هل التمييز الإيجابي إيجابي؟/ فيلومينا أسد
ترجمة: رحاب منى شاكر
ندوة حول التعليم وسوق العمل بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس منظمة تُعنى بشؤون شباب الأقليات الإثنية. كنا جالسين حول منضدة طويلة، فوق منصة تطلّ على جمهور يتجاوز الخمسمئة شخص. على يساري جلس رجل يمثّل قطاع الشركات، وكان قد أخذ دوره في الرد على الفرضية التي تتناول أسباب البطالة بين الأقليات الإثنية. لاقت كلمته القصيرة تقبلاً مبدئياً من الحضور، حيث أكدّ على أهمية التعليم والمثابرة من أجل الحصول على مكانة في سوق العمل. «أصحاب الأعمال يفضّلون تشغيل أبناء الأقليات المتدربين، ولكن أين نجدهم؟»، هكذا أنهى كلامه منتصراً. فجاءه الجواب الحاد من موظفة النقابات الجالسة على الطرف الآخر: «هذا يعني أنك لست مطلعاً على الإحصاءات التي تبيّن أن أكثر من نصف أصحاب الأعمال يفضّلون المتدربين، على شرط أن يكونوا هولنديين “بيض”. ومن الواضح أيضاً أنك لا تعرف شيئاً عن السوريناميين غير القادرين على إيجاد فرصة عمل. لا تضحكني رجاءً! كل هذه الكلمات المنمقة، ولكن عندما يحين الوقت يفشل أصحاب الأعمال في استقطاب الحد الأدنى من النساء وأبناء الأقليات». فيترجم رئيس الجلسة كلامها: «أنتِ مع التمييز الإيجابي إذن؟». فتجيبه: «بالتأكيد، موقف النقابة واضح جداً في هذا الخصوص». وهنا يتمتم ممثّل الشركات كلمات غير مفهومة وهو يهز رأسه نافياً.
يبدو أن لعبة الصدّ والرد التي لا أحبها قد بدأت. وسوف يزداد الاستقطاب شيئاً فشيئاً، ولن يبقى مجال لتوضيح المواقف أو الرجوع عنها. تجنّب فقدان ماء الوجه أهم من مشكلة البطالة التي نبحث عن حلٍ لها. يتمادى أحد الطرفين بالتمسك برأيه، بينما يواصل الآخر بالدفاع عن الرأي المعاكس. ومن يحصل على دعمِ طرفٍ ثالث يربح الجولة. «ولكن سيدة أسد – وهنا يتحوّل الانتباه إليّ – هل أنتِ مع التمييز الإيجابي أم ضده؟»، يسألني رئيس الجلسة. أقول: «ممم، من ناحية..»، ولكنه يقاطعني: «لا، ليس من ناحية ومن ناحية أخرى». فنعود إلى ما يحصل عادة أثناء النقاش حول التمييز الإيجابي، حيث لا توجد سوى مواقف مع أو ضد. لا مجال للتفكر، ولا «نعم، إذا..» أو «لا، شريطة..». ذلك أن تحليل التمييز الإيجابي ليس من أهداف الندوة. السؤال الذي سوف أطرحه هنا هو: هل التمييز الإيجابي إيجابي؟
موضوع التمييز الإيجابي مثير للجدل والحساسية، وثمة كثير من سوء الفهم حوله. وفي فترة من الفترات أصبح طرح موضوع التمييز الإيجابي موضة. لذلك لم أرغب بالتطرق إليه علناً، كي لا يتم تحوير كلامي أو استغلاله في النقاشات الرائجة. حيث أثبتت ردود الأفعال أن كثيرين يترجمون نقدي للعنصرية أوتوماتيكياً كمرافعة عن التمييز الإيجابي. ولكني لم أكن يوماً مؤيدة عمياء لما يسمى بالمعاملة التفضيلية، حتى أني استصعب تحديد موقفي العام من ذلك الموضوع الشائك. حين نقول إننا نؤيد التمييز الإيجابي، فنحن نعترف بمشكلة العنصرية البنيوية حيال النساء والأقليات الإثنية في سوق العمل. ذلك أن التمييز الإيجابي يهدف إلى إعادة التوازن المفقود جراء العنصرية. إلى هذا الحد كل شيء ممتاز. ولكن ما الذي يضمن أن العنصرية يُمكن محاربتها من خلال التمييز الإيجابي؟ ما يغضبني هو ذلك الغرور الذي يرافق التمييز الإيجابي عند الباب الأمامي، بينما تستمر عمليات التمييز السلبي في الحديقة الخلفية. ما عدا الأحكام المسبقة الموجودة حول أن النساء وأبناء الأقليات الإثنية أقلّ مهارة، فقد صار لدينا نسخة متأقلمة مع التمييز الإيجابي وهدفها تغطية الأحكام القديمة بلبوس جديد. يقولون عندئذ: «لا شك أن الشخص الذي تمّ تمييزه إيجابياً لا يملك المهارات الكافية».
نتائج التمييز الإيجابي ليست إيجابية بالضرورة. ولكن إذا اتخذنا موقفاً ضده، فسوف نعود إلى نقطة البداية، وندخل معسكر الذين يعتبرون الكلام عن العنصرية هراءً، أي هؤلاء الذين يتساءلون بسذاجة: «ولكن ألا نختار دائماً “أفضل” المرشّحين؟ أم أنكم تريدوننا أن نمارس العنصرية على أبناء البلد الأصليين؟». يمكننا تفنيد هذه الحجة عبر نفي أن تكون خيارات المرشّح الأنسب موضوعية دائماً. لو صحّ أن الشركات والمؤسسات تختار دائماً أفضل المرشّحين، لكان أداؤها أفضل بكثير. ولكن الأبحاث أثبتت أن التفضيل يتوجه غالباً إلى الذَكر ذي الأصول الهولندية، حتى ولو كانت ثمة نساء أو مرشّحين من أصول سورينامية أو تركية ممن يملكون أوراق أفضل. لا بل إنه لا يتم اصطفاء الأفضل من بين الرجال البيض، لأنه لا يوجد شيء اسمه اختيار موضوعي.
