مثل شخص واقع في الحياة… عباس كيارستمي والبحث عن طعم للسينما/ وائل سعيد
عرفتْ إيران طريقها إلى السينما في وقت مبكر، مع وصول أول جهاز سينماتوغراف إليها في مطلع القرن التاسع عشر تقريباً. وعلى مدار نصف قرن مرت السينما الإيرانية بمنعطفات مهمة، صعوداً وهبوطاً، فضلاً عن محاولات من التجريب في مجابهة النموذج الهوليودي الغالب، شأنها في ذلك شأن الكثير من سينمات العالم، حتى اتُّهم الجمهور الإيراني آنذاك بإدمانه على مشاهدة هذه النوعية من الأفلام دون غيرها. ولكن مع أواخر الستينيات انطلقت موجة جديدة من السينما الإيرانية كردّ فعل على تلك السينما الشائعة أو الشعبية، التي لم يكن بوسعها أن تعكس الثقافة والذوق الفني الخاص بالمجتمع الإيراني.
احتفت الموجه الجديدة بعدد من الحركات السينمائية العالمية كالموجة الفرنسية أو الواقعية الإيطالية الجديدة –وهما من أكثر الحركات تأثيراً وتأثراً في تاريخ السينما- وخلال عقد من الزمان وحتى الثورة الإسلامية عام 1979، ظهرت أفلام لعدد من المخرجين شكلوا ملامح مغايرة وحديثة في تاريخ السينما الإيرانية مثل داريوش مهرجوئي وناصر تقوايي ومسعود كيميائي وبهرام بيضائي، وسرعان ما انضم إليهم محسن مخمَلباف وأمير نادري وعباس كيارستمي.
“حين تأخذون شجرة متجذرة في الأرض وتنقلونها لمكان آخر لن تثمر مجدداً، ولو حدث ذلك فلن تكون الثمرة جيدة بما يكفي… خشيت أن أكون مثل هذه الشجرة لو غادرت موطني”
ومع انتقال إيران من حكم الشاه الأخير محمد رضا بهلوي إلى عهد روح الله الخميني، فرّ العديد من هؤلاء إلى خارج البلاد وكان كيارستمي أحد القلائل الذين مكثوا ولم يحتملوا هجرة الوطن، وهو الذي أجزم لاحقاً، بأن هذا القرار كان من أهم القرارات التي اتخذها في حياته، لأنه ببساطة “حين تأخذون شجرة متجذرة في الأرض وتنقلونها لمكان آخر لن تثمر مجدداً، ولو حدث ذلك فلن تكون الثمرة جيدة بما يكفي… خشيت أن أكون مثل هذه الشجرة لو غادرت موطني”.
ولد عباس كيارستمي في الثاني والعشرين من شهر حزيران/يونيو 1940 ورحل في الرابع من تموز/يوليو 2016، بعد أن قضى جلّ حياته عاشقاً للصورة؛ فقد بدأ رساماً وكتب الشعر والسيناريو ومارس التصوير أيضاً برصيد يزيد عن أربعين فيلماً، ما بين روائي وتسجيلي وقصير، عرف العديد منها طريقه إلى الجوائز العالمية ونال إشادات النقاد فضلاً عن احتلال المراكز الهامة في قوائم الأفلام واستطلاعات الرأي الشهيرة.
وثيقة واقعية عن الخيال
الوجود عند كيارستمي يعني أكثر من مجرد الحياة؛ نلمح ذلك منذ فيلمه الأول “الخبز والزقاق” (1970) وهو روائي قصير في عشرة دقائق، أبيض وأسود، نتبع فيه رحلة صبي أرسلته أسرته لشراء الخبز وأثناء عودته يعترض طريقه كلب جائع. بعيداً عن الحبكة والحكاية يتحرك كيارستمي بأريحية الخبير مقتطعاً أزمنة وشخصيات وأحداثاً من ثبات الوجود، فيمنحها قبلة الحياة، مازجاً التوثيقي بالخيالي والواقعي بالسحري مع درجة ملحوظة من الغموض، لكنه مزيج غير عادي من البساطة والتعقيد في الوقت نفسه.
اعتبر الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي فيلم “الحياة ولا شيء أكثر” (1992) ليس تمثيلاً أو تقريراً بل هو دليل سينمائي ولكنه ملوث بالفناء.
