نقد ومقالات

“الخشبة المستحيلة” في سجن صيدنايا العسكري… مسرحية كُتبت على علب السجائر/ ليندا بلال

تقول الأسطورة إنه في ليلة قاضية من ليالي عام 356 للميلاد، أحرق تاجر من سكان إيفيس يدعى هيروسترات معبد أرتيميدا.

ثم أصدر حكام الدول الإغريقية القديمة أمراً يحرم ويمنع ذكر اسم الحارق، “انسوا هيروسترات”… هكذا أمر الجبابرة والطغاة “انسوا!”، “انسوا”! لكن هل تستطيع الأوامر السيطرة على الذاكرة؟

ظهيرة أحد أيام الصيف الطويلة نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، كافح معتقلون سوريون ملل سجن صيدنايا العسكري باسترجاع تفاصيل مسرحية “إنسوا هيروسترات” من الذاكرة.

كُتبت لوحات العمل على أوراق علب السجائر، قبل أن تتحول رويداً رويداً إلى حلم مسرحي فوق “خشبة مستحيلة”.

احتد النقاش: “كيف نصنع الأزياء؟”. يجيب المتحمسون: “هذه سهلة. لدينا الكثير من البطانيات والثياب البالية”. يردُ السائل بمزيد من الاستفهامات الغارقة بالتعجب: “وكيف نصنع المعبد والنار؟ كيف نصمم الصوت ونضيء المسرح؟”. ويرد الصوت: ” نعيد بناء المعبد من علب البيض الفارغة بعد عجنها مع بقايا النفايات”. تشتد الأصوات المتحمسة طارحة الحلول ومتأملة بأصوات مسموعة في مخارج مجنونة لفكرة بدت للوهلة الأولى مجرد حُلم يقظة صيفي لا أكثر ولا أقل.

ربيع عام 2020 يكتشف الباحث المتخصص في دراسة السجون “جابر بكر” ، وخلال عمله على كتابه “الغولاك السوري سجون الأسد 1970 – 2020″، يكتشف أسطورة المسرحية التي مُثلت في سجن صيدنايا العسكري نهاية ثمانينيات القرن الماضي.

ذاك العمل الفني الذي انطلق طاقمه برحلة عرض بين أجنحة السجن سراً.

العمل الذي صُممت ملابسه وديكوراته من بقايا حياة السجن الفقيرة.

 يروي “بكر ” لرصيف22 كيف تحولت المعلومات البحثية إلى مسلسل صوتي بعنوان الخشبة المستحيلة: “إن فكرة تحويل الأعمال الحقوقية إلى مواد فنية أو إبداعية تشغل تفكيري منذ زمن طويل، فالسجن مجموعة واسعة من الحكايات التي تستحق الوصول إلى جميع الناس. الطريقة المعتادة لتقديم السجن، بكونه مساحة للألم والعذاب والعنف، وهذا حقيقي، إلا أن السجن في نفس الوقت هو أعلى مستويات الشدة التي تحرر الصوت وتدفع الإنسان لبناء عالم من المعنى لهذه المعاناة. فتح فيكتور فرانكل في كتابه (البحث عن المعنى)، عيني بقوة على هذا المبدأ وبت أراقبه في تصرفات الناس داخل السجن، وحتى في الحياة اليومية، القدرة البشرية على بناء معنى للحياة مبهرة ومثيرة للاهتمام. من هنا بات العمل على (الخشبة المستحيلة) عملاً مستحقاً وواجباً، ووجدت الفرصة في العلاقة المباشرة مع منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية الذي مثل الجسد لعالم المعنى، من خلال مفهوم ربط الفن بحقوق الإنسان وبالعمل الأكاديمي”.

شارك “بكر” فكرة المسلسل المسموع – بودكاست – مع منسق المنتدى “مينا إبراهيم” الذي شرح لرصيف22 قليلاً عن فلسفة المنتدى وطريقة عمله: “هو مساحة تحاول الربط بين ثلاثة أشياء تتعلق بالشؤون السجنية، الأدب والفن، والبحث الأكاديمي، والنشاط الحقوقي. نحاول قياس كل جانب من هذه الجوانب، والربط بينها من خلال لغة رابعة جديدة، مثل قراءة عمل حقوقي بطريقة فنية، أو كيف نقدم عملاً أكاديمياً بطريقة لطيفة تصل جميع الناس، وذلك من خلال خلق لغة مشتركة جديدة”.