يمكننا سوق حجج كثيرة لصالح التمييز الإيجابي أو ضدّه، كما لو أننا نلعب كرة الطاولة. ولكني لا أحب المناظرات البينغ-بونغية، لأنها تحبسنا في الربح والخسارة، وتعمينا عن الإمكانيات خارج نطاق الطاولة. أتمنى أن أستعرض في هذا الفصل طريقاً آخر. لذلك سوف أشير إلى بعض الظواهر الجانبية التي لمستها في سياسات التفضيل، لأعيد مسألة التمييز الإيجابي إلى حجمها الطبيعي. إنه أداة، وليس هدفاً بحد ذاته. والأسئلة التي سوف أطرحها هي: ضمن أي رؤية مجتمعية يأتي التمييز الإيجابي؟ ما هو تشخيص المشكلة الذي يقدم التمييز الإيجابي كحلّ؟ هل التشخيص صحيح؟ أليست الظواهر الجانبية السلبية التي تتسبب بها سياسة التفضيل من صلب التمييز الإيجابي؟
للتمييز الإيجابي آثار مختلفة على النساء الهولنديات وأولئك المنتميات إلى خلفيات إثنية مختلفة. المجموعة الأولى تعاني من إقصاء على أساس الجنس، والمجموعة الثانية تعاني من إقصاء مزدوج على أساس الجنس والخلفية الإثنية. لن أتعمّق بالاختلافات هنا، لأنه توجد تقاطعات كافية، وخاصة بخصوص فرضيات التمييز الإيجابي التي تنطبق على المجموعتين.
مجتمع يعامل الأكثرية كمشكلة
لعل لدينا أنماط لسياسات التفضيل بعدد المؤسسات التي تقول إنها تتبع تلك السياسات. في معظم الحالات، تقع تلك المؤسسات بالخطأ بمجرد اعتقادها أن التمييز الإيجابي يشكّل حلاً لما يسمى الجماعات الإشكالية في سوق العمل. وقد رأيتُ مؤخراً السلسلة مذكورة بأكملها: النساء والجماعات الإثنية والمعاقون والمثليون والعجائز. تمعّنتُ جيداً في تلك السلسلة، وفكرتُ: ما المكتوب فعلاً؟ أن النساء يمثلنَ مشكلة؟ حسناً، هذا يعني أن ما تبقى من المجتمع لا يعتبر إشكالياً: الرجال. ولكن يبدو أن الأقليات الإثنية تشكل مشكلة أيضاً، فيتبقى لدينا من بين الرجال فقط أولئك (البيض) ذوي الأصول الهولندية. هل يمثّل المعاقون مشكلة كذلك؟ هذا يعني أن من بين الرجال ذوي الأصول الهولندية لا يتبقى لدينا سوى أولئك غير المعاقين. ولكن ألا ينتمي المثليون وكبار السن إلى جماعتين إشكاليتين أيضاً؟ فيتبقى لدينا إذن فقط الرجال ذوي الأصول الهولندية، الذين ليس لديهم إعاقة، وليسوا مثليين أو حتى كبار السن.
أي مجتمع هذا الذي يمثّل الجميع فيه مشكلة، ما عدا مجموعة تعتبر عددياً أقلية: الرجال، الشباب، الغيريون، وذوي الأصول الهولندية أو البيض. لا أريد الإدعاء بأن وضع كل إنسان أبيض أفضل من البقية، وأنه لا يوجد نساء أو سود ناجحين. ولكن يظهر أن سوق العمل مؤسسٌ بطريقة تميّز الأبيض (غرب-أوروبي) والغيري والشاب وغير المعاق أوتوماتيكياً، بحيث تصبح البقية، أي الأكثرية العظمى، مجموعة إشكالية أوتوماتيكياً.
إن سياسات التفضيل خدّاعة، لأنها توحي أنه لم يكن هناك أي تفضيل قط، ولكن فجأة صارت الناس تفضّل النساء والسود والمهاجرين. قلما طُرِح الموضوع بهذا الشكل، ولكن هل يمكن أن يستلم الرجال البيض كثيراً من الشركات كل هذه المدة، لو لم يكن ثمة تفضيل تقليدي للأشخاص بتلك المواصفات؟ وطبعاً هذا الوضع سوف يعيد إنتاج نفسه، ولن يشكّ أحد سريعاً بأن الرجال هم أفضل العمال والمدراء على حد سواء.
أسطورة المعايير الموضوعية
أعربت عدة منظمات عن تطبيقها لسياسات تفضيل النساء والأقليات الإثنية. وثمة ثلاثة أشكال للتنفيذ. يعتمد الشكل الأضعف على تفضيل أعضاء الأقليات في حال التساوي بالكفاءات، وسوف أتطرق إلى استحالة «التساوي بالكفاءات» بعد قليل. أما الشكل الثاني، فيعتمد تفضيل أبناء الأقليات إن تحققت الكفاءة الكافية. والشكل الأكثر جذرية، والأقل تطبيقاً حتى الآن، هو منح الأولوية لممثلي الأقليات بغض النظر عن الكفاءات.
أول مشكلة تظهر لدى الإعلان عن الوظائف الشاغرة. غالباً ما يُعلن عن تفضيل امرأة في حالة الكفاءة الكافية، أو مرشح من الأقليات الإثنية في حالة الكفاءة المتساوية. أتساءل من أي منطلق سوف تقدم النساء ذوات الأصول السورينامية أو التركية أو المغربية على الوظيفة؟ فالشركة ستفضل رجلاً إن أرادت شخصاً من أصول أجنبية، وتختار امرأة هولندية إن كان تفضيلها هو النساء. بمعنى آخر: فكرة التفضيل تبدأ بالتفسّخ في جولة التوظيف الأولى.
وتكمن المشكلة الثانية في الإيحاء بأن ثمة شيئاً اسمه التساوي بالكفاءات. إذ غالباً ما تكون الشروط المعيارية الاجتماعية كالدافعية والموثوقية والمرونة والقدرة على التكيف غير قابلة للقياس موضوعياً، مع أنها تلعب دوراً أكبر في تنقّل الموظفين من البيانات الصلبة كالشهادات. وكما نرى في أغلب الأحيان، تصبح حتى الشهادات ذاتية حين يكون المطلوب هو «مستوى تفكير أكاديمي» عوضاً عن حمَلة الشهادات الجامعية. وقتئذ لا يمكننا الكلام سوى عن مرشّحين بصفات وكفاءات تكون أقل أو أكثر جذباً لصاحب العمل.
