صفحات الثقافة

على مقهى الجامعة/ عمرو حمزاوي

في حوار كان مع عدد من الباحثين الأمريكيين والأوروبيين في جامعة ستانفورد منذ أيام قليلة ودار حول صعود التيارات المحافظة والشعبوية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، عبر أكثر من زميل أمريكي عن الحزن الشخصي والألم الأخلاقي على ما آل إليه حال المجتمع الأمريكي الذي قررت محكمته الدستورية العليا إسقاط الحق القانوني للنساء في الإجهاض (حكم روف ويد الشهير) وأسقطت أيضا، في إلغاء جديد للحدود الفاصلة بين الدولة والدين، قوانين في ولاية «مين» الواقعة في الشمال الشرقي كانت تحظر توظيف أموال دافعي الضرائب في تمويل المدارس الدينية بادعاء أن في ذلك تمييزا ضد الدين!

عزف بعض الزملاء الأوروبيين على نفس الوتيرة، فذكر أحدهم أن المواطنين في دول الاتحاد الأوروبي صاروا يتوزعون إلى أغلبيات يحركها الخوف من الحاضر والمستقبل وتستسلم لمقولات الكراهية التي يروج لها اليمين المتطرف وأقليات تريد الحفاظ على الحرية وتبحث عن قوى سياسية تقدمية تعبر عن آمالها في مجتمعات منفتحة وعادلة.

غير أن الاعتراضات انهالت على الرجل هادئ الطباع ما أن توقف عن الحديث وجرت في مجملها باتجاه تفنيد إدانة الأغلبيات كوقود بشري لنيران اليمين المتطرف. جاء الاعتراض الأول من باحث اجتماعي بولندي شدد على أن الناخبين في بلاده أعطوا اليمين المحافظ والمتطرف أغلبية برلمانية بعدما صبروا طويلا على الأحزاب اليسارية والتقدمية التي أخفقت في تقديم حلول حقيقية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية وللتوترات المرتبطة بعضوية الاتحاد الأوروبي وقضايا كالهجرة واللجوء. قال، في بلادي لم تصوت الأغلبية لليمين حبا في مقولات الكراهية أو طلبا لمجتمع «يطهر» من الأجانب، بل صوتت له لأن اليسار لم ينتج سوى عموميات عن ضرورة مواصلة السياسات الإنسانية والالتزام بالاندماج الأوروبي ولم يتناول بجدية المعاناة الاقتصادية والاجتماعية للناس. قال، ولو كان اليسار تبنى أفكارا سياسية شجاعة كرفع الحد الأدنى للأجور وإعادة النظر في النظم الضريبية التي تحابي الأغنياء وتلقي بالعبء الضريبي الأكبر على عاتق الفئات متوسطة ومحدودة الدخل لتغيرت نتائج الانتخابات.

وظفت باحثة فرنسية في مجال «الأخلاق والتكنولوجيا» الملاحظة بشأن عجز اليسار عن تبني أفكار سياسية شجاعة لكي تعرج على الاحتجاجات الاجتماعية التي تعج بها القارة الأوروبية ولتدلل على أن قطاعات واسعة بين مواطنيها لم تعد تشعر بأن السياسة الرسمية والأحزاب المشاركة بها يمينا ويسارا تمثل المصالح الحقيقية للناس وتدافع عنها وتضطلع بترجمتها إلى قوانين وسياسات قابلة للتنفيذ. قالت، طبقت حكومة ماكرون سياسات اقتصادية واجتماعية تنتقص من حقوق متوسطي ومحدودي الدخل وفعلت ذلك في لحظة مجتمعية تتسع بها الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتتحول بها أطراف المدن الكبيرة (باريس نموذجا) لقنابل موقوتة اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا. قالت، ليست الاحتجاجات الاجتماعية في أوروبا والتي توظف بها كافة أدوات التكنولوجيا الحديثة سوى احتجاجات خبز تقليدية كتلك التي تشهدها بلدان العالم النامي ولم يكن العنف المتصاعد الذي شهدته المجتمعات الأوروبية والمجتمع الأمريكي خلال السنوات الماضية غير ترجمة مباشرة لليأس من أن تستمع السياسة الرسمية أو أن يستمع المشاركون بها من قيادات حزبية وبرلمانية إلى أنين الناس إن هم لم يخرجوا بصخب إلى الفضاء العام. فسياسة اليوم وساستها يرفضون التوقف عن محاباة الأغنياء وتهميش متوسطي ومحدودي الدخل تارة باسم مقتضيات السوق في الولايات المتحدة وتارة باسم مقتضيات الاندماج الأوروبي وضغوط العملة الموحدة وتارة باسم العولمة الاقتصادية وشروط المنافسة في الأسواق.

