الاستخبارات الأميركية أمام تحدي القوة الجالبة للضعف: كتاب جديد يناقش أبرز التحديات التي تواجه “سي آي أي”/ عيسى نهاري
في عام 2021، نكأ سقوط حكومة أشرف غني في أفغانستان جراح وكالة الاستخبارات الأميركية، التي لا تزال أخطاؤها في منطقة الشرق الأوسط تطاردها، فبعد مرور نحو عقدين على تقديرها الخاطئ بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل ما استدعى تدخلاً عسكرياً، جاء الانسحاب الفاشل من أفغانستان وسقوط مناطقها سريعاً بيد حركة “طالبان” على مرأى من الرئيس الأميركي جو بايدن ومسؤوليه الذين تفاءلوا بصمود الحكومة في كابول، خيبة أمل أخرى، دفعت “معهد هوفر” إلى التشكيك في قدرات مجتمع الاستخبارات الأميركي، سائلاً “هل نحن أغبياء استخباراتياً؟”.
وفي كتاب جديد، راجعت إيمي زيغارت، زميل أول في “معهد هوفر”، وعضو في مجلس الأمن القومي الأميركي في عهد بيل كلينتون، الإرث الجدلي للاستخبارات الأميركية، بدءاً من جواسيس الحرب الثورية الذين استعان بهم جورج واشنطن، وصولاً إلى أقمار التجسس الاصطناعية. ونبهت زيغارت إلى التحولات العميقة التي يمر بها عالمنا وسط صعود ما يعرف بـ”الاستخبارات مفتوحة المصدر”، وتنامي التقنيات الحديثة التي تؤثر في وصول البيانات، وأساليب جمعها.
وحذرت زيغارت في كتابها “جواسيس وأكاذيب وخوارزميات، تاريخ الاستخبارات الأميركية ومستقبلها” من أن فهم العامة للاستخبارات يعد قاصراً، على الرغم من أن العالم غارق في الأفلام والبرامج التلفزيونية والروايات التي تدور حول التجسس. وتشير مقدمة الكتاب إلى أزمة في التعليم الاستخباراتي تسهم في تشويه الرأي العام، وتغذية نظريات المؤامرة، في وقت تقدم فيه الجامعات دروساً في موسيقى “روك أند رول” أكثر مما تقدمه عن الاستخبارات، ويفوق خبراء الحليب المجفف في الكونغرس خبراء التجسس عدداً.
وفيما يفتقر العامة وصناع القرار إلى الوعي بأساسات عالم الاستخبارات، جاءت التقنية الحديثة لتزيد هذه التحديات تعقيداً، وتفتح مجالاً لأعداء جدد، ولاعبين نافذين كالمواطنين العاديين الذين بات بإمكانهم تتبع التهديدات النووية بنجاح باستخدام برامج مثل “غوغل إيرث”، ما جعل الفضاء السيبراني من نواحٍ عديدة، ساحة معركة جديدة، يستخدم فيها المجرمون الخداع والحيلة والتكنولوجيا المتقدمة لأغراض السرقة والتجسس وحرب المعلومات.
تأثير الترفيه في القرار
ما ألهم زيغارت تأليف الكتاب هو القصور المعرفي الذي تكشف لدى طلابها بعد إجراء استطلاعات رأي تنبهت من خلالها إلى أنهم يستقون معرفتهم عن الاستخبارات من المسلسلات والأفلام التي تدور حول التجسس، ومنها مسلسل “24” الذي يستعرض شخصية اسمها جاك باور يفعل أي شيء لإنقاذ الولايات المتحدة من الإرهابيين، محذرة من أن مثل هذه المسلسلات تؤثر في الرأي العام وسياسة الاستخبارات.
وقالت الأستاذة في “جامعة ستانفورد” إنها أجرت لاحقاً استطلاعين على المستوى الوطني كشفا عن أن الأميركيين الذي شاهدوا منتجات ترفيهية حول التجسس كانوا أكثر ميلاً لدعم الأنشطة المثيرة للجدل مثل مراقبة الهواتف من دون إذن، واستجواب المشتبه في أنهم إرهابيون بالإغراق. وأضافت، “سواء كنت تعتقد أن هذه الأنشطة أخلاقياً صحيحة أو خاطئة، فعالة أو غير فعالة، فإن حقيقة أن الخيال يؤثر في المواقف العامة تجاهها أمر مقلق”.