والمشكلة الثالثة تخصّ مبدأ استهداف الأقليات. فتفكير التمييز الإيجابي ينطلق من أن أعضاء الأقليات متأخرين مقارنة مع الرجال الهولنديين، ولذلك لديهم مشكلة. وعبر سياسات التفضيل تحاول الحكومة أن تحضّ شركات العمل على استجذاب عمّال من الجماعات المستهدفة. فيصبح شعارها: «كيف يتمّ استجذابهم والحفاظ عليهم؟». وهنا ينتقل الانتباه من عنصرية أصحاب العمل إلى أعضاء الأقليات نفسها، فيروّج أنهم لا يريدون أو غير قادرين. هم ليس لديهم مشكلة فقط، بل يشكلون كذلك مشكلة للآخرين الذين يعتقدون أنهم مضطرّون فعل كل شيء من أجل استجذابهم. لذلك ليس مستغرباً أن يستقوي بعض أصحاب العمل بالأحكام المسبقة القائلة إن توظيف النساء وأعضاء الأقليات مجلَبة للمشاكل. وبرأيهم: من يجلب المشاكل إلى شركته، سوف يقع بالمشاكل لا محالة.
وتتناول النقطة الأخيرة سؤالاً أعمق: كيف نعرّف النوعية؟ ففي حال حصرنا تعريفنا للنوعية بما يقدمه الرجال (ذوي الأصول الهولندية) فقط، فإني أرى ذلك التعريف محدوداً من حيث المبدأ. لأنه لا يمكننا أن نتحدث عندئذ عن سعي للوصول إلى النوعية المثلى. ذلك أن البدهية التي تنطلق من أسبقية الرجال الغربيين، سوف تميّز المرشّحين الذين تنطبق عليهم تلك الصورة. إن لم نناقش تلك المعايير أولاً، فالاحتمال الأكبر أن ما تسمى بسياسات التفضيل سوف تفضي إلى حالة من غضّ البصر عن عدد من الموظفين «الشاذين» (أي: غير المناسبين، وهذا لأن المعيار هو استيفاء الشروط التقليدية). لذلك لا بأس من اشتراط أن يكون للمدير تجربة في رعاية الأطفال الصغار وكبار السن، ذلك أن هكذا تجربة سوف تضيف بعداً جديداً إلى الحسّ بالمسؤولية الذي نتوقعه من المدير. ومن ناحيتي أنصح بشدة بإضافة شرط معرفة وتجربة التفكير من خلال أطر ثقافية مختلفة. أعتقد أن ثمة كثيراً من الأمور الإبداعية المفيدة التي يمكن أن يتعلمها المدراء، ولكننا للأسف لم نصل إلى تلك المرحلة بعد.
لا تمنع سياسات التفضيل أصحاب العمل عن وزن مهارات النساء وأعضاء الأقليات الإثنية مقابل أطر ثابتة: الصورة النمطية عن الرجل الأبيض والتنميطات الإثنية والجنسية المتاحة. بمعنى آخر: المرأة أو المرشّح التركي لا ينافسان مع أفراد معينين، بل ينبغي أن يثبتا نفسيهما أمام الصورة السلبية السائدة حول جماعتهما. إذ سرعان ما تُتهم النساء الواثقات بأنهن غير أنثويات وعدوانيات، وفي الوقت نفسه لن تعتبر العاجزات عن الحلّ والربط مناسبات للعمل الإداري! وحين تقدم امرأة تركية أو مغربية على عمل، سوف يتم التفكير بخطر «التخلّف اللغوي» أو بأن «أزواجهنّ لا يسمحون لهنّ بالعمل». بمجرد تقديم أشخاص لا ينتمون إلى سكان البلد الأصليين على عمل، سوف تتم الإشارة إلى مخاطر «ألّا يكونوا قادرين على التأقلم» أو أنه «ينبغي التعامل معهم بطريقة مختلفة جداً». وسوف ينطلق جرس الإنذار حالما يُطرح سؤال حول ملاءمة الموظف الجديد لأجواء العمل: «أليس تعيين امرأة تركية ضمن فريق من الهولنديين عبارة عن مجلَبة للمشاكل؟».
أكرر: النقاشات حول سياسات التفضيل تحجب عن الرؤية أنه ثمة سياسات للتفضيل سلفاً، أي لتفضيل الرجال من سكان البلد الأصليين. أُنظروا إلى الأمثلة التالية:
1-يتم الإعلان عالمياً عن شاغر علمي في أحد المجالات غير المحددة. فيرفع عدد كبير من الرجال والنساء المنتمين إلى البيئة الوطنية والعالمية طلب التوظيف. الشخص الذي يلفت الانتباه أكثر من الجميع هو امرأة من أصل هولندي. هذه المرأة كتبت عدداً من الكتب المهمة ومن ناحية الشهرة العالمية بإمكانها وضع المنافسين الآخرين في جيبها الصغير. ولكن حالما يدرك أصحاب العمل أنه لا يمكن الالتفاف حولها، سوف تظهر الشائعات: «امرأة صعبة» و«إذا استلمت هذه المرأة المنصبَ، سوف نشتاق إلى راحة البال». ومع الوقت يزداد الأمر سوءاً: «هي تنام مع الجميع!». ولكن ما علاقة حياتها الجنسية المحتملة بخبرتها ومهاراتها كعالِمة؟ ومنذ متى تُقاس خبرة الرجال المهنية بحياتهم الجنسية؟ وفي النهاية تنجح المرشّحة بعد إصابتها بقدر من الأذى، ذلك أن الشائعات كانت قد وصلت إلى درجة تخمين مع من مارست الجنس. يتم تعيينها، فتتكشّف كربح ديناميكي للمؤسسة.
