الحروب التافهة في سورية/ عمار ديوب
كان للمعارك بين قوات النظام والفصائل المعارضة في سورية قيمة واعتباراً، وكانت مأساوية بالفعل قبل العام 2015، وفيها تتحرّر مناطق ونادراً ما تُستعاد مناطق. بعد 2018 بصفة خاصة، ومنذ 2015، ودخول الاحتلال الروسي، بصفة عامة، لم يعد للمعارك أيّة معانٍ. صفّى النظام القسم الأكبر من مليشياته، وفَرضت الفصائل الأقوى سيطرتها على الأضعف، ومنها ما تلاشى بسبب توقف الدعم الخارجي؛ أخيرا، وكل مدة، نسمع عن معارك تخوضها مليشيات تابعة لآل الأسد في اللاذقية، لا سيما بين أبناء هلال الأسد أو بديع الأسد، وسواهم. وكما هذا، يتكرّر الأمر في “المحررّ”، حيث تقاتلت فصائل من الجبهة الشامية وأحرار الشام، واستغلت هيئة تحرير الشام الاحتراب، وشنّت عملية عسكرية واسعة، وانحاز قسم من تلك الفصائل إليها، ولم تتراجع عن احتلالها البلدات إلا بسبب التدخل التركي، وإعادة الأمور إلى نصابها. وهذا يعني أن الأتراك يسيطرون بأشكال متعدّدة على كل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بما فيها مناطق هيئة تحرير الشمال، والمناطق التي حرّرتها الفصائل أو عبر الغزوات التركية. لم تسع القوات التركية إلى فرض سلطة مركزية وجيش موحد في عفرين وجرابلس وتل أبيض وسواها؛ أغلبية “الجيش الوطني” محض عصاباتٍ تحت مسمّى جيش، وهذا يساعد الأتراك على التحكّم بها، وتوظيفها في إطار الاستراتيجية التركية في سورية وخارجها، لا سيما محاربة الأكراد، والخضوع للاتفاقات مع الروس والإيرانيين.
لا تشذّ قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وكذا ملحقاتها (“مسد” وسواه)، التابعة للأميركان، كثيراً عمّا أسلفنا، والمستعدّة للتعاون مع الروس والنظام، وحتى الإيرانيين، فهي تناوش الفصائل التابعة لتركيا بين حين وآخر، وتمنع أي قوة سياسية من أن تعمل بشكلٍ حرٍّ في مناطق سيطرتها. وبالتأكيد، لن تسمح لفصائل عسكرية بالوجود باستقلالية عنها، ولم تسع هي أو فصائل الجيش الحر إلى أيٍّ من أشكال التعاون. التفاهة تكمن في غياب أيّ مبرّرات لوجود هذه القوى لولا الدعم التركي أو الأميركي، وبالطبع، مليشيات النظام وجيشه تابعة إمّا للروس أو للإيرانيين؛ قوّة النظام من وجود القوات الإيرانية والروسية ومليشياتها.
شنّت قوات للنظام، أخيرا، مع مليشيات من حزب الله، معركة على قواتٍ “درزية” تسمّي نفسها قوات مكافحة الإرهاب في السويداء، ومدعومةً من التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وقضت عليها، وقتلت قائدها سامر الحكيم، في أقل من ستة ساعات، ولم يتدخل التحالف لحماية هذا الفصيل، وهو ما فعلته أميركا حينما أمرت “قسد” في السنوات السابقة بالانسحاب من مناطق متعدّدة، عفرين وتل أبيض وسواها، كي تتمدّد تركيا، وهذا يوضح أن أهمية “قسد” والفصائل، وحتى هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا)، بمقدار التناقض مع روسيا وتركيا وإيران، والعكس صحيح، حيث سيجرى حلّها حينما تحدُث التسويات الدولية. انسحبت هيئة تحرير الشام أيضاً من مناطق متعدّدة إثر اتفاقات بين الأتراك والروس في السنوات السابقة، بينما سَحقت هذه الهيئة أغلبية الفصائل “الوطنية” التي كانت تعمل في إدلب، وبعد 2020، تسحق القوى الجهادية، كحرّاس الدين وجند الأقصى، ومجموعات شيشانية وتركستانية، وانسجاماً وخضوعاً لاتفاقات روسية تركية.
لا يمكننا عدم رؤية تفاهة المعارك التي تحدث في السويداء، والانفلات الأمني الواسع في هذه المحافظة الذي تتضرّر منه قوات النظام نفسها. وعكس ذلك، أوضحت عملية اجتثاث قوات مكافحة الإرهاب أن كل الانفلات الأمني في السويداء يمكن اجتثاثه بسهولةٍ، لو شاء النظام وحلفاؤه. ولهذا هناك سبب آخر، يتعلق بإخماد أية تطلعات ديمقراطية أو سياسية وطنية في هذه المحافظة، ودفعها إلى التقوقع الهوياتي، ومعاقبتها على رفض شبابٍ كثيرين منها الالتحاق بقوات النظام.