ولا يقتصر تأثير الترفيه والخيال الجاسوسي على العامة، بل بلغ صانعي السياسات، ففي خريف عام 2002، أجرت المقدم دايان بيفر، في غوانتانامو باي، جلسات عصف ذهني حول تقنيات الاستجواب، واعترفت لاحقاً بأن شخصية جاك باور في مسلسل “24”، ألهمت المشاركين بكثير من الأفكار. يذكر أن بيفر وافقت على استخدام الكلاب والإذلال الجنسي والإيهام بالغرق لاستجواب السجناء.
وفي عام 2009، عقدت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ جلسة استماع للمصادقة على تعيين ليون بانيتا رئيساً لوكالة الاستخبارات المركزية، إذ سأله الأعضاء عن أساليب الاستجواب التي قد يستخدمها إذا ما واجه سجيناً يعتقد أن لديه معلومات عن هجوم وشيك. أخذ بانيتا هذا الافتراض على محمل الجد، على الرغم من أن الخبراء جادلوا منذ فترة طويلة بأن سيناريوهات “القنبلة الموقوتة” غير واقعية ولا تحدث إلا في الأفلام.
واخترقت أفلام الجاسوسية وكالة الاستخبارات المركزية نفسها عبر فيلم “Zero Dark Thirty” الذي رشح لجائزة الأوسكار، ويسرد قصة مطاردة أسامة بن لادن، إذ أثار الفيلم عاصفة جدل حول دقة التوثيق، دفعت رئيس وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك إلى كتابة مذكرة داخلية، أشار فيها إلى أن الفيلم انحرف عن الحقيقة لأغراض فنية، على الرغم من أنه يصور نفسه على أنه “دقيق تاريخياً”. وتجادل زيغارت قائلةً، “عندما يضطر رئيس الـ(سي آي أي) إلى فضح فيلم عن الوكالة للوكالة، فأنت تعلم أن الترفيه ليس مجرد ترفيه”.
تستعرض الكاتبة عواقب الإخفاقات الاستخباراتية، وتعود بالذاكرة إلى الحرب الكورية عام 1950، والتدخل الأميركي لمساندة كوريا الجنوبية في وجه الشمالية المدعومة من الصين والاتحاد السوفياتي، مستذكرةً أنه بعد أن نجحت قوات الأمم المتحدة والقوات الأميركية في الحفاظ على حكومة كوريا الجنوبية، قرر القادة الأميركيون الذهاب إلى ما هو أبعد من احتواء التهديدات الشيوعية، وتبني سياسة الرد الفعلي مدفوعين بمغريات التأثير النفسي لتدمير دولة شيوعية وتحرير أسرى الحرب.
وقتها، أبلغت الـ”سي آي أي” الرئيس هاري ترومان بأن ليس لدى الصين شهية لخوض حرب مع الأميركيين. وكان الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر، القائد المكلف الإشراف على القتال في الساحة الآسيوية، مقتنعاً بما توصلت إليه الاستخبارات، لدرجة أنه قال لترومان إن قوات بلاده ستعود بحلول عيد الميلاد.
وتستذكر زيغارت بأنه بعد يوم من عبور القوات الأميركية نهر يالو، خط عرض 38 الذي كان يمثل الحدود بين الكوريتين في تجاهل صريح لتهديدات بكين، وجه ماو تسي تونغ الجيش الصيني بالتحرك إلى نهر يالو، والاستعداد لاجتيازه، ما أدى إلى خسارة قوات الأمم المتحدة في غضون أسابيع الآلاف من جنودها، ومئتي ميل من الأراضي، إضافة إلى الميزة التي اكتسبتها خلال بداية الحرب.