من جانب آخر، كرر كيارستمي كسر الإيهام بالخلط بين الواقعي والخيالي، فتناثرت نتفاً من سيرته الذاتية كمخرج في أكثر من فيلم، وفي “لقطة مقربة” (1990) يفسح المجال أكثر للمجتمع السينمائي، فبطل الفيلم يخدع أسرة بأنه المخرج المشهور محسن مخملباف فيلتفون حوله على أمل أن يختار منهم أبطالاً لفيلمه الجديد؛ إنها الرغبة الدفينة داخلنا على التشخيص والتمثيل والشغف بحلم النجومية. يمكن اعتبار هذا الفيلم بالأخص نموذجاً لأسلوب كيارستمي الفني الذي يبحث عن طعم للسينما، أو حين “يصنع الفيلم نفسه” كما يقول.
أحبَّ كيارستمي قيادة السيارات، وحين سألوه عن تكرارها في أفلامه أجاب: “أقضي فيها يومياً ثلاث أو أربع ساعات على الأقل”، اعتاد أن يقضيها بصحبة مجهول، كل ما علينا أن نشير ونطلب توصيلنا فيفتح لنا الباب. اللعبة ستبدأ بمجرد التحرك ثانية؛ اثنان يجتمعان في سيارة لمدة من الزمن، لا أحد يعرف الآخر حتى أنهما لا ينظران لبعض. كل منهما منشغل بالطريق وبتوالي المشاهد والصور المتحركة، يحكي أو يستمع أو يفعل الاثنين معاً. أدمن كيارستمي اللعبة ولكن بذكاء، فلم يغتر بغنائم قد يقتنصها المخرج الذي يستمع ويسجل ويستحلب الحكايات من العابرين الحقيقيين، بل انخرط كواحد منهم يحكي ويستمع. رأى كيارستمي أن صورة هذه العلاقة العابرة هي الأمثل في التواصل مع الآخر.
في فيلم “10” يُقدم مغامرة سينمائية شبيهة من داخل سيارة تجوب شوارع طهران وتقودها طبيبة، وأثناء طريقها تلتقط العابرين. لا تخرج الأحداث من داخل السيارة، فهو فيلم حواري لا يتضمن إلا أخباراً عن حكايات النساء واحدة تلو الأخرى، قد يكون كرسي اعتراف جماعياً متنقلاً يبحث عن الإدانة أو الانعتاق. السيدة الأخيرة في الفيلم تخلع حجابها بخجل بعد أن فقدت كل شعرها، وتخبرها الطبيبة بفخر “دعي رأسك يتنفس.”.
بعيداً عن هوليوود
في حوار جانبي، سُئلت الممثلة الفرنسية جولييت بينوش عقب حصولها على أوسكار أحسن تمثيل: “وماذا بعد، هل ستُصبحين ممثلة هوليوود؟”، جاءت إجابة بينوش مخيبة لتخيلات الصحفي عن العناوين التي تفتقت عنها قريحته: “أحلم بهوليوود منذ طفولتي. الأوسكار هو مفتاح الدخول لهوليوود…، وما إلى ذلك”، ثم أخبرته بهدوء؛ “أظن أن الأمر يبتعد تماماً عن هوليوود، فالمخرج الذي أريد العمل معه حقاً هو عباس كيارستمي”.
وهو ما أدهش كيارستمي نفسه كما صرح لاحقاً، حيث قضى أكثر من 12 عاماً يبحث عن مشروع جديد يجب أن يكون مبتكراً، لتشعر أنها مرتبطة به. ستحصد بينوش جائزة التمثيل أيضاً عن الدور الذي صنعه كيارستمي، ولكن هذه المرة من مهرجان كان 2010 وفيلم “نسخة موثقة” الذي يُعدّ أول فيلم روائي طويل يُصوره كيارستمي خارج إيران، ولذلك تم منعه من العرض لعدم حصوله على موافقة بالتصوير خارج البلاد.
أما بينوش، فهي من الممثلات المميزات جداً اللاتي يمتلكن وجوهاً سحرية أو بالأصح روحاً سحرية تمكنها من التسلل برشاقة لقلب المُشاهد، وهو ما يشير إليه عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران في كتابه “نجوم السينما”، فميثولوجيا النجوم تتموضع في منطقة مختلطة ومرتبكة بين الإيمان والترفيه، ومذهب النجومية يشبه البراعم التي لا يكتمل نضوجها. ولنقل بكلمات أخرى إن ظاهرة النجوم هي في آن ظاهرة جمالية وسحرية ودينية.