2-يتم الإعلان عالمياً عن شاغر وظيفة علمية في أحد المجالات. ومن الطبيعي أن يكون هناك أناس ينتمون إلى النخبة الخبيرة في ذلك المجال. ولحسن الحظ يأتي طلب لسدّ الشاغر من أحد المحسوبين على تلك النخبة، ولحسن الحظ كذلك أنها امرأة وتنتمي إلى العالم الثالث. وما عدا أن لديها عدداً مهولاً من الكتب باسمها، فقد نالت أثناء مشوارها المهني عدة جوائز وشهادات دكتوراه فخرية. ولكن قبل أن تبدأ إجراءات ملء الشاغر، تنتشر الإشاعات بأنها «شخص عدواني». وهكذا تتحول مقابلتها مع لجنة من الرجال إلى عرض مخزي. يسألها أحدهم ما إذا كان لديها خبرة بإلقاء المحاضرات، حيث يجدر ألا تنسى أن ذلك من الأمور الجدية في هولندا. ويحاول آخر أن يفحص ما إذا كانت ملمّة بأهم النظريات في ذلك المجال. فتنسحب المرشحة بعد وقت قصير من إجراء المقابلة، لأنه لم يسبق لها أن أهينت بهذه الطريقة، لا سيما أن أحد أعضاء اللجنة كان سيصبح أحد زملائها. لن تسمح أبداً أن يُفرض عليها العمل مع هكذا شخص. وفي آخر المطاف، يقع الخيار على رجل أوروبي من ذوي الوزن الخفيف.
3-لا يتم الإعلان عن وجود شاغر علمي في أحد المجالات، بل يتم تعيين رجل هولندي الأصل. لن تنطلق الإشاعات، لا عن حياته الجنسية، ولا عن طبعه الشخصي، ولا عن إمكانياته مقارنة بالمرشّحين الآخرين الذين لم يتمكنوا أساساً من التقديم على الوظيفة.
في جميع الحالات المذكورة كانت سياسة تفضيل النساء متّبعة. ولكن، إذا دققنا فيها، سنجد أن جميعها انتهت لصالح الرجال. من المحتمل أن تواجه المرأة البارزة في المثال الأول حملات التشهير دون اتباع سياسة التفضيل، ولكن في حالة اتباع هكذا سياسات، فسوف تزيد الطينة بلة. فضلاً عن أنها ستُحكم طيلة فترة عملها بوزن قدراتها، عند الضرورة، مقابل وصمة اختيارها لكونها امرأة.
أما الرجل خفيف الوزن الذي حصل في المثال الثاني على الوظيفة، لأن المرأة «انسحبت»، فإنه يحصل على تقدير أكبر مما يستحق. وبما أن لا شيء يبقى سراً في بلدنا الصغير، فالجميع يعلم أنه كان هناك مرشح «من الوزن الثقيل» للوظيفة نفسها. ومع ذلك حصل هو على الوظيفة، أليس هذا دليل على أنه جيد جداً..؟
أما في المثال الثالث، فالرجل هو الوحيد الذي حصل على فرصة. لن يحتاج إلى التنافس مع آخرين، فضلاً عن أنه سوف يتلقى تقديراً جماً. وسوف يبتهج أنه كان مناسباً إلى درجة وقع الخيار عليه دون الحاجة إلى تبديد المال والطاقة في إجراءات ملء الشاغر.
هذه الأمثلة ليست عرضية. ومع ذلك يحصل أحياناً أن تعيّن امرأة دونما مشاكل في مناصب جذابة وفقاً لسياسة التفضيل. ولكن كيف لنا أن نعرف أنه لم يتم تعيينها إلا جراء تلك السياسة؟ وكيف نتأكد أنه لن يتم تعيينها في حال قدّمت على الوظيفة دون أن تكون هناك سياسة تفضيل؟
آليات الإقصاء
كنت قد افترضتُ أن التمييز الإيجابي يتلاءم مع التفكير بأن ثمة جماعات متأخرة مقارنة مع غيرها. وهكذا لا تتم مساءلة المنظمة، وإنما الجماعة نفسها، لأنها غير قادرة أن تدخل سوق العمل بقدراتها الخاصة. يدور التمييز الإيجابي عادة حول قضايا كميّة، أي حول الإجراءات التي سوف ترفع عدد النساء وممثلي الأقليات الإثنية في شتى الوظائف المعروضة في سوق العمل. ولكننا قلما سمعنا شيئاً حول القضايا النوعية، والتي تتطرق إلى علاقات العمل وفرص تطور الموظفين. ذلك أن الشرط لتحقيق ذلك هو أن تكون أجواء العمل خالية من العنصرية. تطوير قدرات الموظفين يعني أن نعترف بها وندعمها، كي تستفيد المنظمة منها قدر الإمكان. وسوف نحتاج وقتئذ إلى أكثر من دورات تدريبية بين الحين والآخر، بل إلى انقلاب ثقافي. سوف أعود إلى هذه النقطة لاحقاً.
عملياً لا يذهب التمييز الإيجابي أبعد من مواربة الباب المسدود أمام النساء وأبناء الأقليات. ولكن من يتمكن الدخول منهم، سوف يجد نفسه في ثقافة منظماتية متجانسة نسبياً: المعيار هولندي، وليس ثمة مجال (كاف) للتعدد الثقافي. إن نقص الاهتمام بنوعية الثقافة المنظماتية والعلاقات بين الموظفين المنتمين لخلفيات مختلفة يشكل أحد أهم نقط ضعف التفكير التمييزي إيجابياً. ولا عجب في ذلك، لأن الهدف هو الالتحاق بالمعيار الذكوري (وغير الأجنبي) الذي لا خلاف عليه. هذه المشكلة موجودة أساساً أثناء عملية فرز الموظفين، وها هي مستمرة في مكان العمل. وسوف أتطرق فيما يلي إلى عدة آليات قد تحدث في هذا الخصوص:
أ. أثننة العمل:
أقصد بأثننة العملِ نشوءَ تكتلات وأبعاد إثنية في سوق العمل. حيث تتشكل مصالح الجماعات وأعمالها وفق الحدود الإثنية، فيحتل أبناء الأقليات الهامشَ، ويبقى أبناء البلد الأصليون في مركز المصالح السياسية والاقتصادية. كما تظهر الأثننة في اللغة، فيقال إن ثمة عملاً إثنياً، وزبائن إثنيين، ودراسات إثنيًة، ومساراً تعليمياً إثنياً، وأقساماً إثنية. وكذلك يتمركز عمل الجماعات المختلفة في دوائر منفصلة، فيستوجب أن يعمل الأتراك للأتراك، والسوريناميون للسوريناميين. ويحتفظ الهولنديون الأصليون بدور المشرفين «الموضوعيين» ومهمة اتخاذ القرارات، حيث يُفترض أن هؤلاء هم الوحيدون الذين يملكون العقلية المناسبة للعمل مع الجميع، سواء مع جماعتهم الخاصة أو أي جماعة إثنية أخرى. وتجدد عملية التخصص والفرز نفسها بنفسها، فلا تجد النساء السوداوات والمهاجرات – حتى الكوادر منهن – عملاً إلا في الحلقات الإثنية الموجّهة إلى جماعاتهنّ الخاصة. وينسحب ذلك على القطاعات الاجتماعية بشكل خاص.