وتحلل الباحثة سوء التقدير الأميركي، قائلةً إن الجنرال ماك آرثر وقع فريسة لمجموعة من المشاعر، و”سمح للتفاؤل بأن يطمس تقييمه للحقائق، ورفض الأدلة التي تتعارض مع معتقداته السابقة، وبنى فريقاً حوله لم يشجع الاختلاف”. وأضافت “الدرس الأهم من كوريا هو أن ماك آرثر لم يفشل على نحو فريد، بل فشل في الأمور العادية، إذ يمكن أن تؤدي المرشحات الإدراكية التي يستخدمها جميع البشر لمعالجة المعلومات إلى فشل القادة”.
القوة تجلب الضعف
خلال الحرب الباردة، قلبت القوات الصينية معاطفها من الداخل إلى الخارج كي لا يتم رصدها في التلال الثلجية بالقرب من نهر يالو، وأطلق السوفيات حملات إشاعات تهدف إلى بث الشك. أما اليوم، وفق زيغارت، فإن جوهر الخداع تغير، وتبدو تلك الجهود السابقة أمام حروب المعلومات اليوم تافهة، في الوقت الذي رفعت فيه الدول المعادية والجماعات الإرهابية حجم التحدي، وباتت تخترق الآلات والعقول، وتدير حملات تضليل تصل إلى الملايين في ساعات، وتستخدم الذكاء الاصطناعي لإنشاء مقاطع فيديو وصور مزيفة قد يكون من المستحيل اكتشاف عدم أصالتها.
لذلك، تدعو زيغارت إلى التنبه إلى انتقال الحرب إلى الفضاء السيبراني في أشكال مختلفة، مشيرة إلى أن الخطر يكمن في أن الحكومات لا يمكنها حماية أنظمة الكمبيوتر أو الصناعات الحيوية التي تعتمد على نفسها لتأمين الحماية. وقالت إن “القوة تجلب الضعف”، في إشارة إلى أن أقوى الدول مثل الولايات المتحدة تعتمد على شبكات الكمبيوتر، في كل شيء، في اقتصادها وحكومتها ومجتمعها وجيشها، لذلك فإن أي شيء يعمل على رمز ومتصل بالإنترنت عرضة للهجوم الإلكتروني.
وتستشهد باحتجاجات شهدتها ولاية تكساس في عام 2016، حين وقفت على جانب من الشارع مجموعة تدعى “قلب تكساس” Heart of Texas ترتدي قمصاناً كتب عليها “حياة البيض مهمة” وترفع أعلام الكونفيدرالية وتدعو إلى وقف “أسلمة” الولاية، في حين وقفت على الجانب الآخر مجموعة تدعى “مسلمو أميركا المتحدة” United Muslims of America يلوحون بلافتات “لا للكراهية”.
تقول المؤلفة إن ما لم يعرفه أي من المتظاهرين هو أن المشهد بأكمله كان بتحريض من الكرملين ومجموعة تسمى وكالة أبحاث الإنترنت. وتضيف “داخل مكاتب لا توصف في سانت بطرسبورغ الروسية، تنكر مئات المتصيدين كأميركيين في نوبات عمل على مدى الساعة يغردون، ويبدون الإعجاب، ويرسلون طلبات الصداقة، ويشاركون باللغة الإنجليزية لجذب المتابعين الأميركيين”.
استخبارات مفتوحة المصدر
في الماضي، تفردت الحكومات بمزايا جمع المعلومات وتحليلها باستخدام الأقمار الاصطناعية وشبكات التجسس التي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، أما الآن وبفضل الإنترنت والذكاء الاصطناعي وثورة الأقمار الاصطناعية التجارية وغيرها من التقنيات الناشئة، أصبح التجسس وفق زيغارت، سلاحاً بيد الجميع، فالبيانات في كل مكان، ويمكن لأي شخص الوصول إليها. وتسمى هذه المعلومات المتاحة للجمهور “استخبارات مفتوحة المصدر”، وهي منجم ذهب يعيد تعريف طريقة رصد الأخطار العالمية والأطراف التي بوسعها القيام بذلك.
وتكمن أهمية هذا النوع من المعلومات، وفق الأستاذة في ستانفورد، في كون أكثر من نصف العالم متصل بالإنترنت. ويمكن لأي شخص لديه اتصال بالإنترنت اليوم الحصول على صور القمر الاصطناعي لبرنامج “غوغل إيرث” وتحديد الأشخاص باستخدام برنامج التعرف إلى الوجه وتتبع الأحداث على “تويتر”.
