الأمة ونساؤها: هل يمكن تحرير الملابس من الأيديولوجيا؟/ محمد سامي الكيال
ظهر شعار «ينتهي الغلاء عندما تتحجّب النساء» في فترة تحولات اجتماعية بنيوية في القرن الماضي، لم ترتبط حسب، ببدء انحدار الطبقة الوسطى، التي أنشأتها دولة الاستقلال العربية، بل كذلك بخروج النساء الواسع إلى سوق العمل، وانحلال نظام الإعالة، الذي طبع المجتمعات الأبوية القائمة آنذاك. هكذا باتت النساء من كل الطبقات، خاصة الطبقات الأدنى، مرئيات أكثر، وفي كل مكان. ولم يعد الحديث عن «دور المرأة في المجتمع» مقتصراً على الدعوات الطليعية لمثقفات ومثقفين تنويريين، بل أمراً واقعاً، فكان الحجاب نوعاً من المساومة، التي طرحتها الحركات المرتبطة بالصحوة الإسلامية: فلتخرج النساء، لكن تحت غطاء قماشي.
هذه المساومة يمكن قراءتها سيميائياً على عدة مستويات، فالحجاب رمز أو علامة، تثبّت على أجساد النساء، لتحيل لدلالات اجتماعية وثقافية ودينية وطائفية، سياسية دائماً؛ من خلالها تحافظ النساء على تصوّر معين حول الأمة، التي يُفترض أنها مبنية على قيم أساسية، لا يمكن أن تستمر إذا انطلقت النساء على هواهن في الشوارع والميادين وبيئات العمل. وبذلك يحافظ الحجاب على جوانب مهمة من الأمن والاستقرار الاجتماعي، وقد يمهّد الالتزام به لنهضة الأمة من جديد، رغم كل التغيرات المعاصرة التي طالتها، والظروف الصعبة التي تعيشها. حركات الإسلام السياسي، التي لم تدّخر جهداً بتعميم الحجاب، رأت نفسها الجهة القادرة على تحقيق تلك النهضة. بالتالي فإن ربط تجاوز المشاكل الاجتماعية والمعيشية، ومنها الغلاء، بحجاب النساء، لم يكن مجرد مقولة ساذجة، صاغها مشايخ من أصول ريفية، بل كان شعاراً سياسياً قابلاً للانتشار بقوة، خاصة في الأوساط الاجتماعية المتضررة من التغيرات الاجتماعية؛ ويكثّف ببراعة كثيراً من الأبعاد الأيديولوجية المرتبطة بمشروع الإسلام السياسي.
اللافت في هذا السياق أن بعض الباحثين والناشطين، المحسوبين على التيارات «التقدمية» في الغرب، اعتبروا الحجاب «تمكيناً للمرأة» نظراً لأن المساومة التي طرحها مكّنت النساء من انتزاع مساحات لحضورهن في الحيز العام، وبفضله أعدن توجيه العناصر الرمزية للهيمنة الاجتماعية لمصلحتهن. وعلى الرغم من مرور عقود على تحجّب معظم النساء في العالم العربي، دون انتهاء الغلاء، لم يتوقف الصراع السياسي حول الملابس، الأنثوية بالتحديد، وما زالت معظم القوى السياسية والاجتماعية مشاركة فيه. فيما تسود مقاربة نسوية، ذات منطق ليبرالي واضح، تطالب بإبعاد ملابس النساء عن كل أشكال الحكم الأيديولوجي، الذكوري بالتأكيد، وترك المسألة خياراً شخصياً لكل امرأة، فهل يمكن للملابس، بوصفها علامات ورموزاً ثقافية، أن تمسي بعيدة عن الصراع السياسي؟ وكيف يمكن أن ينشأ فضاء «الحرية الفردية» وسط هذا الظرف المشحون؟
ما تختاره النساء
من الصعب القول إن الحرية في انتقاء الملبس، التي تعرفها الدول الأكثر ليبرالية، بعيدة عن السياسة والأيديولوجيا، ليس فقط بسبب ارتباطها بحركات اجتماعية، نشطت طيلة القرن الماضي، مطالبةً بالحقوق الفردية والمدنيّة، بل أيضاً لأنها جزء أساسي من فردنة الذوات: تُخاطب الذوات في الليبرالية الجديدة بوصفها أفراداً، قادرين على اتخاذ قرارات حرة، فيما يتعلّق بهويتهم الفردية، اجتماعياً وثقافياً وجنسانياً، بما يشير إلى إمكانيتهم إجراء تعاقدات، حرة نظرياً بدورها، في كل مجالات حياتهم العامة والخاصة، وعلى رأسها العمل والعلاقات الحميمة.