ويعرض المثال التالي كيف تتم أثننة العمل على أرض الواقع. لدينا امرأة ذات أصول سورينامية، وتعمل كمستشارة صحية في مؤسسة لا يعمل فيها سوى زملاء من أصول هولندية. دعونا نسميها السيدة خودا. مع الوقت تلاحظ خودا أن الزبائن السود يتم تحويلهم إليها، بينما يُحوَّل الزبائن البيض إلى زملائها البيض. هي تشعر بواجب أخلاقي أن عليها مساعدة الزبائن السود قدر الإمكان، لأنها تلاحظ أنها قادرة على ذلك أفضل من زملائها ذوي الأصول الهولندية.
كزملائها (البيض) حصلت خودا على شهادتها في هولندا. هذا يعني أن لديها المعرفة الكافية بكيفية التعامل مع الزبائن ذوي الأصول الهولندية، بالإضافة إلى تمرسّها بالتعامل مع أبناء الثقافات المختلفة بفضل جذورها السورينامية. كما أنها تتميز بالتعامل الفعّال مع المشاكل النفسية (والنفس-جسدية) التي يعاني منها الزبائن السود جراء عدوانية وعنصرية المجتمع. وبسبب هذه المهارات الإضافية، تصبح خودا مع الوقت «خبيرة الأجانب» فقط.
فيلومينا أسد
في البداية كانت تستلم الزبائن السوريناميين والقادمين من جزر الأنتيل، ولكن في الآونة الأخيرة صار يأتيها مغاربة وأتراك. اعتبرت هذا تطوراً إيجابياً، وطلبت دورات إضافية كي تتمكن من تلبية احتياجات هذه الجماعات بشكل أفضل. بيد أن رئيس عملها رفض طلبها، لأنه رأى أن امرأة سورينامية غير قادرة على أن تعمل مع المغاربة والأتراك. وبعد فترة قصيرة يتم استجلاب امرأة هولندية من خارج المؤسسة كي تستلم الزبائن المغاربة والأتراك. وطبعاً لم يحدث هذا إلا بعد حصولها على جميع الدورات اللازمة التي طلبتها المرأة السورينامية كي تطور عملها مع الزبائن المغاربة والأتراك. مع العلم أن مصاريف الدورات أتت من الميزانية التي خصصتها المؤسسة لـ«الأجانب».
ب. توقعات مبالغ بها:
لدى المؤسسات توقعات عالية بخصوص النساء المنتميات للجماعات الإثنية، وبخاصة حين يترافق تعيينهنّ مع قرع طبول التمييز الإيجابي. ويحصل هذا أيضاً مع النساء الهولنديات الأصل والرجال المنتمين للأقليات الإثنية. إما أن تكون رائعاً، أو بلا فائدة. هذا هو المعيار الذي سوف يتم قياسك به، وسرعان ما ستكتشف أنك سفير(ة) عن جميع الأقليات الإثنية الأخرى والنساء.
ونظراً للعلاقات غير المتساوية والأحكام المسبقة، سوف تعاني المرأة من ضغوطات جبارة كيلا تخطئ. ذلك أن أي خطأ سوف يؤكد على تنميط أنها غير صالحة: ألم نقل لكم ذلك؟ وقد يتحول الأمر إلى عملية توكيد ذاتية: التنبه المستمر مرهق للغاية، مما يسبب القيام بالأخطاء تلقائياً. وغالباً ما تستدمج المرأة التوقعات العالية مع الخوف من الأخطاء، وهذا يصعّب كسر آلية التوقعات المبالغ بها.
ج. خطأ كبير في التقييم:
تتعلق هذه الآلية بما سبق، وتنطوي على عدم مقدرة معظم الزملاء البيض على تقييم أداء النساء السوداوات دون الوقوع في فخ الحكم على الأتراك أو المغاربة أو السوريناميين كمجموعة. وهنا أيضاً ثمة شبه مع الطريقة التي يتم التعامل بها مع النساء الهولنديات والرجال المنتمين للأقليات الإثنية. الإنجازات الجيدة التي تحققها النساء التركيات أو السوريناميات في مكان العمل لا تؤثر على الحكم العام على المجموعة، ويبقى الحكم المسبق بأن السود أقل صلاحية من غيرهم. ذلك أن نجاح الزميلة ذات الأصول الأجنبية يعود إلى كونها استثناءً ضمن المجموعة، أما فشلها فسوف يُنسب إلى خلفيتها الإثنية أو كونها امرأة. وهكذا تكون قد قدّمت الدليل على أن الموظفين السود والمهاجرين أقل كفاءة. لذلك يكون الزملاء السوريناميون أو الأتراك أو المغاربة غير قادرين على الاعتماد على موثوقية الملاحظات حول أدائهم. هل يستخفون بالإطراء على عملهم لأنهم يُقارَنون بالتوقعات المنخفضة حيال المجموعة؟ أم يستخفون، بالعكس، بالنقد اللاذع النابع (جزئياً) عن أحكام مسبقة؟
د. لا مناصب عالية:
ما عدا أن تقييم عمل الزملاء ذوي الأصول الأجنبية قد يتأثر بالحكم المسبق على المجموعة، فإن ثمة إقصاءً حقيقياً لهم. وسوف أورد قصة امرأة من جزر الملوك كمثال على ذلك. دعونا نسميها سيدة سين. هي تعمل في مكتبة لها عدة فروع، ولطالما حلمت أن تترفّع إلى قسم التنسيق، لأن المكتبة ليس لديها أفق وظيفي آخر. في البداية كان يُقال أن تعليمها لا يؤهلها لذلك، فقررت أن تتبع دورات مسائية لتصل إلى المستوى المطلوب. وبعد أربع سنوات أصبحت الوظيفة شاغرة، فتواصل معها المدير (رجل) ليقول إنها الوحيدة التي تملك الشهادة المطلوبة، وليس أمامه «إلا أن يقبل بتعيينها». ولكن هلا انتظرت قليلاً حتى يرى إذا كان ممكناً أن يجد شخصاً من خارج المؤسسة؟ وللأسف تسمح السيدة سين بتخويفها، لأن عدم ثقة المدير الواضحة بكفاءتها جعلتها تتوقع مشاكل كبيرة إن لم ترضخ لرغبته. لم يعد مديرها موجوداً حالياً، وصارت المؤسسة تتبع سياسة تفضيل النساء وأبناء الأقليات الإثنية.