ومن الباحثة الفرنسية انتقلت الكلمة إلى باحث إيطالي في العلوم السياسية يدرس حاليا صعود اليمين المتطرف والشعبوي والعوامل المجتمعية التي تدفع قطاعات مؤثرة من المواطنين لانتخابه. جاء التحليل متسقا مع عجز الأحزاب المشاركة في السياسة الرسمية عن تبني أفكار شجاعة توفر وإن القليل من الحلول الحقيقية للأزمات القائمة. قال، في إيطاليا يتواكب التدهور الاقتصادي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والاستدانة الحكومية مع فوارق في الدخل تزداد بعنف بين الأغنياء والفقراء ومع ضغوط اجتماعية بفعل تحديات الهجرة واللجوء من جهة والمنافسة الأوروبية-الأوروبية في سوق العمل. اليوم، ترى العاملة أو الموظفة الإيطالية متوسطة الدخل قدرتها على الحفاظ على نمط حياتها وحياة أسرتها تنهار وتتنافس في سوق العمل مع عاملات وموظفات من بلدان أوروبا الشرقية والوسطى وتلمح التوترات المجتمعية بفعل الفقر والبطالة والهجرة في ازدياد. قال، وإزاء كل ذلك لم تقدم الأحزاب السياسية التقليدية في اليمين واليسار غير استجابات خائفة وجزئية ولم تقو على سبيل المثال على طرح أفكار كفرض ضرائب إضافية على الأغنياء والالتزام بتوجيه العائد إلى الفئات متوسطة ومحدودة الدخل، بل ترك الأمر برمته جانبا حتى جاءت الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية، وادعت تبنيها لأفكار للعدالة الاجتماعية ومزجتها بمقولات كراهية ضد الأجانب وضد الاتحاد الأوروبي وبمقولات تستحث النعرات الوطنية، وبذلك المزيج حققت نجاحاتها المتتالية في صناديق الانتخابات.

اختتم الحوار أستاذ علوم سياسية ألماني-أمريكي بملاحظات حول احتجاجات الأمريكيين والأوروبيين ومدلولاتها. عرف بنفسه سياسيا قائلا أنه من ناخبي الحزب الاشتراكي الديمقراطي ويساري من يساريي الحركات الطلابية في 1968، ثم نأى بأفكاره بوضوح عن تعميم الاتهامات للأحزاب التقليدية في اليمين واليسار بالعجز عن تبني أفكار سياسية شجاعة. قال، تواجه الأحزاب التقليدية تحديات كبرى ترتبط بتراجع الأهمية المجتمعية للقطاعات السكانية التي اعتادت تمثيلها. فالحركات والنقابات العمالية التي ولد اليسار الأمريكي والأوروبي من رحمها لم تعد ما كانت عليه حتى ثمانينيات القرن العشرين، والفئات السكانية متوسطة الدخل وقاطنة المدن تخلت عن رؤيتها المحافظة التي دفعتها لانتخاب أحزاب اليمين التقليدي في النصف الثاني من القرن العشرين وصارت تبحث عن أحزاب وبرامج وأصوات شعبوية.

يواجه اليمين واليسار تلك التحديات وتتشكل أحزاب سياسية بعيدا عن الوسط كاليمين الشعبوي واليسار الراديكالي وتنافس مجموعات جديدة على الوسط اليسار الشاب في الحزب الديمقراطي الأمريكي وكأحزاب الخضر في أوروبا بأفكارهم عن البيئة والمساواة الكاملة بين النساء والرجال، غير أن اتهام الأحزاب التقليدية بالعجز يتسم بعدم الدقة. قال، في الولايات المتحدة وألمانيا جاءت أفكار التحديث الكبرى خلال العقود الماضية من نخب الجمهوريين والديمقراطيين في الأولى ومن الاشتراكيين الديمقراطيين والمسيحيين الديمقراطيين في الثانية. فأقرت سياسات كالحد الأدنى للدخل وتغيير النظم الضريبية للحفاظ على دولة الرفاهة الاجتماعية والإبقاء على خدمات التعليم والرعاية الصحية المجانية (إدخالها على يد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما). قال، في المقابل لا تفعل الأحزاب الشعبوية والراديكالية سوى الترويج تارة لمقولات الكراهية والخوف وثانية لمقولات فتح الأبواب للمهاجرين واللاجئين دون قيود وثالثة لمقولات عن البيئة والمساواة بين النساء والرجال بينما تتجاهل الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء داخل المجتمعات الغربية. ثم ختم بقوله إن احتجاجات المواطنين في الشارع كما في الاحتجاجات الأمريكية دفاعا عن حقوق المواطنين السود وحقوق النساء أو رفضا للمهاجرين وكذلك احتجاجات الأوروبيين الاجتماعية حتما ستعيد الأحزاب التقليدية إلى دوائر الفاعلية السياسية وتدفعها إلى تبني النقد الصريح لما آل إليه حال الديمقراطيات والبحث في سبل استعادة عافيتها.

كاتب من مصر

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى