أبحاث

ما وراء «المشهد»: هل توجد حقاً «مساحات آمنة»؟/ محمد سامي الكيال

يثير تعبير «المساحات الآمنة» كثيراً من الجدل، والسخرية في بعض الأحيان. إذ يرى كثير من النقاد المحافظين أنه ليس من مهمات المؤسسات الثقافية والجامعات توفير «بيئة آمنة» بشكل اصطناعي، سيُصدم من تعوّد عليها لدى خروجه إلى «العالم الحقيقي» خاصة سوق العمل، بما فيه من تنافسية وعلاقات قوة. فيما يتحدث بعض النقّاد اليساريين عن مساهمة مثل تلك المساحات بتفكيك الحيز العام وخصخصته، ليصبح مقسّماً بشكل هوياتي مغلق، إضافة إلى آثارها المقلقة على حرية التعبير، وهو ما يتفق عليه نقّاد اليمين واليسار.

ورغم قوة هذه الانتقادات، إلا أنها لا تلتفت كثيراً إلى طبيعة «المساحات الآمنة» نفسها، في تسليم مبطّن بأنها قد تكون آمنة فعلاً للمجموعات المستفيدة منها، وكأنها محمية طبيعة، توفّر لكائناتها الحماية من ممارسات جائرة، مترسخة في المجتمع بشكل بنيوي، مثل العنصرية والتمييز الجندري والعنف ضد النساء. هذه الصورة تطرح سؤالاً مهما: تُقام المحميات الطبيعية عادة بقرار من سلطة ما، لا تكتفي بحفظ حياة وبيئة كائنات المحمية، بل تشرف كذلك على كثير من شؤونها الحيوية، وتخضعها لرقابة منظّمة. ما يجعل استمرار تلك الكائنات منوطاً بنجاح السياسات الحيوية والبيئية والتنظيمية للسلطة، أو بعبارة أخرى: الحياة نفسها في المحمية نتيجة تقاطع معقد لممارسات ليست «طبيعية» بقدر ما هي مصطنعة تقنياً وسياسياً. فما السلطة التي ستقيم مساحات آمنة لفئات «مهمشة» من المفترض أنها ضحية التمييز الهيكلي في السلطات القائمة نفسها؟

يصبح مفهوم المساحات الآمنة أكثر تعقيداً لدى امتزاجه بمفهوم آخر هو «المشهد» Scene، المقبل من عوالم الثقافات الفرعية الغربية، الذي كان يعبّر عن الإسهامات والاتجاهات المتعددة في شكل فني أو ثقافي ما، له هواته ومتابعوه. بات على «المشهد» اليوم أن يغدو مساحة آمنة، بعد أن تداخلت في تمويله جهات متعددة، حريصة، لأسبابها الخاصة، على إقامة «المساحات» حول العالم. ما يعني أن الابداع الثقافي، المغاير لما يعتبر تياراً سائداً، يجب أن يؤمّن لهواته شرطاً أكثر أمناً مما هو قائم في ثقافة مجتمع الأغلبية. الأمر الذي يدفع إلى طرح السؤال بصيغة أخرى: هل يُنتج المال «التقدمي» بالفعل مساحات بريئة من المشاكل، التي يعاني منها الناس في كل مكان؟ الفضائح الكثيرة، التي تأتي من أجواء «المساحات الآمنة» توضح أنها لا تختلف كثيراً عن عالم الأغلبية. ليس هذا هو المفاجئ، فقليلون من اقتنعوا فعلاً بـ«أمن» تلك المساحات، ربما كان الأجدى التركيز على الأسئلة المتعلقة بدوافع إنتاج «المحميات» والمقيمين فيها، فهي قد تقول الكثير عن نمط السلطة في عصرنا.

لا نهائية الفضائح

لا تبدو الفضائح أمراً عارضاً في «المساحات الآمنة» بل جانباً تأسيساً فيها، منذ أصبحت أحد المفردات الأساسية للشرط الثقافي المعاصر. قد يدلّ هذا على وعي عالٍ لدى المشاركين فيها، وعلى حضور آليات المحاسبة ضمنها بشكل فعّال، على خلاف غيرها من ميادين مجتمع الأغلبية، لكن تلك الفضائح لم تثبت فاعلية كبيرة في تحسين الشرط العام في «المساحات»: تنتشر فضيحة، بتفاصيل تبدو مروعة، ما يستدعي إدانة لبعض الشخصيات والمؤسسات، أو حتى إلغاءها تماماً؛ لتتبعها فضيحة، بتفاصيل مشابهة، مقبلة من «مساحة» أخرى. فيما يبدو أقرب لمشهد انتفاخ فقاعات متطايرة، ثم انفجارها، أكثر من إشارته لتقدم الوضع الاجتماعي والحقوقي في تلك الفقاعات، إذ لا معيار هنا سوى شجاعة ضحايا الانتهاكات، وقدرتهم على تقديم روايات متماسكة، واستعداد الدوائر القريبة منهم لتصديق شهاداتهم.

تؤدي إجراءات التشهير، ومن ثم الإلغاء وقطع التمويل، إلى نقل المال ومراكز النفوذ من مشهد إلى آخر: تنفجر الفقاعة، مطيحة بالقائمين عليها، ما يتيح الفرصة لآخرين بتقديم طلبات تمويل جديدة، تؤدي لانتفاخ فقاعات بأسماء وعناوين أخرى. وهو نمط خاص من إعادة توزيع الثروة والرأسمال الرمزي، ضمن قطاعات غير منتجة، تنال ريعاً عبر التفاني في إظهار الولاء لقيم معينة، وخدمتها.

قد يكون تجاور التمويل الجيد مع الصفة «غير الربحية» لمؤسسات المشاهد الثقافية المختلفة مفتاحاً لتفسير هذا: لا نتحدث هنا عن «عاملين» يطالبون بحقوقهم، بقدر «منتفعين» من حيز من الامتياز. وحق الانتفاع يحكمه نمط خاص من العلاقات، تتعلق بالأحقية المعنوية بالاستفادة من «المساحة» ولذلك فإن الفضيحة، بما يلازمها من ردود فعل أخلاقية، وتأكيد على الالتزام بقيم معينة، أسلوب أساسي في إثبات الأحقية. بهذا المعنى فقد لا تكون «المساحات الآمنة» أكثر من ميدان ضيق لصراع ضارٍ على الامتياز، في شرط أيديولوجي محدد. وهذا الصراع يفرز كل الهرميات المعهودة للقوة والسلطة، وبالتالي فمن المتوقع أن تعرف كل أشكال استغلال النفوذ؛ انتهاك الأفراد الأضعف؛ الإلغاء المعنوي والثقافي؛ واستغلال العمل، الذي لا قيمة له خارج حيز الامتياز في «المساحة». وعندما يدور صراع من هذا النوع في ميدان شديد الضيق فمن غير المفاجئ أن يكون شديد التوحش. قد تحمي «المساحات الآمنة» من بعض التعبيرات المثيرة للحساسيات، على الأقل في خطابها المعلن، لكنها، من جانب آخر، تجسيد شديد التكثيف للسلطة المعاصرة بكل مظالمها، إلا أن هذه السلطة ليست مجرد فعل قمعي مباشر، بل مؤسِّسة أيضاً لذاتيات الجلادين والضحايا.

تحت ضغط المساحة

قام الحيز العام الحديث أساساً على الاعتراف بتعددية الفاعلين الاجتماعيين، واختلاف مصالحهم ومواقعهم. واعتُبر مجالاً تواصلياً لتداول الأفكار والحجج والمرافعات، لتحقيق نوع من الإجماع العقلاني بين المختلفين، أو حتى لمحاولة فرض هيمنة طرف معين و«حسه السليم» على الآخرين. وحدها الأيديولوجيات الفاشية وشبه الفاشية من أنكر التعددية في الحيز العام، لحساب الحديث عن أمة أو جماعة عضوية موحّدة، لا اختلاف فيها.