وحالما أصبحت الوظيفة شاغرة مجدداً، تمكنّت السيدة سين من الحصول عليها. ولكن سرعان ما انتشرت الإشاعات أنها لم تتوظّف إلا لكونها من أصول أجنبية وبسبب التمييز الإيجابي، أي ليس لجدارتها. الفرق هو أنه تمّ تجاوزها في الماضي لافتراض أن امرأة سوداء لن تنفع في هذا المنصب، أما الآن فقد تمّ تعيينها، ولكنهم ما زالوا يعتقدون أن امرأة سوداء غير مناسبة. أي أن شيئاً لم يتغير في الأحكام المسبقة. ها هي قد تعيّنت أخيراً، ولكنها مضطرة الآن أن تتعود على مقاومة مرؤوسيها الذين يشككون بسلطتها حتى قبل تعيينها. هذا يعني أن المنصب سوف يتطلب منها طاقة كبرى، كي لا تسمح لأحد بمضايقتها. وفي حال لم يتدخل أحد، فسوف تسير الأمور كالمعتاد، أي أن مرؤوسيها سوف يقوّضون أوامرها، وينتقدونها، ويشتكون عليها عند أقل هفوة.
آليات التضمين
وصمة تعيينك لأنكِ امرأة أو سوداء، وليس لكفاءتكِ، لن تجعل الأمور أسهل – فهي تتلاءم مع الأحكام المسبقة الموجودة سلفاً بخصوص الجنس والإثنية. لا يكمن الحل في مزيد من الإقصاء (تجنب تعيين أي امرأة أو شخص أسود)، بل في تطوير آليات تضمين تُبطل اقتران النساء وذوي الانتماءات الثقافية المختلفة بالمشاكل.
فمن الممكن أن تسير الأمور بشكل مختلف. كم سيكون الحال أفضل لو أن مدير السيدة سين لم يتردد بالتأكيد على أنها حصلت على الوظيفة جراء خبرتها ومدة خدمتها الطويلة. بمقدوره أن يُخبر مرؤوسيها عن تدريبها لعدد من الموظفين الصغار، وأنه حان الوقت أن تُكافأ بهذه الترقية. في حال تمّ تقديمها لفريق العمل بهذه الطريقة، سيكون واضحاً من أول لحظة أن المؤسسة والإدارة تساندان تعيينها. وإن لم تكن ثمة مراسم تعريف في المؤسسة (وهذا نقصٌ في ثقافتها)، فربما توجد سبل أخرى لإبداء الموقف الإيجابي من السيدة سين.
ولدينا مثال آخر. في أحد السوبرماركتات لا يطبّقون سياسة التفضيل، لأن لديهم نقص كبير في القوى العاملة. وحين نسأل المدير مَن الذي يفضله من بين الموظفين «المتساوين»، شاباً أبيض أم امرأة ذات أصول أجنبية، فسوف يهتف: «كيف أختار؟ ولماذا لا أقبل موظفاً مناسباً؟ في زمن نقص الأيادي العاملة سوف أوظّف الإثنين معاً». وفعلاً يباشر الإثنان عملهما.
الموظفة التركية الجديدة لطيفة جداً ولبِقة وتهتم بالزبائن، كما أن أسلوبها على صندوق المحاسبة مثال يحتذى به. ولكن بما أنها محجبة، فقد كانت الصور النمطية تنسحب عليها أكثر من غيرها. بعض الزبائن يتجنبونها، وبعضهم يتعامل معها بعدائية. كان بإمكان المدير أن يقول: «لن أمدد الفترة التجريبية، فهي لا تناسب ثقافة الشركة»، وبهذه الطريقة يكون قد حوّل الموظفة إلى مشكلة بحد ذاتها – لأنها محجبة. ولكنه عوضاً عن ذلك نراه يتوجه إلى الزبائن العدائيين الذين يتفوهون بملاحظات مهينة حيال الإسلام. أحدهم رمى النقود على الأرض بدل أن يُسلّمها إياها. موقف المدير واضح: من لا يتعامل مع محاسِبتنا بلباقة، فليتبضع في مكان آخر. وبطريقة غير مباشرة يُخبرها: نحن سعداء بوجودكِ، وإن لم يكن زبائننا سعداء بكِ، فلن نكون سعداء بهم. وفوق ذلك يتخذ المدير خطوة إضافية، لأنه لاحظ أثناء لقاء التعرف على المرشحين أن هذه الفتاة لديها إمكانيات أكبر من أن تعمل على صندوق المحاسبة فقط. فيقرر أن يعرض عليها تدريبات إضافية قبل الفترة المحددة لذلك، كي تتمكن من الترقي إلى وظيفة أعلى. المدير يستبق الأمور: حين نعيّن هذه الفتاة التركية في منصب أعلى، قد نجتذب زبائن أتراك أو من أصول أجنبية أخرى. وقتئذ سوف يتعود زبائننا من تلقاء أنفسهم.
هذا هو التعامل المبدع مع الحالة. لا يؤشكل المديرُ الموظفةَ، لأنه قادر على أن يتخذ موقفاً ضد العنصرية. بل يؤشكل أولئك الذين يرفضون رؤية انفتاحها ولطفها بسبب انتمائها الإثني. ولا عجب أن ينتبه هذا المدير لإمكانيات موظفته التي تسمح لها بتقديم خدمات للسوبرماركت على مستوى أعلى.
