“تباً لك” نيتفليكس… هل نضيع في الترجمة؟/ عمار المأمون
نتأفف (أو نشعر بالإحباط حد التجاهل) حين نشاهد مُنتجاً تلفزيونياً أو سينمائياً “أجنبياً” مُترجماً، والسبب عادةً عدم دقة الترجمة، سواء كان الفيلم/ المسلسل يبثّ عبر القنوات الفضائية المُقنّنة، أو عبر المنصات التي تقرصن هذه المنتجات، تلك التي نظرياً، لا سلطة فيها على المترجم سوى أخلاقه واحترافه. فمن يتقن، أو يجيد، أو حتى يمتلك معرفة متواضعة باللغتين المنطوقة والمترجمة، يجد نفسه في لعبة مقارنة طفولية، بين ما يُنطق، أي ما يسمعه، وبين ما يراه، أي ما يقرأه أسفل الشاشة، إلى أن يستسلم كلياً إما لما يسمع أو ما يقرأ، حسب درجة إتقانه لإحدى اللغتين، وقدرته على تجاهل الترجمة أو ما تنطقه الشخصيات.
التأفف والإحباط السابقين سببه التالي، مثلاً، مصطلح كـ Fuck you، يترجم أسفل الشاشة بـ”تباً لك” لا “بدي نيكك “، وكلمة كـ Bitch أوFaggot ، لا تترجم كـ”شرموطة، شلكة…” أو ” منيك” بل “عاهرة” و”لوطي”، فما يحصل أننا نسمع كلمات بذيئة تكشف عن طبيعة الشخصيات وجزء من أسلوب تقديمها المتخيل، لكننا لا نقرأ ذات الكلمات باللغة العربيّة، بعضنا يعرف معانيها، والبعض الآخر لا يعرف، ما يعني، إن اعتمدنا الترجمة العربيّة، أن كل الشخصيات تشتم بذات الأسلوب.
حين شُتمت “العدالة” بكل وضوح
نعلم أن هناك قوانين شديد المحافظة في التلفزيونات الرسمية العربيّة، تلك التي تعتبر التلفاز جزءاً من الأسرة، ومساهم في تربيتها، ما يجعل السوق “محافظاً” ولابد من تلبية رغباته ومخاطبته وغيرها من سياسات التسويق، بالتالي لابد أن تحوي الترجمة مقداراً محدداً من “الأخلاق اللبقة” حتى لو كانت تتناقض مع ما نراه ونسمعه، ينسحب الأمر الترجمات المرافقة للأفلام “المقرصنة”، تلك التي لا نستطيع تفهّم نزعتها المحافظة، فهل السبب قناعات المترجم نفسه (المحتوى العربي مليء بالـMems التي يظهر فيها كيف ينبهنا المترجم عن وجود مشهد إباحي قادم)، أو رغبته بأن يحافظ على العُرف السائد في التلفاز، في ذات الوقت الذي تتكفل فيه السينما المستقلة في العالم العربي باستعراض بسيط للسباب البذيء.
مع ذلك، لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظة التي كنا نشاهد فيها “لعبة العروش” مع أصدقاء، كنا نستخدم منصة تقرصن المسلسل، لا أذكر أي حلقة بالضبط، لكننا اشتعلنا فرحاً حين قرأنا في الترجمة: “كس أم العدالة إذا سنحصل لك على الانتقام”، الشتيمة مُترجمة، وواضحة، وهذا ما لفت نظرنا إليها، أي شكلها مكتوبة بالعربيّة، إذ شغلتنا عن المسلسل، وبدأنا نتأمل بها، نحن أمام كلمة بذيئة تظهر لأول مرة، إلى حد، أني لا أذكر الآن في أي حلقة هي أو أي موسم.
رقابة “نيتفليكس” المُريبة
لكن، لماذا هذا الموضوع الآن؟ خصوصاً أنه مُستنزف حين التفكير به في السياق العربي؟ بصورة أدق، الحديث عنه وكشف المغالطات والعيوب، وما دخل نيتفلكس؟
السبب باختصار أن منصة نيتفليكس مدفوعة، أي لا رقابة عليها (هناك رقابة بخصوص قضايا مختلفة عن الشتم)، وتقدم نفسها كمنصة متحررة، ومساحة لظهور الاختلاف الهوياتي، ومؤخراً تحولت إلى حضن للكوميديا والستاند-آب كوميدي، ولا تحوي سقف فيما يخص نطق الشتائم أو النكات البذيئة، أي هي المساحة التي تفترض أن حرية التعبير مضمونة للأقصى، بل وتسخر من نفسها، كما شاهدنا في المسلسل الذي يلعب بطولته مايك مايرز، The Pentaverate، الذي يشير إلى سخف مفهوم الرقابة، وكيف يمكن التلاعب بها ومعها فيما يخص الشتائم بالذات.