بروح تمزج التجريب بالشغف المرتبك، شكل كيارستمي الثلث الأخير من تجربته الفنية، ارتدى عدة قبعات في نفس الوقت بتجانس يُحسب له، حيث الهوية كانت من نصيب الشاعر، والرؤية ذهبت للخبير فيما جاء المُخرج في ذيل القائمة فهو مجرد شخص يُجيد إعادة تجميع الأشياء وفق الخطأ والصواب.
لم يكن هذا على مستوى إخراج الأفلام وفقط، بل كان يقوم بالإنتاج او المشاركة في كتابة السيناريو، كما الحال مع المخرج جعفر پناهي على سبيل المثال، سواء في أول أفلامه “البالون الأبيض” (1995) أو في “الذهب القرمزي” (2003). في الحقيقة ثمة تشابه واضح في الأسلوب بين كيارستمي وپناهي، لاسيما في بدايات الأخير، فروح البساطة الشعرية تمثل العامل المشترك بينهما.
كان كيارستمي مولعاً بعدم اليقين، فدائماً ما ذكر أن الجمهور يرى أشياء في أفلامه لم يكن على دراية بها، ومن هنا أحب المعنى اللامباشر، فكل شيء مفتوح لتفسيرات الجمهور المتعددة
وكان للتسجيلي نصيب أيضاً، “خماسية لاوزو”، فيلم وثائقي (2003) يتألف من خمس لقطات طويلة وثابتة أحياناً، مدة اللقطة ربع ساعة تقريباً من على شواطئ بحر قزوين بغرب آسيا، والذي يعده البعض أكبر بحر مغلق في العالم حيث يحده اليابس من الجهات بعكس الجزيرة.
أراد المخرج صُنع جزيرة بشكل جديد، الأمر فيها أكثر من مجرد صورة جميلة، بل هو الشغف بالانفصال والعزلة عن ضجيج المجتمع، من الحركة الصاخبة للراحة الساكنة، من الصمت القريب للأشياء والبحث عن غنائها الأبدي الدفين بين النور والظلام. فخلف البساطة الواضحة للصورة ثمة حيلة مخفية لميلاد جديد ومستمر. استطاع كيارستمي خلال لقطاته الخمس استثارة مستويات نفسية تتوق للراحة، الراحة بفلسفتها الجمالية التي تشبه الفراشة، كونها المعادل الذي لا يُحتمل لخفة سيرورة الوجود.
المشي مع الريح
في إحدى دورات مهرجان مراكش السينمائي، كشف كيارستمي عن مشروعه الجديد الذي يتتبع فيه تاريخ السينما من خلال “24 كادر”، وهو أقصى درجات التجرد في تجربته كمخرج ومحب للحياة، لقد آن الآوان للإنصات بخشوع لصوت الصورة والتخفف من ضجيج الحوارات والبشر أيضاً، فمدة الفيديوهات المجمعة أربعة دقائق ونصف لكل فيديو، تطلب كل واحد منها ستة أسابيع عمل بدوام كامل، لتسجل الكاميرا لحظات غير مترابطة لكنها متوهجة، في حالة حركة مستمرة رغم الثبات الكامل للمشهد في تطويل زمني ربما أثقلته سبعة عقود ونصف يكتب لها السرطان سيناريو النهاية.
كان كيارستمي مولعاً بعدم اليقين، فدائماً ما ذكر أن الجمهور يرى أشياء في أفلامه لم يكن على دراية بها، ومن هنا أحب المعنى اللامباشر فكل شيء مفتوح لتفسيرات الجمهور المتعددة. في فيلمه الروائي الأخير “مثل شخص واقع في الحب” (2012) يغوص كيارستمي عميقاً في علاقة خاصة، محتجبة وواضحة في ذات الوقت بين مُسن وفتاة يابانية، ربما المُسن هو كيارستمي نفسه بصفته مخرجاً وصانع أفلام بلغ الكهولة، فيما تمثل الفتاة صورة السينما الجديدة، الحديثة، تلك اليافعة التي تخطو لآفاق عالمية من قارة آسيا، فمشروعه الذي كان يخطط له قبل الرحيل كان مقدراً له أن يصور في الصين ويكون عنوانه “المشي مع الريح”.
لقطات من أفلام كيارستمي
رصيف 22