مكافحة العنصرية
يا ليت كل الحالات سارت على هذا المنوال. حيث أن كثيراً من المدراء يعانون من عدم الخبرة والإحساس بالعجز حيال التقاط مظاهر العنصرية ومكافحتها بطريقة سليمة. وهذا لا يعني طبعاً أني أزعم أن العنصرية تظهر غالباً أو خصوصاً على شكل ملاحظات عنصرية تُقصي الزملاء ذوي الأصول الأجنبية خارج المجموعة. ذلك أن مكان العمل كان ولا زال مسرحاً لهذا النوع من العدوانية اللفظية، وبخاصة أن الرؤساء لا ينجحوا بشكل كاف في التعبير عن عدم تسامحهم مع العنصرية. إن مطالبة الإداريين بامتلاك المهارات لإدارة فريق متنوع ثقافياً، ومعرفة سبل مكافحة العنصرية، قد تشكل إضافة جديدة لكثير من المؤسسات المعنية بالقيادة النوعية.
وثمة مشكلة أخرى تخصّ التفريق بين مزايا الموظف كفرد والكفاءات المتعلقة بالانتماء إلى خلفية ثقافي-اجتماعية معينة. غالباً ما يُعتبر عن غير وجه حق أن التفريق بين الأمرين عنصرية. غير أن مجرد ملاحظة الفرق والاعتراف بذلك ليس عنصرية بحد ذاتها. بل تكمن المشكلة في التنظيم الأوتوماتيكي للفروق بشكل تراتبي. حين يقترن سواد البشرة أو الثقافة التركية أوتوماتيكياً، أي بدون تفكير واعي، بـ«الأدنى» أو بـ«المشكلة»، وقتئذ يشكل الكلام عن الفروق خطراً، لأن التفكير التراتبي سوف يظهر على السطح. حلّ هذه المعضلة لا يكمن في إنكار الفروق بيننا، لأن هذا ليس صحيحاً. كثير من الناس لا يخطر على بالهم أن بمقدورهم إدراك ماهية العنصرية ومتى تكون الفروق ذات أهمية أو لا تكون. وعوضاً عن ذلك يتلبّسون دور الضحية: «لم نعد قادرين على قول أي شيء، لأنه بمجرد ذكر كلمة (تركي) سوف نُتهم بالعنصرية».
إن دلّ تقسيم الناس إلى عنصريين وضد-عنصريين، فإنه يدلّ على قصر نظر – كما لو أن الأول لا يفعل شيئاً سوى العنصرية، والثاني لا يفعل شيئاً سوى مكافحة العنصرية. والحقيقة أن العنصرية تظهر تارة ولا تظهر تارة أخرى. يمكننا القول إن ثمة تجارب يمرّ بها شخص معين ولا يمرّ بها شخص آخر، أو يمرّ بها شخص أكثر من شخص آخر، أو يمرّ بها شخص في ظروف معينة ولا يمرّ بها في ظروف أخرى. حيث أن نفس المدير الذي لم يكن واثقاً من أداء السيدة سين والذي ذكرته منذ قليل، قد يغضب على جاره الذي يريد أن «ينقلع» الأتراك والمغاربة. الواقع أعقد من التقسيم البسيط إلى عنصريين وغير عنصريين أو عنصريين وضد-عنصريين. صحيح أن الناس يلعبون دوراً جوهرياً في استمرار العنصرية، إلا أنه لا يمكننا مكافحة البشر. بمقدورنا فقط مكافحة ما يفعله هؤلاء الناس: نشر الأفكار العنصرية على الملأ، استخدام الإعلام للتنفيس عن الأحكام المسبقة، العدوانية اللفظية حيال الأقليات، عنصرية المدراء، إقصاء الأقليات وتهميشها في القطاعات المتعددة في المجتمع.
اختيار التعددية
عودة إلى سؤال التمييز الإيجابي. لقد تجنبتُ عن قصد ألا أجيب بـ«نعم» أو «لا»، لأن ذلك سوف يوحي بأن التمييز الإيجابي خيار. الأمر أشبه بمنع الطعام عن أحدهم لمدة سنوات، لنعِدهُ بعد ذلك بكمية كبيرة من صندويشات المربى: مجاناً، ويومياً، وعلى مدار السنوات القادمة، ولكن فقط صندويشات مربى. في حال وافق الشخص، فسوف يودّع الجوع في الأيام القادمة، ولكن دون أن يكون الوضع صحياً. وفي حال رفض، فلا أحد يعلم إن كان سيتجاوز الجوع يوماً ما.
سأختار طريقاً آخر. بداية، أنا لدي نقطة انطلاق مختلفة: الأولوية بالنسبة لي هي ليست في ترقيع الفجوات وتشذيبها، وإنما في حق العمل واحترام الإمكانات البشرية. أختار سياسات تجعل التعددية مسألة مركزية. شخصياً عملتُ كثيراً ضمن فريق عمل متنوع ثقافياً: نساء، رجال، بيض، سود، شباب صغار، وكبار السن. أحياناً يكون لهذا الخيار بعض السلبيات، كأن يحتاج الأمر وقتاً أطول لتحقيق تواصل جيد. غير أن الإيجابيات المرتبطة بالعمل ضمن فريق عمل متنوع تفوق السلبيات بكثير، لأن وجهات النظر المختلفة تضمن منتجاً وجوّ عمل أفضل على المدى البعيد.
إن التقييم الإيجابي للتعددية يعني إبطال الأوتوماتيكية التي تربط الـ«نحن» (سكان البلد الأصليون، الرجال) بالصفات «الإيجابية» (عقلانية، موثوقية، تحضّر، الدافعية الجوانية)، والـ«هم» (السكان ذوي الأصول الأجنبية، النساء) بالصفات المضادة «السلبية» أو صفات ذات تقدير أقل (العاطفية، عدم المهارة، عدم الرسمية، قلة الطموح).