ظهر الأمر أيضاً في عرض الكوميديا الخاص بريكي جيرفيز “الطبيعة الخارقة”، الذي استخدم فيه نسيجاً متنوعاً من الشتائم والبذاءات والنكات، ساخراً في العديد من الأحيان أن ما يقوله لن يظهر في النهاية ضمن الحلقة التي ستبث على نيفتليكس.
الملفت، أن العرض الكوميدي الخاص بجارفيس، ودون أي استطلاع رسمي، نال الكثير من الإعجاب بين الناطقين بالعربية الذين لا أعلم مدى إتقانهم للإنكليزية، وتم التعليق عليه مراراً، بوصفه ينتهك كل المقدسات، ويضرب الصوابية السياسية بعرض الحائط وكل هذا، لكن، لنفترض أن أحداً ما، لا يجيد الإنكليزيّة، أو أصماً، يقرأ العربيّة فقط، بالنسبة له ما سيقرأه مختلف عما يُقال، مثلاً جملة “فنك كريح أطلقت في جنازة طفل” بليغة ومفرطة في (نظافتها) ولا تشير للمفارقة والإحراج المرتبطين بكلمة “ضرطة” المعادلة لـ Fart بالعربية، ذات الأمر مع كلمة قضيب سواء في نكتة أو خارجها، وفي عرض جارفيز أو غيره، فهي المستخدمة دوماً (في كل الترجمات العربيّة)، عوضاً عن أير، زب، زبور، وغيرها.
لا نحاول مهاجمة من ترجم عرض جارفيز (الاسم مغفل على كل حال)، فالحالة يمكن تعميمها على كل ما تبثه نيتفلكس، أي يمكن القول، مشاهدة نتفليكس لمن يجيد العربية فقط، لا تختلف عن ذاك الذي يشاهد التلفاز العادي في العالم العربي، صحيح أن هناك عرياً أكثر وتنوعاً أكثر، لكن حين نقرأ الترجمة، هناك محافظة غريبة عن نيتفليكس نفسها، محافظة تسائلها المنصة نفسها وتقف ضدها في بعض الأحيان، مُبيحة بسبب هذا الموقف استخدام كل الكلمات، خصوصاً الشتائم، وبالأخص ضمن الكوميديا، وهنا الملفت، لم لا تظهر هذه السياسة المُتحررة حين “نقرأ” الترجمة.
نطرح هذه التساؤلات والملاحظات، كون نتفليكس نفسها تتبنى عدم التشفير والتحرر من التقنين والرقابة على الكلام، لهذا اخترنا مثالاً عرض كوميدي، الأشد قدرة على كشف سياسات نيتفليكس، وموقفها مما يُقال ويبث، لكن يبدو أن ما هو مكتوب بالعربيّة لا تنطبق عليها ذات السياسات، إذ يتضح مثلاً اختلاف المترجمين من طريقة الكتابة نفسها، في عرض جارفيز، التنوين على الطريقة المصريّة (أو هكذا يقال)، أي يوضع التنوين على الحرف الأخير قبل ألف التنوين، في مُنتجات أخرى، بالشكل الآخر، التنوين على الحرف، وأحياناً يذكر اسم المترجم وأحياناً يُغفَل.
من يقرر الكلمات التي نقرأها أسفل الشاشة؟
أركز هنا على لفظ “مُنتج” حين الحديث عن فيلم أو مسلسل، كوننا نتعامل مع منتجات تحمل رسالة سياسية وثقافيّة وذات أهداف تتغير ، بالتالي، ما هي القيم التي تحاول نيتفليكس، ولو عبر الترجمة، زرعها أو الترويج لها في العالم العربي أو لقارئ العربيّة؟ أم الأمر مجرد علاقات إنتاج وأموال لدعم الإنتاج المحلي عبر بثه على شبكة عالميّة؟
كل هذه الأسئلة لا نمتلك المساحة أو القدرة على الإجابة عليها، بالتالي السؤال بكل سذاجة، هل هناك قرار (داخلي) فيما يخص الترجمة إلى العربية في نيتفليكس، أم الأمر يعود إلى كل مترجم و”أخلاقه” وخياراته الشخصية؟
للإجابة عن هذا السؤال، تواصلنا مع مترجم/ـة، (ت)عمل/ت لصالح نيتفليكس، وترجم/ت العديد من الأفلام والمسلسلات، وكان هذا الحوار القصير، بالطبع أخفينا اسم المترجم/ـة، حرصاً على ألا نسبب ضرراً لأحد . أفرّغ الحوار هنا وأعلق عليه جاعلاً كلامه/ها بالعريض، وكلامي كباقي النص، وحافظت على بذاءة أسئلتي، استفزازاً ومحاولة للفهم وخلق الإحراج، والأهم، تم التلاعب بأماكن التنوين في الجمل لتمكين اللبس.
