعوقات التي أدَّت إلى عرقلة الثورة السورية قبل أن تتكلل مساعيها بالنجاح، فكان الحديث عن الصراع الإيديولوجي ومعرفة مَواطن تلاقي الفكر والإيديولوجيا سببين دفعا الكاتب للبحث في هذه الإشكالية، وشجّعاني من ناحية أخرى للخوض في طيَّات هذا الكتاب، لمحاورته واستنطاق الأفكار المطروحة بين دفَّتيه.
أولاً: المواطنة بين الفردانية والجماعاتية
قدَّمت الثورة السورية إشكالية انتماء الفرد على محورين؛ الأول هو الفرد المواطن الذي يشكِّل أساساً مهمَّاً في ممارسة الفعل السياسي في الفضاء العام، أي الفرد الذي لا ينتمي إلى مرجعيةٍ تتحكَّم بنشاطه الفردي أو تؤثر على قراراته، في حين أنَّ المحور الثاني يدور حول طرح فكرة عدم التناقض بين فردية المواطن وبين انتماءاته الجماعية، وبالتالي يتمُّ تكريس فكرة عدم تأثير هذا الانتماء على الفعل السياسي للفرد. وفي الحقيقة، يمكننا أن نقول إنَّ الانتماءات الجماعية في سورية هي في معظمها انتماءات تعود إلى مرحلة ما قبل تأسيس الدولة، يعني في مرحلة سبقت تكوُّن المؤسسات والهيئات التي تنظِّم عمل الفرد بوصفه كائناً سياساً فاعلاً. هذه الانتماءات غير المنظَّمة كانت ترفض الوطنية والديمقراطية اللتين تسعيان إلى تعزيز حضور المواطن الفرد المتجرِّد من أيِّ انتماء جماعاتي بوصفه فرداً غير منتمٍ إلى هذه الجماعة العضوية أو تلك، فالوطنية تقتضي حصر الحضور الفردي بالتنظيمات المدنية والأحزاب السياسية من دون أن يكون لها أيُّ مرجعية جماعاتية، مع الإقرار بهذه الجماعاتية كبنية ثقافية غير خاضعة لأيديولوجيا السلطة. وهنا مكمن المشكلة، فقد وقعت سورية ضحية الفهم الخاطئ للعلاقة بين الفردانية والجماعاتية ممَّا أفضى إلى هيمنة حضور الاتجاهات الطائفية أو الإثنية أو المناطقية المؤطرة برؤية أيديولوجية ضيقة غير وطنية، وجعل هذه التكتلات الجماعاتية تفرض نفسها على الدولة من خلال سياساتها التي كانت تسيطر عليها بشكل مباشر أو غير مباشر.
وفي النسيج السوريِّ تختلف هذه الجماعات من حيث حجمها وقوتها وإمكانية تمويلها من الخارج وعلاقاتها المتجاوزة للحدود، وهي مختلفة إيديولوجياً بين عروبية وإسلامية وقبلية وإثنية و.. وفي ظل هذا التنافس غدت الجماعاتية مجرد وسيلة إسمية للوصول إلى الحكم، ولم تتمكن من تحقيق العدالة الاجتماعية والمساوة نظراً لمرجعياتها الجماعاتية الضيقة التي جعلت منها وسيلة للاستبداد، وبالتالي وسيلة لوقوع صراع جماعاتي. ويظهر هذا التوجُّه الاستبدادي من خلال رفض أيِّ شكل للحكم لا ينص على حكم الأغلبية كفكرة الفيدرالية، التي قد تُطرح في ظل حالة التنوع الجماعاتي المنسجم مع التوزع الجغرافي التاريخي لها.
إن حلَّ إشكالية الفردانية والجماعاتية لن يتمَّ بين يومٍ وليلة؛ لأنَّ الشعب السوري الآن يعيد رسم هويته وصناعة دولته، وقد كانت مسألة الحريات سبباً في اندلاع ثورةٍ تطالب بنظام سياسيٍّ جديد يعترف بالحريات جميعها، نظام تتقدم فيه حرية الأفراد على الحريات الجماعاتية في دولة وطنية وديمقراطية.