إن التقييم الإيجابي للتعددية يعني أن جميع المعنيين سوف يعيدون تقييم خلفيتهم الثقافية. هذه العملية تمنح المهاجرين والمنظمات فرصة فحص مدى صلاحية بدهياتهم في أوروبا 2000. كما تكمن فيها فرصة تقدير النتائج الإيجابية لاستقطاب النساء الهولنديات، والرجال والنساء ذوي الانتماءات المختلفة. حيث إن المراهنة على النوعية ومواهب الموظفين النادرة والمتعددة واحتياجاتهم سوف تؤدي في أغلب الأحيان إلى تغييرات بنيوية في ثقافة المؤسسة، كما سيبدو في المثال التالي.
لدينا مؤسسة (أ) في أمستردام، وهي ترغب بتطوير خدماتها لتواكب احتياجات تسعينات القرن العشرين. لذلك تريد أن تستقطب أشخاصاً من ثقافات أخرى. في البداية سارت الأمور بطريقة أقل إيجابية من المتوقع. وحين تمّ التعمق في الحالة، اكتشفنا أن ثمة مركزية أوروبية في معايير قبول الموظفين. الأمر الذي دفع إلى تنظيم تدريبات لتعلّم فرز الموظفين حسب النوعية. وأثناء ذلك لم يتمّ التركيز فقط على المعايير التي قد يكون لها تأثير إثني سلبي، بل كذلك على المعايير التي تميّز بين الجنسين. فالاهتمام بالتقديرات الفعّالة لنوعية الموظفين سيفتح المجالَ لمناقشة مشكلة أخرى: سبل التعاون! ذلك أن عدم الرضا كان سائداً بين الموظفين (الذين ما زالوا بيضاً في أغلبيتهم)، بخصوص العشوائية وسياسات المحسوبية المتبعة في الترقيات، ولكن دون أن يتجرأ أحد على فتح هذا الملف خوفاً من العقاب. أما الآن فقد صاروا يستثمرون الفرصة لفعل ذلك. باختصار: حين يتمّ النظر إلى الاحتياجات التي تبدو كما لو أنها تخصّ الفروقات الإثنية فقط، سوف نحقق نتائج على نطاق أوسع: تحسين نوعية القيادة من خلال تحسين شروط الفرز وإجراءات الترقية.
الملخّص: ليس هدفي من هذه المقالة الدفاع عن التمييز الإيجابي أو مهاجمته، بل أن أختار سياسة تكون تصحيحية وعقابية بخصوص العنصرية. هذا يعني أن نضع قواعد إرشادية ضد العنصرية، بحيث يتمكن المواطن العادي من تفعيل حقه بالحماية من العنصرية. وستبقى لدينا دائماً تلك الشركات التي تحاول ضمان الاحتياطي قبل الانتقال إلى تعيين النساء وأبناء الأقليات الإثنية. وقد يضطرون إلى تبني سياسة التمييز الإيجابي بضغط من الحكومة. عندئذٍ غالباً ما تكون النتائج واضحة في الأرقام، دون أن تترك أثراً في نوعية العلاقات في العمل. فالموظفون الرجال (ذوي الأصول الهولندية) سوف يحتفظون بامتيازات مكانتهم، وبخاصة فيما يتعلق بالوظائف القيادية. لعله يتوجب القول إن مكسباً بسيطاً أفضل من لا شيء. ذلك أن الحكومة لم تشتغل حتى الآن على بديل، ولا يمكن هدم سياسة معينة قبل تواجد إمكانيات أخرى.
وبالإضافة إلى الإجبار والعقوبات، يمكن دعم التطورات الإيجابية ومكافأتها. كثير من أصحاب العمل لا يقتنعون إلا بعد أن يروا نتائج إيجابية لدى الآخرين. لذلك أدعو في الوقت نفسه إلى استثمار سياساتي في التعددية الثقافية داخل الشركات. نحن نتكلم هنا عن تطور حديث نسبياً في هولندا والخارج على حدٍ سواء. بإمكان الحكومة دعم هذا التطور عبر البحوث وتمويل التجارب والتطوير المهني وتقديم المعلومة. ومازال ثمة منظمات تدرك أهمية عدم هدر المواهب البشرية، لأنها اكتشفت ميزات العمل مع نساء ورجال من شتى الخلفيات الإثنية على مشروع مشترك. إنها تقدّر نطاق التأثيرات الثقافية الواسعة التي تتمتع بها أوروبا (الغربية)، وتعلم أن التعددية الثقافية في سوق العمل هي واقعنا ومستقبلنا.
إن اختيار التنوع يعني أننا اخترنا جوّ عمل خالٍ من العنصرية، وأننا وقّعنا دون خوف أو تردد على سياسة متينة ضد التفرقة داخل المؤسسة. وسوف يكتشف أصحاب العمل شيئاً فشيئاً أن التنوع يفضي إلى تحسين نوعية العمل والأوضاع داخل المؤسسة. فيستثمرون في التدريب اللازم لتنفيذ هكذا مشروع. هم يدركون الميزات النوعية للنساء المنتميات إلى شتى الخلفيات الإثنية، فيدرجون التعددية الجنسية والثقافية ضمن أهدافهم وسياساتهم. هم لا يحتاجون إلى التمييز الإيجابي، لأنهم يعملون بإيجابية.
فيلومينا أسد (1955) كاتبة وباحثة أكاديمية هولندية من أصل سورينامي. درست علم الأنثروبولوجيا، وحازت على شهادة الدكتوراه في العلوم الإنسانية. تعتبر فيلومينا رائدة في طرح قضايا العنصرية العرقية والنسوية التقاطعية في هولندا. وقد صدرت أطروحتها في كتاب العنصرية العادية (1990)، والذي أثار وقتئذ جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية الهولندية. غادرت بعد ذلك إلى الولايات المتحدة، وهي تعمل الآن في جامعة أنتيوك كبروفيسورة في الدراسات الجندرية والعرقية والقيادة. تعتبر أعمال فيلومينا مرجعاً للدراسات الإثنية والحركة المناهضة للعنصرية. وقد سبق أن نشر موقع الجمهورية نصاً لها بعنوان أكثر من تسامح.
صدرت مقالتها هل التمييز الإيجابي إيجابي؟ ضمن كتابها الاختلاف (1994)، وقد تمت ترجمتها عن اللغة الهولندية.
موقع الجمهورية