لا يمكن تخيّل وجود هذا النمط من الذوات دون الحرية، شبه التامة، في انتقاء الملابس، بكل ما تبديه من علامات ثقافية. يصبح ستر الجسد أو إخفاؤه؛ تزيينه أو التعامل معه بتقشّف؛ ربطه بألوان وتصميمات معيّنة، جزءاً من هوية الذات الفردية، التي يعتبر التدخّل فيها نوعاً من الاعتداء. وإذا وافقنا على أن صياغة الذات هي المهمة الأولى للأيديولوجيا، فإن حرية الملبس إحدى أهم المقولات الأيديولوجية في عصرنا، فقد ساهمت بجعل الذاتية تُبنى على الفرد، وليس على «الأمة» الروحية كما في حالة الإسلاميين في العالم العربي؛ أو العائلة الأحادية، كما هو الحال بالنسبة للمحافظين الغربيين، الذين ربما يتمنون بدورهم أن تحتشم النساء، ويلبس الذكور ما ينبغي أن يرتديه الرجال، كي يمكن استعادة العائلة، بكل ما وفرته من أمن اجتماعي.
يصبح المعرض الحر للأزياء، بكل تدرجاتها، من الاحتشام إلى «التهتك» تجسيداً حياً للمجتمع المفتوح والمتنوّع، في العرف الليبرالي. وتعمل شركات كبرى على توفير كل مستلزمات هذا التنوّع، من الحجاب وحتى ألبسة السباحة الأكثر إثارة. لكنّ هذا «الانفتاح» يستلزم نوعاً من التساوي القيمي بين العلامات، التي تُصدّرها كل أنواع الملابس، وهو ما لا يستطيع المنظور الليبرالي تأمينه بشكل تام، نظراً لتناقض منطقي أساسي في منظور الفردانية: إذا كان كل خيار فردي متساوياً مع الآخر، أخلاقياً واجتماعياً، فهذا يعني أنه لا يوجد خيار صحيح، وبالتالي فإن ما يؤمن به البشر، ويمارسونه في حياتهم، ليس أكثر من علامات اعتباطية، يمكن التنقّل بينها ببساطة. كيف يمكن الحفاظ على الإيمان، الانتماء إلى هوية معينة، الالتزام الاجتماعي، وغيرها من عناصر حرية الفرد، إذا كان قادراً بكل بساطة على التحلل من كل ارتباط، واستهلاك رموز وهويات جديدة؟
لا حل لهذه المعضلة إلا اعتبار أن الانتماء الفعلي الوحيد، في هذا النوع من المجتمعات، هو للقانون والسلطة التي تضمن التنوّع الفارغ من المحتوى، أو ذي المحتوى الاعتباطي، وهذا قد يعني نشوء «أمة» جديدة، يتشابه أفرادها ويتماثلون في إيمانهم بما يتيحه التيار السائد، وفي لا إيمانهم بكل ما عداه. يصبح الازدهار، الذي تعد به الليبرالية، مرتبطاً دائما بإبداء قدرة على «تسامح» لا يقبل بأي نمط تفكير آخر. ويصير الشعار هنا: يتحقق الازدهار عندما تتحرر خيارات النساء في اللباس، بوصفهن ذواتاً فردية. ومن جديد تمتلك الملابس أهمية أيديولوجية وسياسية شديدة.