لم تـ/يجب المترجم/ة مباشرة عن سؤالي الأول، بل بدأ/ت التقديم التالي: “بدايةً أرى من الأجدر أن أبدأ بالحديث عن السياسات التحريرية الموضوعة من قبل شبكات التلفزة الكبرى التي يمكننا القول إنها نصّت منذ عقود سياسات تحريرية للترجمة تناسب المُشاهد العربي “دينيًا واجتماعيًا وحتى سياسياً”، فلكل محطة مجموعة من الكلمات التي يُمنع قولها أو حتى الإشارة إليها (الجنس والميول الجنسية، الأعضاء التناسلية، اللعن والشتم، استخدام كلمة الله أو الرب في أي موضع غير الحمد والتبجيل، وفي بعض الأحيان ذكر الأديان الأخرى)، ولكل كلمة ممنوعة هناك بديل أو تورية حتى وإن عنى ذلك شرخًا هائلاً بين المقروء والمرئي، وهنا أيضاً يجب ألّا ننسى تقنية المونتاج التي تعتمدها هذه المحطات لحذف وتعديل المشاهد”.
انتقل/ـت المترجم/ـة للإجابة عن السؤال الذي طرحته عليهـ/ها أولاً بخصوص وجود سياسية تحريرية لنيتفليكس أو عودة الأمر للمترجم نفسه، فكان الجواب: “بالنسبة للسياسة التحريرية لنتفليكس فهي قائمة على احترام الآخر والاعتراف به، وعلى شفافية الترجمة لا حرفيتها، وهنا يمكنني إجابتك على سؤالك عن ترجمة الشتائم، مثل كلمة Fuck you التي لا تعني بالضرورة “أيري فيك”، بل واعتماد “إيري فيك” لترجمة fuck you يُعتبر ترجمة حرفية واستخدامًا للّغة الدارجة في سياق فصيح. وكذلك كلمة “bitch” وترجمتها إلى “شرموطة أو شلكة”، مع العلم أن كل الكلمات التي ذكرناها فصيحة “أير، شرموطة” إلا أنها من الكلمات المحظور استخدامها لأسباب اجتماعية ودينية (سواء في الدراما المُنتجة محليًا أو في ترجمة ودبلجة الدراما العالمية) والسائد في ترجمة نتفلكيس هي كلمات مثل “قضيب، مومس، عاهرة، مهبل، مؤخرة، عانة، مضاجعة” وهذه الكلمات بالنظر إلى ما ذكرته سابقًا عن السياسات التحريرية في العقود السابقة وقبل وجود المنصات المدفوعة تُعتبر في الواقع تحررًا وانفتاحاً في المادة المقروءة للمُشاهد العربي الذي لا تزال شريحة هائلة منه تُفضل مشاهدة أعمال نتفلكيس بترجمة ومونتاج أكثر تحفظًا لتتناسب مع مبادئه أو معتقداته”.
سألت المترجم/ة عن المحظورات في الترجمة العربيّة، وإن كان هناك قائمة بها، فكان الجواب أن: “الممنوعات في نتفليكس هي كل مصطلح يُهين فرداً أو جماعةً أو عرقاً خارج الإطار الدرامي أو الكوميدي المعروض، نحن مثلًا لا نستخدم كلمات ونعوت مثل “لوطي، شاذ، أسود، زنجي، سحاقية، معاق، أعمى” ونستعيض عنها بـ”مثلي، مثلية، داكن البشرة، ذوي الاحتياجات الخاصة، كفيف، أصم”. كما لا تتدخل نتفليكس في لغة المترجم طالما أنها لغة صحيحة وتستوفي المعنى، ما أقصده هنا أن الخيار في ترجمة الشتائم إلى كلمة محددة بغض النظر عن سياقها الدرامي أو تورية مواضيع معينة هو خيار عائد إلى المترجم طالما أنه لا يُوجه إهانة لأحد ويستوفي المعنى المُراد إيصاله”. (لم أقتنع هنا بهذه الإجابة، هناك سياقات تحضر فيها هذه الكلمات بصورة درامية وما تحويه من إهانة هو جزء من هذه الدرامية ما يجعل استخدام الشتيمة ذا هدف محدد).
أضاف/ت المترجم/ـة نهاية رأيًا شخصياً، وكان التالي : “في العمل مع نتفليكس أرى أن جودة الترجمة تقع على عاتق المترجم بالدرجة الأولى وعلى حرفيته وفهمه لمسؤوليته في نقل وترجمة السياق الدرامي بكافة تفاصيله، وأن الاختلاف الذي نراه أحيانًا بين المقروء والمرئي يعود إلى خيار المترجم في أن يكون محدودًا بالسائد والمقبول اجتماعيًا أو ما يُسمى بالـ”safe side”. هذا النوع من المترجمين الكسولين برأيي هو من يحرم المُشاهدين الذي لا يجيدون اللغة المنطوقة من الانفتاح أو التوجه السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تتبناه المنصة، فنتفليكس تتيح للمترجم كما ذكرت سابقًا التعبير بكل ما للّغة من قدرة على الترجمة والنقل والتورية (لا أقصد بذلك المحاظير التي ذكرناها سابقًا) والخيار اللغوي يعود للمترجم طالما أنه خيار يستوفي المعنى”.
رصيف 22