المكتبة ذاكرة بلد ومنزل/ بشير البكر
قال الخطيب الروماني شيشرون: “إذا كانت لديك حديقة ومكتبة، فلديك كل ما تحتاجه”. كان يمكن لهذه المقولة التي أطلقها فيلسوف عصره قبل أكثر من ألفي عام، أن تعمر أكثر لولا أن أحد ركنيها صار فوق طاقة البشر. فالحديقة، ويقصد بها البستان، باتت اليوم ترفاً، لا تحظى به إلا قلة من الناس، بينما تعتمد الغالبية على الأسواق في الفاكهة والخضار وبقية المواد الغذائية، إلا أن المكتبة بقيت تشكل للبشر مكاناً مثل “بيت المونة”، الذي لا غنى عنه لأفراد العائلة.
ولا شك أن اقتناء الكتب يرتبط بمستويات الدخل، ويختلف من مكان إلى آخر، غير أنه من النادر أن نجد منزلاً بلا كتب. وصارت المكتبة داخل البيت من الضروريات التي لا غنى عنها، وهناك منازل تحتوي على مكتبات عامرة بالكتب لا يقربها أحد من أفراد العائلة، وهي موجودة على سبيل الزينة. وثمة من يرى في ذلك انتقاصاً من قيمة الكتاب، بينما وجود الكتاب في البيت له معنى رمزي ولو على سبيل الزينة.
وحتى فترة قريبة من الزمن، لم تكن هناك مكتبات خاصة على نطاق واسع بسبب عدم انتشار الكتاب وغلاء الأسعار، إلا أنه منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي شاعت المكاتب الخاصة في بيوت المثقفين والسياسيين والفنانين وحتى العسكر والتجار، بعدما كانت تقتصر على بيوت شخصيات ذات اختصاص مثل المحامين والأساتذة. ولم تتأثر المكتبات العامة بظهور وانتشار المكتبات الخاصة، بل تعايشتا معاً، وبقيتا تتطوران حسب قوانين الأزمنة، وصارت المكتبة الخاصة ذاكرة للبيت، بينما تحولت المكتبة العامة إلى ذاكرة للبلد ومرجعاً، يرتادها الناس كي يبحثوا عن كل ما لم يجدوه في مكتباتهم الخاصة. وحتى وقت قريب كانت المكتبات العامة هي التي توجه الميول الثقافية للمهتمين، في ظل ارتفاع أسعار الكتب والصحف وعدم وجود الأنترنت، وكان أمين المكتبة يلعب دوراً أساسياً في الترويج لكتب معينة.
الشاعر الارجنتيني، خورخي لويس بورخيس، أعطى للمكتبة مرتبة الفردوس، وقال في أحد أحاديثه “تخيلت، دائماً، أن الجنة ستكون نوعًا من المكتبة”. وهو لا يفصل هنا بين المكتبة الشخصية والمكتبة العامة، أو بين الحديثة منها والقديمة، وتشترك معه في ذلك غالبية المتعاملين باحترام مع القراءة والكتابة. وهذا الرأي يأتي قبل كل شيء من قارئ استثنائي يوصف بأنه “دودة كتب”، ومن ثم مدير مكتبة العاصمة الارجنتينية بوينس إيرس، وأخيراً من شخص تغيرت علاقته بالكتابة والكتاب بعد سن الخمسين، حينما اشتد عليه المرض وأصبح عديم البصر. وفي الأحوال كافة هي نظرة تعلي من شأن المكان الذي قال عنه أينشتاين: “الشيء الوحيد الذي يجب أن تعرفه تمامًا هو موقع المكتبة”.
المكتبة هي المكان الذي يلتقي فيه الحاضر والماضي والمستقبل، والمكان الذي يسمح للأطفال بطرح الأسئلة حول العالم، والحصول على الأجوبة. وتقول كاتبة قصص الأطفال، جودي بلوم: “ينقذ أمناء المكتبات الأرواح من خلال تسليم الكتاب المناسب، في الوقت المناسب، لطفل محتاج”.
لكل منا مكتبة خاصة داخل المكتبة، ويفترق الذين ينشدون العلوم عمّن تستهويهم الآداب، وبقدر ما تختلف أو تلتقي مواقف القرّاء والكتّاب من المكتبة، ينطبق الأمر على الشعوب والدول. فحين يتحدث الأميركيون والبريطانيون عن الكتاب، فإنهم يعتبرونه سلاحاً لا يقدر بثمن ويركزون على البُعد التعليمي، لذلك يذهب الكثير من التبرعات إلى الكتب التعليمية، بينما ينظر الفرنسيون والإيطاليون إلى قيمته الروحية والفكرية، ويتجه الألمان نحو العلوم. وتشكل هذه النظرات المختلفة لمعايير صناعة الكتاب والنشر.