استحالة الاعتباطية
إلا أن يوتوبيا العلامات الاعتباطية في الليبرالية الجديدة تواجه تحديات كبيرة: ماذا إذا اصطدمت مصالح فئات ما مع السلطات المشرفة على «المجتمع المفتوح»؟ يحدث هذا كثيراً، كما في حالة التطرف الإسلامي في الغرب، أو اليمين الشعبوي والمتطرف. المعارك حول النقاب، ملابس طالبات المدارس، حق الإجهاض، زواج المثليين، والضمائر المستعملة في مخاطبة المتحولين جنسياً، أمثلة يومية عن استحالة فصل الملابس، وغيرها من الخيارات الشخصية، عن السياسة والأيديولوجيا. الحل السائد هو دفع كل الاعتراضات على الحريات الفردية إلى الهوامش، لكن هذه الهوامش تتضخم تدريجياً، إلى درجة أنها تهدد بابتلاع المتن الاجتماعي، واندلاع ما يشبه الحرب الطائفية حول نمط الحياة، بين الليبراليين وأعدائهم. إضافة لهذا هنالك علامات لا يمكن للمجتمعات الليبرالية، في أكثر تجسيداتها نقاءً، التعامل معها باعتباطية، على رأسها ثنائية دائن/مدين: أياً كانت خياراتك الفردية، ونمطك في انتقاء ملابسك وإظهار هويتك، فإنك ستواجه عواقب أحادية صارمة، إذا عجزت عن الوفاء بديونك، سواء كانت ديوناً شخصية، أو ديوناً للدولة التي تنتمي إليها.
تبدو الاعتباطية الثقافية ضمن النطاق الاجتماعي شديدة الصعوبة، فالبشر يميلون إلى اعتبار أن خياراتهم تسندها حقائق ما، تعطي المعنى لما تتضمنه من كبت وحرمان، أو آلام مرافقة للذّات المنطلقة. وإذا ترافق كل هذا مع ضغط حقائق «مطلقة» لنظام مالي واقتصادي، لم يعد قادراً على تأمين الازدهار، ويدفع فئات متزايدة نحو الفقر وفقدان حقوق العمل، فستصبح عندها الآمال حول حرية الملبس شبيهة بالوعود حول الحجاب: لم يتحقق الازدهار، كما لم ينته الغلاء، رغم كل الأزياء التي بات في إمكان الناس ارتداؤها أو خلعها بحرية.
موضات جديدة
قد يكون الاعتراف بالدلالات السياسية لسيمياء الملابس ضرورةً لمواجهة التناقض في المنظور الليبرالي: ليست كل الخيارات متساوية، بل تحمل معها موقفاً ورسالة أيديولوجية، يجب الاعتراف بها والتعامل معها، دون أن يعني ذلك إقامة سلطات قمعية، تحدد للبشر ما يجب أن يرتدوه. يمكن لحيز عام نشيط أن يضمن بقاء الجدل والنزاع بين مختلف الخيارات سلمياً، وأن لا يتحوّل إلى حرب إلغاء، لكنه، في الوقت نفسه، يسمح لمختلف الأطراف أن يبيّنوا الحجج والأسباب، التي تجعل خياراتهم صحيحة من وجهة نظرهم، وأن يروّجوا لها بين الناس. عندما تتعرض امرأة في العالم العربي للاضطهاد بسبب ملابسها «الفاضحة» فقد يكون الأنسب، بدلاً من الحديث عن «حريات» معرّفة بشكل سلبي، و»خيارات فردية» اعتباطية المحتوى، بيان التهافت السياسي لأيديولوجيا دول ما بعد الاستقلال، وحركات الإسلام السياسي، التي رسمت للنساء دوراً دونياً، وقيدتهن بقيود مختلفة، في حياتهن العامة والخاصة، لأجل بناء «الأمة».
كما أن رفض الدور السياسي، الذي يُفرض في العالم العربي على الرجال والنساء في أدائهم الجندري، سيؤدي بالتأكيد إلى بروز موضات وأنماط جديدة من الأناقة. وقد يكون سعي الأطراف الاجتماعية ذات المصلحة لنصرة تلك الأنماط، دون سواها، فعلاً سياسياً واعياً بنفسه، وليس مستلباً بادعاءات حياد إيديولوجي، لا تصمد أمام النقد.
كاتب سوري
القدس العربي