وتشير الكاتبة إلى أنه عندما غزت روسيا أوكرانيا في عام 2014، جاءت أفضل المعلومات الاستخباراتية من صور “السيلفي”، في إشارة إلى الصور التي التقطها جنود روس وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي. وتضيف “أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مهمة جداً لدرجة أن وحدات التحكم في مركز قيادة الأسلحة النووية تحت الأرض في أميركا تعرض تغريدات تويتر جنباً إلى جنب الملخصات الاستخباراتية السرية”.
وتحذر من مخاطر الاستخبارات المفتوحة المصدر كون الناشطين فيها معظمهم هواة ولا يمتلكون تصاريح أمنية، أو يعملون داخل وكالة تجسس حكومية، لكن بعض الأعمال التي يقومون بها، وفق زيغارت، لا تصدق، إذ إن منهم من توصل إلى العناصر الأساسية لبرنامجي إيران وكوريا الشمالية النوويين، واكتشف مئات الصوامع الجديدة التي بنتها الصين لصواريخها النووية. ويكمن خطر الاستخبارات المفتوحة المصدر في عدم وجود رقابة أو تدريب، إضافة إلى دورها المحتمل في تضليل مجتمع الاستخبارات الرسمي، فضلاً عن الشفافية التي تصطبغ بها نشاطاته ودورها في جعل إدارة الأزمات أكثر صعوبة. فعندما تكون المعلومات علنية، يتزايد الضغط على كل جانب، ويصبح التراجع أكثر صعوبة، والصراع محتملاً أكثر.
بين العراق وأفغانستان وأوكرانيا
بين النجاح الاستخباراتي في أوكرانيا والفشل الذريع في أفغانستان، تتدافع عشرات الأسئلة التي لا تدعي زيغارت أنها تملك إجابات قاطعة لها، لكنها تقول إن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً قبل أن نعرف لماذا كانت المعلومات الاستخباراتية عن الغزو الروسي أكثر دقة. وفيما تعتقد أن حرب العراق كانت نتيجة لفشل استخباراتي، فإنها تشير إلى أن سقوط كابول السريع بيد “طالبان” “فشل سياسي ذريع”.
وتحمل عضو مجلس الأمن القومي سابقاً، في حديث لـ”معهد هوفر”، إدارة بايدن مسؤولية فشل الانسحاب من أفغانستان، قائلةً “إذا ما ألقيت نظرة فاحصة على طرح وكالات الاستخبارات المختلفة (تكتشف) أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت دائماً أكثر تشاؤماً في شأن قدرة الحكومة في أفغانستان على الصمود مما كان عليه الجيش”.
وتضيف أن العمل الاستخباراتي الجيد يبدأ من الحصول على المعلومة الصحيحة، ومن ثم معرفة ما الذي تعنيه، إلا أنه في حالة العراق وأسلحة الدمار الشامل على سبيل المثال، لم يكن لدى الولايات المتحدة عناصر على الأرض بعد طرد مفتشي الأسلحة من العراق، ما أدى إلى “سلسلة من الأخطاء التحليلية”. لذلك، افترضت وكالات الاستخبارات خطأً بأن صدام حسين يفعل ما فعله سابقاً وسط غياب المعلومة الاستخباراتية، لافتة إلى أن الآراء المخالفة لتلك الفرضية لم تؤخذ على محمل الجد، إذ كانت هناك آراء معارضة لكنها دفنت.
وعن أسباب النجاح في أوكرانيا، والدقة الأميركية في تقييم نيات فلاديمير بوتين، والتوصل إلى توقيت بدء العملية العسكرية الروسية، مقارنة بأفغانستان. تقول زيغارت إن الأمر ربما يعتمد على امتلاك مواهب ووصول أفضل في ما يخص الملف الأوكراني. وتلفت إلى أن الجلي في شأن أوكرانيا هو أن واشنطن امتلكت معلومات استخباراتية دقيقة، وأجرت تحليلاً جيداً لها، والأهم هو أن إدارة بايدن استخدمت تلك المعلومات ورفعت السرية عنها سريعاً.