المثقف الفرد والنقد الذي يستحق اسمه…/ عبدالله أمين الحلاق
يتداخل الأهلي والسياسي في المنطقة العربية في محطات كثيرة من محطات حروبها و”استقرارها”، ويصعب التمييز والفصل بينهما أحياناً. ينهل كل منهما من الآخر ويغذيه في الوقت عينه، بحيث تصبح السياسة عصبية والعصبية سياسة، وليجتمع الضدان اللذين يفترض بهما ألا يلتقيا، بحسب تعريف ووظيفة كل منهما، وبحسب مسارات سياسية حديثة في عالم ما زلنا ممتنعين عن أن نكون جزءاً منه.
فإذا صحّ أن العلاقة بين “العصبية الحاكمة” و”العصبية المحكومة” كانت وما تزال تحتل مساحات من النقاش الفكري والسياسي العربي، حول أي منهما تؤسس للأخرى أو تنتجها، وبما يشبه ثنائية البيضة والدجاجة، فإن تقاطعات كبيرة بين العصبيتين هو ما لن يصعب وضع الإصبع عليه، نقداً وتشريحاً، وخصوصاً موقع المثقف الفرد منهما وموقعهما منه.
نظام القرابة العربي
يرى ياسين الحافظ أن “نظام القرابة العربي، الموغل في القدم والكابح للتقدم، والذي يقيم الروابط بين الناس لا على أساس عقلاني بل غريزي، لا على أساس الرأي بل الدم، يكمن في أساس استمرار أشكال التضامن القديمة. وحتى أشكال التضامن الحديثة – كالأحزاب السياسية العربية المزعومة حديثةً- تتمفصل مع أشكال التضامن التقليدية بدل أن تقوم على أنقاضها”.
وانطلاقاً من كلام الحافظ حول الجموع وأشكال تضامنها، يمكن القول إن العصبية والسياسة في العالم العربي ربما لم تتفقا على شيء بقدر اتفاقهما على سحق المثقف الفرد، المثقف الخارج عن إجماعات الدم والدين أو الطائفة أو العِرق أو الحزب أو النظام الحاكم أو “الوطن”، وهذا الأخير يستوي، في أحيان كثيرة، عصبية معادية لكل آخر في الحالة السورية مثلاً. هكذا، تتبدى معاداة المثقف-الفرد جزءاً من تعريف كل من السياسة والعصبية عندنا، لذاتها.
تتميز الجماعات العربية المغلقة على نفسها، سواء كانت “سياسية” أو أهلية، بـ “ميزتين” تُعدمان كل فكر نقدي:
الأولى، إقامة السواتر وبناء الجدران بينها وبين الجماعات أو الأحزاب الأخرى، انطلاقاً من الامتلاك المفترض للصواب والقبض على الحقيقة وشيطنة للآخر. والثاني، محاصرة كل محاولات الهرطقة التي قد تخرج من داخلها، يقوم بها أفراد أو مثقفون أو تيارات مناوئة لعموم العصبيات. هذا كله لأن “العالم العقلي والمجتمعي لهذه الجماعات عالم محدود، والعالم والبشرية ينتهيان عند حدودها، ومن هنا افتقارها إلى الخيال أو الأفق الذي يجعلها قادرة على تصور روابط تلحمها بأناس يقعون خارج حدودها، ولا تتعامل معهم تعاملاً مباشراً”، بحسب الحافظ أيضاً، في كتابه “الهزيمة والإيديولوجية المهزومة”.
فالمثقف المنشق، المنسلخ، المهرطق، لا بد له أن يعاني الكثير إن أراد الذهاب في هرطقته حتى النهاية، وهو ما لن تكون سلامته الجسدية والنفسية مكفولتين فيه، باعتباره يواجه إجماعات تمتلك أدوات تصفية مادية ومعنوية فتكت بكثيرين من قبله. أضف أن خطوط المواجهة التي يقوم بها هذا المثقف مختلفة عن خطوط المواجهة التي تقوم بها البيئة التي يعلن عصيانه وخروجه عن عصا طاعتها، فمعركة الجماعة المتراصة والمنسجمة مع نفسها هي دائماً معركة مع خارج ما، قد يكون قبيلة أخرى أو ديناً أو طائفة أو “شعباً”، أو إيديولوجيا أخرى.