عقب هذا اللقاء بين المنتدى وبكر، بدأ الأخير في البحث عن المواد الأولية لرفد المسلسل بقسمه التوثيقي والمعرفي: “أجريت بعض الأبحاث المعمقة ووسعت الفكرة من خلال المقابلات مع معتقلين سابقين من نفس الفترة، ولكن دوري كان بناء الهيكل الذي شيدت عليه الكاتبة بشرى جود عالماً درامياً متكاملاً. بذلت لأجل إتمامه بأفضل صيغة جهداً كبيراً. أثثت الخشبة المستحيلة بشخوصها المميزة وعالمها الخاص، الخليط بين الكوميديا والتراجيديا بكل تفاصيل الحياة اليومية في السجن وما تحمل من مواقف وتجارب”.

حسب “إبراهيم” لم يقتصر اشتغال فلسفة منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية، على السجن السوري فقط، إنما شمل السجون المصرية، وسجون العالم العربي، يضيف: “إلا أن مسلسل الخشبة المستحيلة مثّل تجربة واقعية مكتملة، فكرة استثمار الفن بنقل تجربة السجن ولدت أساساً عام 2019 خلال لقاء عن السجون المصرية، حيث عملنا على فكرة تحويل تقرير حقوقي إلى أبيات شعر، وعمل أكاديمي إلى كوميكس، ولكنها كانت مجرد تجربة لفحص الربط بين نقاط العمل الثلاث الحقوقية والأكاديمية والفنية. مع جابر وفي مناقشات عام 2020 بدأنا فعلياً نفكر بشكل جدي في تحويل تقارير حقوقية لعمل فني. عندها ولدت فكرة المسلسل. لذا، الخشبة المستحيلة هي أول تجربة حقيقة لربط الأكاديمي بالحقوقي بالفني”.

“هيروسترات” في صيدنايا

الكتابة الدرامية التوثيقية عمل يحتاج الدقة في المعلومة والحفاظ على الخيال الدرامي فعالاً.

عامل الإمتاع حضر في مسلسل الخشبة جلياً مع نص “بشرى جود ” الكاتبة والسيناريست التي أخبرت رصيف22، بأن البداية كانت: “مع جابر الذي حاول كتابة نص مسرحي عن هذه التجربة في سجن صيدنايا. أرسل لي نص (انسوا هيروسترات)، الذي تحول إلى مسرحية في السجن. بالإضافة لكتاب (البحث عن المعنى) الذي تناول تجربة الاعتقال بشكل مدروس من ناحية التحليل النفسي، وتشريح أشكال المقاومة، والاستسلام، والسخرية، واليأس، والفرح. شهدتُ حياة كاملة داخل السجن، لأنتقل بعدها إلى دراسة شكل السجن، والعلاقة مع السجّان. كيف هي ردود أفعال المعتقلين حين يفقدون شخصاً منهم. تسمعون في المسلسل حكاية أحد الأشخاص الذي اعترض على صوت خطابات الرئيس وأرسله السجان الى الزنزانة المنفردة. تعرض لتعذيب شديد ثم توفي بعد ثلاثة شهور تقريباً. ساعدني جابر على تأسيس البنية وتصنيع أدوات المقاومة كما أسماها وحكى لي الكثير عن تحويل السجن لأكاديمية”.

غرقت جود بمزيد من البحث الذي نمّا لديها كما تقول: “إحساس بالعار من جهلي في هذه العوالم فقط لأننا لسنا معتقلين سابقين. النجاة، الاستمرار، المقاومة، عدم التخلي عن الذات، الجهد الجماعي في السجن، وتعلم مهارات جديدة. هذا ما وجدته أثناء البحث. كان العمل عبارة عن لوحات، مجموعة مسامع منتقاة تحكي عن هذه التجربة، ثم اتخذنا قراراً بعدم تغليب الدراما على الحكاية”.

خلطت جود كل ما سبق في محاولة واقعية: “دون مبالغات أو تصوير للمعتقلين بكونهم ضحايا يائسين”. ذلك الخليط الذي نقل حياة كاملة بكل تفاصيلها من كوميديا وسوريالية وضحك، إلى أن تصير مسلسلاً صوتياً ملتزماً بتقديم التجربة بأعلى مستويات الدقة، تقول: “كانت تجربة المسرح فريدة برمّتها وتحديداً مقهى كشيكش المسرحي الذي أسس في السجن خلال تلك الحقبة”.

عالم من الجنون

تستعرض “الخشبة المستحيلة” بيئة غريبة مغايرة لواقع السجن السوري اليوم، حيث يموت الناس تحت التعذيب بشكل دوري، في حين يسعى سجناء الخشبة المستحيلة إلى عالم مسرحي وأكاديمية تشمل العشرات من الاختصاصات والأعمال والمواهب، وهنا يسأل رصيف22 “بكر ” بكل صراحة عن دور عمل كهذا في تجميل السجن؟ فيجيب: “أحداث العمل تدور في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، تلك الفترة كانت فترة سلم ويسر داخل سجن صيدنايا. هذا لا يعني السلام المطلق، فالعنف يظهر بعدة مواضع من العمل، مثل عمليات التفتيش والرجل الذي يموت في المنفردة لرفضه سماع خطابات حافظ الأسد، إذاً هو عالم من التحدي والجنون في زمن مختلف”.

