ملاحظات حول مهنة قراءة الكتب وأسئلة الصحافة الثقافية/ تغريد عبد العال
حين تكون الثقافة مجالًا حيويًا لاختبار فلسفتنا في الحياة واختيارنا للكثير من الأشياء ونظرتنا العميقة لها، لا بد أن نضع يدنا على أكثر المواضيع حساسية في عالمنا اليوم، فهناك أسئلة كثيرة حول الصحافة الثقافية في عالمنا اليوم، في زمن أصبح الكتاب يتنقل بين أيدي النقاد للكتابة عنه أو قراءته بطريقة أخرى، هل هناك أسلوب ما لاختيار هذه الكتب؟ وكيف يتم الكتابة عنها والترويج لها؟ وهل نوجه فعلا نقدا للكتاب أم هي مجرد قراءة وعرض له؟ ما هي أزمة الثقافة في عالمنا اليوم؟ أسئلة ربما يحاول الإجابة عنها أحد أهم النقاد في فرنسا، برنار بيفو، في كتابه “مهنة القراءة”.
اشتغل الناقد برنار بيفو لمدة خمسة عشر عامًا في مجال الصحافة الثقافية الفرنسية، كانت هذه الأعوام حصيلة تجربة لصحافي وناقد ومعد برامج فرنسي مهم. وجمعت برنار بيفو والأكاديمي والمؤرخ بيير نورا صداقة ثقافية نتجت عنها مراسلات بين الكاتبين الفرنسيين، ونتج عنها كتاب سماه برنار بيفو: “مهنة القراءة”، والذي نقله إلى العربية سعيد بو كرامي وصدر عن منشورات تكوين 2020. كان برنامج أبوستروف، الذي كان يقدمه برنار بيفو لمدة خمسة عشر عاما، أشهر برنامج في فرنسا، وعبرت شعبيته الحدود، وقد استضاف فيه معظم الكتاب والشعراء الفرنسيين والأجانب، منهم باتريك موديانو، ومارغريت دوراس، وبوكوفسكي، ولوكليزيو، وسولجنتسين وغيرهم، ويعتبر من أشهر البرامج الأدبية في العالم. استطاع هذا الرجل أن يثبت أن برنامجًا ثقافيًا عن الكتب يمكن أن يكون شعبيًا. إنه اليوم في السادسة والثمانين، ترك البرامج ولمعان الشاشة، وتخفف من الأعباء، ويعكف منذ سنوات على كتابة الرواية.
“لا يعتبر برنار بيفو نفسه ناقدًا بل مروجًا للكتب، وفي جواب على سؤال بيير نورا يقول بيفو: “الناقد الأدبي هو ذاكرة للكتاب بالإضافة إلى تمتعه بثقافة شاملة وروح استكشافية وقوة تحليلية قوية، بالإضافة إلى مواهب حقيقية ككاتب، ولأني بعيد كل البعد عن أن أجمع كل هذا، لم أكن لأوافق مطلقًا على كتابة مقال نقدي يومي””
لا يعتبر برنار بيفو نفسه ناقدًا بل مروجًا للكتب، وفي جواب على سؤال بيير نورا يقول بيفو متواضعًا: “الناقد الأدبي هو ذاكرة كبيرة للكتاب بالإضافة إلى تمتعه بثقافة شاملة وروح استكشافية وقوة تحليلية قوية، بالإضافة إلى مواهب حقيقية ككاتب، ولأني بعيد كل البعد عن أن أجمع كل هذا، لم أكن لأوافق مطلقًا على كتابة مقال نقدي يومي”. ويستخدم بيفو تعبير بيير نورا “مترجم الفضول العام” تعريفًا لمهنة الصحافي، لأن الأسئلة الصحيحة التي يستخدمها الصحافي، هي التي تعطي القراء أو المستمعين الانطباع الحيوي بأنهم أيضًا كانوا سيطرحون الأسئلة نفسها، فهو ينطلق في كل برنامج من أن الجمهور لا يعرف أي شيء عن ضيوفه.
لكنه يعتبر علاقته بالكتب صارمة جدًا، فبالنسبة له قراءة كتاب والحديث عنه مهمة ليست سهلة، فيخصص ساعات من يومه للقراءة وكتابة الملاحظات على الكتب. ويقول عن ذلك “عندما تكون القراءة مهنة، فهي تتطلب عينين متاحتين بسخاء، وذهنًا كذلك، وأن تحترم المؤلف سواء كان مشهورًا أم لا، أو كنت معجبًا به أم لا”.
وأما عن طريقة الاختيار وما إذا كانت هناك لجنة لقراءة هذه الكتب، يجيب بيفو أنه كان هناك من يساعده لكنه فيما بعد قرر إلزام نفسه بقراءة المزيد وأحيانًا أكثر مما ينبغي وأحيانًا يأخذ بآراء لجنة خفية، لكنه في النهاية يختار ما هو متناسب مع ذائقته ولكن كانت هناك معايير توجه اختياراته، منها تنوع الموضوعات وطبيعة الكتب المختارة، فهناك كتب سهلة وأخرى نخبوية، وأن يكون هناك توازن بين المؤلفين المبتدئين والمشاهير، لكن هذه المعايير أتت عبر التجربة وعبر الاقتداء بخطوات عملية كثيرة. يشرح بيفو هذه الخطوات التي تعلمها أيضًا من الصحافة المكتوبة وهي الحصول على المعلومات من الناشرين والاتصالات بهم، وقراءة مسودات الكتب وقراءة الكتب بعمق في بيته.