ثانياً: الهوية بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل
يرى أرسطو أنَّ الوجود لا يكون دفعة واحدة، إنَّما يكون على أنحاء متفرقة ومختلفة، وقد تمَّ التفريق بين ما هو موجود بالقوة من دون هوية أو شكل، وبين ما هو موجود بالفعل. بمعنى أنَّ هناك تراتبية معينة لا يمكن أن نصل فيها إلى المرحلة الثانية ما لم نمرُّ بالأولى، وهذا ما لم يحصل في تكوين الهوية السورية التي تمَّ إيجادها بالقوة عن طريق المزاودة الشعاراتية التي قامت بها السلطة الأسدية قبل العام 2011م، فكانت مقومات الهوية السورية موجودة بالقوة وغير متجسدة بالفعل، وهي بذلك تخالف الدولة التي تُقام على أساس قومي تسبق فيها الهويةُ الدولةَ من حيث الوجود، حيث كانت مهمة الدولة (السلطة) رسم هويتها بطريقة مشوهة، وقد تضاعف هذا التشوه عبر تتالي السلطات الحاكمة منذ الاستقلال، الأمر الذي سمح للسلطة الأسدية بالهيمنة على الدولة، وإقرار أيِّ تغييرٍ بنيويٍّ أو ديمغرافيٍّ في ضوء غياب هوية واضحة للدولة، فكانت السلطة تمارس استبداداها من وراء مزاعم الانتماء للقومية العربية بهدف كبت الانتماءات القومية والإثنية الجزئية في سورية؛ لأن صياغة هوية وطنية سورية والاعتراف بها أمر يتطلب بالضرورة الاعتراف الثقافي والاجتماعي والسياسي بالمكونات القومية (أكراد، تركمان، شركس) وهو ما لم يحصل في سورية.
إنَّ اغتصاب الدولة في سورية من قِبَل السلطة الاستبدادية قاد إلى جعل سورية بلا هوية محدَّدة، ثمَّ قاد إلى التماهي مع شخص الحاكم الدكتاتور (سورية الأسد)، فبات الوطن والحاكم في حالة من التماهي التام، بمعنى أنَّ حبَّ الوطن والدفاع عنه يتطلب حب القائد والدفاع عنه، ممَّا تسبَّب بالنفور من هذا الوطن المُختزَل بصورة حاكمه، فبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة العودة إلى الهويات الجزئية، أي هويات ما قبل هذا الوطن؛ ولم يكن باب السلطة مُشرَّعاً لتلك العودة، بل عُدَّت هذه الممارسات خيانة للوطن تستوجب أشد العقوبات، الأمر الذي حوَّلها إلى هويات مكبوتة تحاول اقتناص فرصة للحضور.
إن بنية الهوية تستلزم الواقعية والقرار الإرادي، بُغية الانتقال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، لهذا فإنَّها يجب أن تمرَّ عبر مراحل تحقق نضوجها وظهورها بشكلٍ فعَّال. تبدأ هذه المراحل بتأسيس فكري ينتهي بالتوافق على ماهية الدولة، ثم يُثبَّت هذا التوافق بدستور محدَّد، ثمَّ يتمُّ تعميق الوعي بهذه الهوية بعد استبعاد الوعي الزائف، ولعلَّ ختام هذه المراحل هو العمل الميداني للوصول لأكبر شريحة من أبناء الشعب.
في الختام
نقول إنَّ هناك ترابطاً بين إشكالية الهوية الوطنية وبين إشكالية الدولة، إذ إنَّ الدولة العربية بمفهومها الوطني هي دولة مُحدَثة بقرار سياسي خارجي ولم تكن نِتاج قرار شعبي، بل على العكس تماماً، ممَّا جعلها خارج الإرادة الجماعاتية؛ لأنَّها تتناقض سياسياً في كثير من الأحيان مع النسيج البنيوي للجماعاتية، الأمر الذي يفسِّر عزوف الكثير من السوريين عن مفهوم الوطن والهوية السورية بعد قيام الثورة، فسورية لم تكن يوماً بالنسبة للكثيرين سوى مؤسسة تنميط، تُنتج أفراداً على شاكلة السلطة الحاكمة، فهي ليست سوى سورية الأسد أو سورية البعث، هي مكان للقمع والظلم والإفقار، وهويتها الوطنية لم تكن قوة فاعلة أو موجودة بالفعل، إنما هي قوة انفعالية لا فاعلية لها، تحتاج إلى الدولة لتكون وسيلتها في الحضور الفاعل.
كما يمكن أن يكون الانتماء للهوية الوطنية غير متناقض مع الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي بشرط الإقرار بالحقوق الثقافية والاجتماعية والسياسية، أي أن تكون هناك إرادة لعقد اجتماعي، فهل الهوية السورية اليوم أمام فرصة حقيقية لصياغة عقد اجتماعي جديد؟ أم أن التصادم الهوياتي مستمر في ظل الصراع بين المعرفي والإيديولوجي؟
موقع الجمهورية