تبقى المكتبة أساسية في حياة كل شخص، لكن زوايا النظر تبقى مختلفة، ومن بين الآراء ما جاء على لسان الروائي وصانع الأفلام الأميركي نورمان ميلر: “في أيامي، كانت المكتبة مكانًا رائعًا. لم تكن لدينا مساعدات بصرية ولم تكن لدينا برامج مختلفة، لقد كانت ملاذًا، لذلك أميل إلى الاعتقاد بأن المكتبة يجب أن تظل مركزًا للمعرفة”. أما المُدافع عن الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، مالكولم إكس، فيقول: “كانت مدرستي عبارة عن كتب ومكتبة جيدة. يمكنني قضاء بقية حياتي في القراءة، فقط لإرضاء فضولي”. وتعترف الممثلة ميشيل رودريغيز: “في الأساس كنت متمردة. تم طردي من ست مدارس. لكنني لا أعتقد أن هذا يجعلك أقل ذكاءً. كما تعلم، إذا كنت تتوق إلى المعرفة، فهناك دائمًا مكتبة”. بينما يرى لاعب كرة السلة الشهير، كريم عبد الجبار: “لست مرتاحًا لكوني واعظًا، لكن المزيد من الناس يحتاجون إلى قضاء الكثير من الوقت في المكتبة كما يفعلون في ملعب كرة السلة”.
ويقول نجيب محفوظ لرجاء النقاش في كتاب “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ”: “كنت سعيدًا بالعمل في المكتبة، فمن يعمل فيها لا يتذكره أحد بعدها، وتكون بذلك فرصة لي لكي أعمل وسط الكتب، مثل مدير المكتبة حسن السندوبي الذي لم يكن يفعل شيئًا سوى القراءة والتأليف، وأظنه أصدر شرحًا وتحقيقًا لديوان المتنبي”. لم يمض وقت طويل على هذه “النعمة” حتى أعاده مدير الشؤون الدينية الشيخ سيد زهران، مديرًا لمكتبه، وقال له: “نحن الوفديين لا نضطهد الآخرين”، ورد محفوظ: “إذا كان العمل في المكتبة ظلمًا، فليحيا الظلم”.
على عتبة القرن الحادي والعشرين، كان على جميع المؤسسات الثقافية، بما في ذلك المكتبات، مواجهة تحديات عصر الكومبيوتر. اذ بات الكمبيوتر والإنترنت من أهم المصادر لمعلومات القارئ الحديث، ويتحدث المشككون عن غروب عصر المكتبات، لكن قراءة الكتب واستعارتها لا تزال تشكل الجزء الأكبر من أنشطة أي مكتبة. ومن يدخل مكتبة معروفة في أي بلد سيجدها عامرة بالزوار، من قراء ومستعيري كتب، ومما لا شك فيه هو تنامي دور وفائدة المكتبة. والوظيفة التي لا يمكن اسقاطها من الحساب وشطبها من السلم الوظيفي، هي أمين المكتبة الذي يمارس دوره حتى اليوم. ومهما تقدمت التكنولوجيا، من المهم جدًا توفير مكان للالتقاء، ومساحة للتواصل. هذا مهم للغاية لأن كل شيء يتسارع والوسائل التقنية تدخل في عملية القراءة وانتشار الكتاب بشكل ملموس للغاية. وحتى مكتبة البلدية في مدينة بعيدة، تقدم لقرائها وزوارها فائدة، وحتى لأولئك الذين يخطئون في اعتقادهم بأنهم لم يعودوا بحاجة إليها وسيجدون كل شيء في الإنترنت.
مجموعة واسعة من المؤتمرات، لقاءات مع قراء ومؤلفين. هذه الأشياء كلها تشكل الآن مكتبة، وتصبح جزءًا لا يتجزأ من عمل أمين المكتبة.
وفي تصنيف أجمل 15 مكتبة في العالم، هناك مكتبة عربية واحدة هي المكتبة الوطنية في قطر، وجاء في تقديمها أنها من تصميم شركة الهندسة المعمارية الهولندية OMA، وهي مساحة مبهجة للغاية من الناحية الجمالية، مع شكل خارجي فريد من نوعه وتصميم داخلي واسع. مع التركيز في التصميم على الضوء والرؤية، وتمتد رفةف الكتب هنا عبر الشرفات في طرفي المكتبة الكبيرة، بينما توجد كتل رخامية باللون الفاتح تحتضن الأرشيف التراثي ومجموعات مهمة على عمق 6 أمتار في وسط المبنى عن الحضارة العربية الإسلامية.
ومن المكتبات الـ15 الأجمل في العالم، هناك ثلاث في الولايات المتحدة (نيويورك، سياتل، واشنطن)، وتتوزع البقية بين النمسا، البرتغال، ألمانيا، البرازيل، تشيكيا، الصين، إيرلندا (دبلن)، سويسرا، المكسيك (مكسيكو) كوريا الجنوبية، وفنلندا. المدن