وقد تتنطح تلك الجماعة في بعض الأحيان لإعلان الحرب على “وول ستريت” وعلى الاستعمار والإمبريالية، فتجد في كوبا وكوريا الشمالية وبشار الأسد وحسن نصرالله وكتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد ما يعزز من صمودها في معركتها تلك، كما لن يصعب العثور في صفوفها على مثقفين ردّاحين، يتحول كل منهم إلى “شاعر قبيلة”، يذود عن حماها ويدافع عن “عزّتها” و”إبائها” و”شموخها” و”صمودها” وغيرها من مفردات “السياسة” العربية. لكنّ مهمة شعراء القبيلة لا تقتصر على “الردح” في مواجهة الجماعة الخصم أو العدو، بل هي تنال من المثقف المهرطق نفسه، الذي ينتمي -بالولادة- إلى الجماعة عينها، لكنه يصبح هدفاً للتخوين والاتهامات والحصار والتضييق لأنه قال قولاً مخالفاً.
واستطراداً، وفيما خص العلاقة مع الآخر وهجائه أو نقده، فإن النقد هنا “عملة بلاش”، مجانيّ ومضحك، لا يكلف صاحبه إلا بضعة سطور تعلن الحرب على الغرب أو الرأسمالية أو الاستشراق أو الليبرالية أو “الرجل الأبيض”، يعود كاتبها بعد ذلك ليقبّل يديّ الشيخ أو رجل الدين أو أمير الطائفة. وإذا انتقد التخلف العربي جاء نقده له باعتباره تخلفاً “صنعه الاستعمار” الذي “قسّم أمتنا العظيمة وجزأها وتآمر عليها”. لكن، ما هو غير مجاني، أن يكون النقد موجهاً أيضاً لبني جلدتنا، لانتماءات أولى أو أولية، ميكروسوسيولوجي، متحالفة مع سلطات وطبقات وأنظمة، ماكروسوسيولوجي، تضخ كل منهما الدم في عروق الأخرى، بحيث يكون استمرار إحداهما استمراراً للأخرى وضماناً لسيطرتها.
الحكم العسكري
هذا ليس للقول إن ما يحصل اليوم هو قدرٌ مكتوبٌ ومحفورٌ على اللوح المحفوظ لبلادنا منذ الأزل، أو أن التخلف سمة عربية لا خروج منها، كما تقول نزعات عنصرية غربية وجوهرانية كثيرة. فقد شهدت المنطقة العربية، وخصوصاً سوريا ومصر والعراق، احتمالات كان من الممكن أن تتطور لو لم يتم إنهاء “العصر الليبرالي العربي” القصير.
وفي نهايات هذا العصر نشطت حركة منع الكتب والحركات الراديكالية المناهضة للغرب، والتي وصل بعضها إلى السلطة منذ الخمسينيات، “عندما غدت مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن ذات أنظمة عسكرية تسحق ما هو متوافر من فردانية جنينية في بلدانها. وغدت مهمة أي عربي صالح أن يقاتل الفردانية في موازاة قيامه بدعم التصنيع الثقيل وإقامة الاشتراكية وبناء الوحدة العربية.. وعنى الطلب الموسمي والمتقطع على الديمقراطية أن هذه الديمقراطية، في أحسن أحوالها، لن تعني إلا حكم الأكثرية. اما الضمانات للأقليات والأفراد فلم يشملها التأويل هذا”، بحسب حازم صاغية في كتاب “مأزق الفرد في الشرق الأوسط”.
ومع هزيمة الثورات العربية، وارتفاع العصبيات مجدداً، ديناً وطائفة وعرقاً وقومية، عادت الأصوات الناقدة إلى الخفوت مجدداً وإلى تبادل الحوارات الجريئة ولكن الانشقاقية، تحت الأرض، بعد أن بشرنا كثيرون بـ “كسر حاجز الخوف”. وبعد عقود من الحكم العسكري والاستبدادي الذي تزاوجت فيه العصبية مع السياسة بأسوأ أشكالها، ابتلعت الأولى الثانية ولم يتبقّ في المنطقة وفي خارجها إلا هياكل بشرية شاحبة تمارس ما تقول إنه “سياسة” وبراغماتية”، وباتت عبارة غاليليو الشهيرة: “لكنها تدور” تهمة أخرى تضاف إلى تهم كثيرة تطال المثقف الفرد في زمن الفوضى العربية.
رصيف 22