تبدو المساحات الآمنة، رغم كل احتفائها بـ»التنوع» قائمة على أسس معاكسة للتي قام عليها الحيز العام، إذ تحاول إقامة مجال داخلي للتماثل بين أفرادها، وحمايتهم من «الخارج» بجدالاته ومداولاته، التي قد تسبب «الأذى»؛ وتعدديته المثيرة للقلق. في «المساحة» يوجد أشخاص متشابهون، بسبب ما يُفترض أنهم تعرضوا له من مظالم، وعالمهم ليس قائماً على اختلاف المواقع، بل هو موقع أحادي مغلق، لا مجال فيه لكثير من تداول الأفكار والحجج، لأن كل ما فيه مبني على «الحماية» ومفهوم الحماية تلازم عبر تاريخه بأنماط متنوعة من الاستغلال والعنف والهيمنة، فلطالما فرض الحُماة شروطهم وإتاواتهم على من طلبوا حمايتهم، أو أُجبروا على طلبها.

كما أن إنتاج المجال الداخلي للتماثل بين ذوات المساحات الآمنة، المُعرّفة سلبي بما تعرّضت له من أذى ومعاناة وتهميش، يفترض نمطاً صارماً من الرقابة، فكثير من التعبيرات ووجهات النظر قد يعكّر صفو النموذج الأحادي الهش للذات الطالبة للحماية.

هكذا يفرض الحُماة وصاية متعددة الأبعاد على محميّهم، بل يقومون أيضاً بتشكيل وعيهم لذاتهم، وإعادة تربيتهم، ضمن هرمية لا يمكن وصفها إلا بالأبوية، وهي مفارقة طريفة لدى الحديث عن «مساحات» يُعرّف كثير منها ذاته بمناهضة «النظام الأبوي».

إقطاعيات جديدة

ربما كانت مفردات ومصطلحات، مثل «امتياز» «حماية» «حق انتفاع» المستخدمة أعلاه، بمعناها الذي كان سائداً في النظام الإقطاعي في العصور الوسطى، هي الأنسب لوصف وتحليل «المساحات الآمنة» بوصفها أحد أهم ظواهر ما يسميه بعض الباحثين «الإقطاعية الجديدة في الرأسمالية المتأخرة».

لا تعتمد «الإقطاعية الجديدة» على النمو عبر التوظيف الواسع في القطاع الصناعي، بقدر اعتمادها على تحقيق الفوائض من خلال عمليات مركّبة، غير إنتاجية بالمعنى التقليدي، تقوم على استغلال حيز من الامتياز، مثل المضاربة والاحتكار والإقراض، وبيع البيانات وتسليع العواطف والرموز الثقافية. ويلعب الإكراه متعدد الأوجه، المتضمن في علاقات معقدة من الولاء والتبعية، دوراً أساسياً في استمرار هذا النظام، بما ينشئه من ذوات تابعة، معزولة، غارقة في الديون. ربما لن يكون في إمكان التابعين في هذه المنظومة أن يتكلموا فعلاً ضمن المساحات الآمنة، فهي قائمة على ترسيخ وضعهم الاجتماعي التابع، حتى لو منحتهم امتيازات مؤقتة. وستعرّضهم، إضافة لهذا، لمخاطر واعتداءات، لا تقلّ عما قد يواجهونه في مجتمع الأغلبية.

لا يعني هذا بالتأكيد إنكار أهمية المشاهد والمساحات الثقافية، التي تصف نفسها بـ«البديلة» فهي تقدّم، في كثير من الأحيان، منتجاً يساهم في توسيع الأفق الثقافي العام، وتدافع في أحيان أخرى عن قضايا محقة، تتعلق بالمساواة القانونية والاجتماعية. إلا أن نقد ادعاءاتها العامة، بمواجهة ما تسميه «المنظوّمة المولدة للعنصرية والتمييز والذكورية» قد يكون شديد الضرورة، لأنها في قلب «المنظومة» بنيوياً، وأحد أهم منتجاتها. وعدم إدراك هذا، من قبل أفراد متمولين من أكثر مؤسسات «المنظومة» وضوحاً ورسوخاً، يبدو أشبه بمثال مبالغ به عن «الوعي الزائف».

كاتب سوري

القدس العربي

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button