ويذكر بيفو أن هناك نوعين من الكتاب الجيدين، الأول يفضل الصمت وأن يترك لعمله أن يتحدث عنه، والثاني يفضل الحديث عن عملية الكتابة. ولكن المقابلة بالنسبة له هي “جزء من لعبة اجتماعية لا يمكن التواري عنها، أو لنطرح الأمر بجدية أكبر، هي تضامن بين العمل الفكري والكتاب والإعلام من جهة”. ويقول في معرض حديثه عن استضافة الكتاب “لا نطلب من المبدع أن يصدر حكمًا على الكتاب، نطلب منه المفاتيح لشرح طقوس تكوينه”.
وعن الطابع الفرنسي لأبوستروف، يسأل بيير نورا بيفو لماذا لم يستضف عددًا كبيرًا من الكتاب الأجانب؟ أجاب بيفو أنه لا يمكن للصحافي المستقصي مثله إلا أن يستخلص معلومات بوفرة من الكتاب الفرنسي الأقرب إليه، ودعوة من هم في متناول يديه من المؤلفين الذين يتحدثون الفرنسية، ويذكر سؤالًا لصحافي برتغالي يعاتبه لأنه لم يستضف كاتبًا برتغاليًا رغم وجود المثيرين ممن يتحدثون الفرنسية، فيجيبه بيفو أن قدميه لم تطأ البرتغال ولا يعرف هذا البلد جيدًا ولا تربطه به صلات سياحية. أما عن النقد اللاذع للمؤلف، فيسأله نورا، لماذا تحضر مؤلفًا إذا كنت ستقضي عليه؟ فيكون جواب بيفو “يصبح مؤلمًا في النهاية أن مسيرة كتاب تتوقف بسبب إحدى ملاحظاتي… كنت أول من ندم على هذا الفائض في السلطة الذي منعني أحيانًا من أن أكون حرًا طليقًا”.
وفي ذكرياته مع الكتب، يقول برنار بيفو إن الكتب تمتلك مزاجية ما، فهي رغم ذلك تزدري اليد التي تمتد إليها لتزعجها وحينما تكون الكتب في مزاج سيء، تغدو صحبتها هدرًا للوقت، وعندما تكون الكتب رائعة، فإنها تفوز بسهولة بلقب أفضل صديق للإنسان أمام أي مخلوق آخر. فيسأل بيفو نفسه: فهل يتأثر سلوك الكتب بمحتواها؟ يجيب بيفو: لا، لا يوجد كتاب عن الانتحار ألفيناه وقد انتحر، أو كتاب عن الطيور يطير بعيدًا. الكتب ترفض أي التزام وتعلن أنها بريئة مما أجبرت على قوله. ويقص بيفو حكايات أخرى في فصل ذكريات أبوستروف وذكريات حساء الثقافة مع كتاب كثيرين منهم: موديانو وبوكوفسكي الذي غادر البرنامج بسبب أنه كان سكيرًا، وناباكوف الذي كانت قصته مثيرة جدًا، فقد خدع الجمهور بأن يجيب على أسئلته شفويًا بينما كان يخفي الأجوبة المعدة سلفًا. كان بيفو يسأله: المزيد من الشاي سيد ناباكوف؟ ذلك أنه اشترط أن يشرب أثناء المحاورة من ويسكي أخفي له في إبريق شاي.
“ربما حاول بيفو الإجابة عن الكثير من الأسئلة في هذه السيرة المكتوبة على شكل حوار، لكن المثير هو كيف يمكن لبرنامج ثقافي أن يكون مؤثرًا حقيقيًا في حياة القراء والتأثير في خياراتهم بالنسبة للكتب”
ربما حاول بيفو الإجابة عن الكثير من الأسئلة في هذه السيرة المكتوبة على شكل حوار، لكن المثير هو كيف يمكن لبرنامج ثقافي أن يكون مؤثرًا حقيقيًا في حياة القراء والتأثير في خياراتهم بالنسبة للكتب. وهو الذي يجعلنا فعلًا نهتم بسيرة هذا الكاتب والصحافي والناقد الذي اختار فيما بعد الهرب إلى الفن والمسرح والسينما عبر برنامجه حساء الثقافة، ولكن الكتب ظلت حاضرة أيضًا في هذا البرنامج.
وهنا أذكر ما قاله الناقد الإنكليزي تيري إيغلتون، في كتابه “فكرة الثقافة” الذي نقله عن العربية ثائر ديب. ففي الفصل الأخير من كتابه، تحت عنوان “نحو ثقافة مشتركة” يقول: “ليست الثقافة ما نحيا به وحسب، فهي أيضًا ما نحيا لأجله. غير أن من الممكن للثقافة أن تكون مخيفة ومرعبة ما لم توضع في سياق سياسي مستنير. سياق يمكن أن يلطف هذه الأشياء العاجلة والملحة بأشكال من الانتماء أشد تجريدًا غير أنها أيضًا أشد سخاء وسماحة”.
مراجع:
مهنة القراءة، برنار بيفو، ترجمة سعيد بو كرامي، منشورات تكوين 2020.
فكرة الثقافة، تيري إيغلتون، ترجمة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019.
عنوان الكتاب: مهنة القراءة المؤلف: برنار بيفو المترجم: سعيد بو كرامي
ضفة ثالثة