في محافظة درعا، تتكرّر عمليات الاغتيال، يومياً، لعناصر من جيش النظام أو أفراد من الفصائل السابقة، الذين أجروا مصالحاتٍ مع النظام؛ العقل يقول بضرورة أن يتصالح النظام مع المدن، ومع كل منطقة سُلِمت له وفقاً لاتفاقيات التصعيد بعد 2017، ولكن عبثاً، وفي غوطة دمشق، لا تتوقف الاعتقالات أيضاً. ليست هناك أّية أشكالٍ للمعارضة والتظاهر لاستمرار النظام بسياسة القمع الممنهجة. ويشعر المرء بكثير من الإذلال والمرارة، بل والتفاهة لما يحدث، والأسوأ ما يدور في عقول السوريين: أيّة خطيئة ارتكبناها حينما لم نغادر البلاد من قبل.
يوصل التحليل أعلاه النص إلى استنتاجٍ يتعلق بموضوع الهوية، والتي كثيراً من تُناقَش في أوساط السوريين بصورة جامدة وغير واقعية، فتُصبح هوياتٍ متعدّدة بتعدّد طوائفهم وأديانهم وقومياتهم. العنف الممنهج من النظام بعد 2011 خصوصا، وروايته عن الثورة الإسلامية الجهادية، عزّزا تلك الهويات، وكذلك فعلت الفصائل الإسلامية والإسلام السياسي، وبشكل خاصة هيئة تحرير الشام و”داعش” والفصائل الجهادية. لا يعني رسوخها أنها كانت موجودة من قبل؛ والأدقّ أن وجودها المسيس اقتصر على بعض الفئات، وهذا يعني أنها ليست نهائية ومتغيّرة.
السوريون المحكومون بسلطات المناطق الأربع رأوا بأم العين مساوئها، ومن الطبيعي ألا يتفقوا مع أيديولوجياتها وهوياتها، كما رفضوا أيديولوجية النظام. وفي كل الأحوال، عبرت فئات كثيرة عن رفضها تلك السلطات، وليس حال مدينة السويداء استثناءً، فهناك تظاهرات جرت في مناطق هيئة تحرير الشام أو الفصائل أو “قسد”. ينتج تغيّر الأحوال بعد 2015، وتحكّم الدول المتدخلة بالمناطق الأربع، وتشكُّل سلطات شرسة ضد “الشعوب الأربعة”، وعياً وطنياً جديداً، بضرورة زوال كل هذه السلطات. المشكلة هنا بالضبط؛ فصعوبة إزالة النظام، أو “قسد” أو هيئة تحرير الشام، تجعل الشعوب تميل نحو الاستكانة، ولكن ليس نحو تبنّي أيديولوجيات تلك السلطات وأفكارها، بل وأزعم إن أغلبية السوريين يبتغون هوية واحدة. وفي هذا، علينا التفريق بين التديّن الذي اشتدّ عوده كثيراً بعد 2011، وبين الانتماء السياسي الديني للأفراد وللجماعات السلفية والأصولية. القول إن السوريين أصبحوا جماعاتٍ طائفيةَ أو أدياناً مسيّسة أو قوميات متقاتلة، وهم كانوا كذلك، ولن يتغيّروا، ليس سليما؛ بل العكس هو الصحيح؛ فالتجربة تُعلّم ضرورة الانفضاض عن كل تسييس مناطقي أو طائفي أو قومي، والعمل من أجل سورية واحدة، ولكل السوريين.
بوضوحٍ أقول: هناك تسييس كبير للهوية السورية، وأصبحت هوياتٍ مختلطة وأهلية بصورة كبيرة، ولكنها ليست سياسيةً، والسياسية منها تقتصر على الجماعات المسيّسة. يعيق تشكّل الهوية الوطنية تلك السلطات ومشاريع الدول المتدخلة في سورية، والوطنية هنا لا تتعارض مع البنى الأهلية الدينية، كما كان الأمر قبل السبعينيات مثلاً. إذاً، كل المعارك التي لم تتجه نحو بناء نظام ديمقراطي وطني، يستند إلى المواطنة والعدالة الاجتماعية ولصالح السوريين كافة، كانت معارك تافهة، ولصالح الدول المتدخلة والمحتلة والتسييس الهوياتي، وكل تأجيل في بناء هذا النظام، أو محاولة العمل من أجله، سيكون لصالح تلك السلطات والمتدخلين، وللإمعان في تخريب البنية الاجتماعية.
العربي الجديد