سجن صيدنايا

يطغى الجنون على حال السجن السوريالية في طرح شخصيات جنحت لحدود المبالغة كي تعيد فهم الواقع.  تشرح “جود”: “تعاملت مع ذاك الجنون بدهشة. فكرة المسرح ضمن السجن والمحاكاة مع (انسوا هيروسترات) تحتاج إلى الجنون الذي وصل حده حين بدأ السجناء بطلب عرض المسرحية في طوابق أخرى. نحن نتحدث عن سجن تمنع فيه كل سبل الحياة تقريباً. أي شي يتعلق بهذه التجربة هو جنون. كيف تتعامل كمسرحي مع الصوت والديكور والاضاءة؟ المسرحية قدمت بكافة مؤثراتها الأساسية تقريباً بحسب التوثيقات والشهادات”.

هل يضحك السجناء؟

يسرد بكر عن السجن الواقعي بعيداً عن نسج الأساطير حول المعتقلين وحياتهم داخل جدران السجن: “بالطبع الضحك أداة حادة من أدوات الصراع مع الجلاد والرعب الدائم والخوف من المجهول ولذا يشحذ المعتقلون هذا السلاح بعناية ويصرون على استخدامه في كل وقت، لقتل الخوف الذي ينمو سريعاً كالأعشاب الضارة بين جنبات قلوبهم وعقولهم التي إن لم تشغلها حياة المعنى قتلتها عقارب ساعة المعاناة البطيئة والثقيلة. الخشبة المستحيلة بداية أعتز بها لطريق طويل يقوم على مفهوم تحويل حقوق الإنسان والسجن بالذات إلى عالم مرئي ومسموع وحاضر بكل ما فيه بيننا لنفهم دور هذا الكائن الحي، أي السجن، في حياتنا اليومية، وأحلامنا، وأفكارنا، ومستقبلنا، وماضينا وحاضرنا. سبق أن عملت على إنتاج مسلسل الكاتبة الذي تناول تجربة محكمة كوبلنز في ألمانيا واليوم بصدد إنتاج الموسم الثاني من هذا العمل أيضاً، لإيصال صوت العدالة باللغة العربية”.

هل للسجن صوت؟

يحكي المخرج الفني للعمل نهاد قطان عن تجربته في صنع أصوات السجن: “كنت خائفاً قليلاً لأن التفاصيل كثيرة وأنا أنظر إليها كأصوات. قرأت الكثير عن سجن صيدنايا وسألت أصدقائي الذين مروا به. بدأت البحث عن أصوات السجن نفسه. لم أعتقل سابقاً وبالتالي سألت جابر عن صوت باب السجن والجو العام وطبقة صوت الكلام في السجن. بدأت أشاهد مسلسلات تتحدث عن السجن. جمعت المؤثرات بشكل شخصي، مثلاً صوت باب السجن ذهبت مع صديقي إلى منطقة مهجورة هنا في فرنسا لنبحث عن باب حديدي في منطقة فارغة لنجد مشفى قديم ومهجور. سجلنا صوت الضرب على الأبواب في مشهد الاستعصاء أثناء “انتفاضة اللبن”، وجربت ضرب الباب بعصا من الخشب وأخرى بلاستيك كي أحصل على الأصوات المطلوبة. كسرت مجموعة أخشاب في الغابة كي أحصل على مؤثرات مشهد تكسير آلة العود في السجن. سجلت قوائم طويلة للمؤثرات المطلوبة للمسامع، باختصار كانت رحلة ممتعة جداً”.

يتابع قطان: “قضيت شهوراً ثلاثة في العمل، عشت ليالي طوالاً وأنا أحلم بالمسلسل وشخصياته. بالإضافة لمشاركتي في شخصية سعيد المركبة جداً في المسلسل. أتمنى لو بالإمكان تطوير هذه التجارب لنقل حقيقة الحياة داخل سجون النظام”.

خرج السوريون من سجنهم ليحملوه معهم في رحلة إعادة بنائه بكل أشكاله وصوره وأصواته. ربما تكون تجربة الخشبة المستحيلة طريقة لإعلان القوة الذاتية للسوريين في أحلك الظروف والمصائب، يوم كانوا في قلب الحوت وقرروا بناء عالمهم الخاص العامر بالمعنى والقدرة على الحياة.

رصيف 22

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button