من لاجئ سوري إلى الأمن العام اللبناني: لماذا أصدرتم قرار ترحيل بحقي؟/ نور الدين حوراني
مازلت أقيم بلا أوراق شرعيّة سوى بطاقة أمر المغادرة التي لا أجرؤ حتّى على حملها في جيبي. منتظراً (الفرصة المستحيلة) لمقابلة مدير الأمن العام اللّبناني اللّواء عباس ابراهيم، لأسأله عن سبب أمر التّرحيل الّذي صدر بحقي.
في الحيّ الذي أسكن فيه، أثناء توجّهي إلى البيت، سمعت حديثاً بين امرأتين تسأل إحداهما الأخرى عن بيت للإيجار، بينما تجيبها الأخيرة حرفيّاً: “مستحيل تلاقي، الله وكيلك هاللّاجئين السّوريّين ما خلو بيت فاضي بهالبلد، وين ما تتطلعي حواليكي بتلاقي واحد”.
قالتها بكل قرف، وبصوت عال دون تحرّج من أن يسمعها أحد. شعور هائل بالذّلّ اجتاحني في لحظتها، ضاعف منه عجزي بسبب أنّني لاجئ، عن مقاطعة حديثهما والدّفاع عن نفسي.
كلامها شملني بطريقة غير مباشرة.
كثرة استخدام هذه المفردة في الحياة اليوميّة، أفقدها معناها الأساسي. وتحوّلت في كثير من الأوقات إلى شتيمة. حتى في مواقف الشّفقة والحزن على حال اللّاجئين، تكون هذه الكلمة ثقيلة على مسامعنا. كأن نسمع عبارة “حرام هدول لاجئين” أو ” الله يعينهم هاللّاجئين ويردّهم على بلادهم”.
ما هي مشكلة الحكومة اللّبنانيّة مع اللّاجئين؟
مشكلة اقتصاديّة! أجل هذه هي مشكلتها الأساسيّة معنا، فنحن من منظور الحكومة نشكل عبئاً على نظامها الاقتصادي، وكأنّنا نأخذ رواتبنا من خزينتها. أو نعيش هنا على حسابها. كلّ ما قدّمته الحكومات في كل البلدان العربيّة دون استثناء، هو الصّبر على مضض لوجودنا داخل حدود دولهم. وهذا الصّبر لم يكن ليستمر لولا المبالغ الطّائلة الّتي تُدفع من قبل المنظّمات الأمميّة لحماية اللّاجئين وإبقائهم في دول اللجوء. ولو أردت التعبير عن ذلك بلغة قريبة من النّاس لحاولت صياغة القضيّة في عبارة قصيرة جدّاً قد يقولها المسؤولون في سرّهم للدّفاع عن موقفهم تجاه االلّاجئين “طالما في تمويل ودعم، فيا أهلاً وسهلأ” . وهذا ما تشير إليه تصريحات رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي في خطابه الأخير وقد بدأنا نلحظ ترجمته الواضحة على الأرض من خلال حواجز مكثّفة لاستخبارات الجيش والقوى الأمنيّة، تعمل على توقيف اللّاجئين السوريين واعتقالهم بذريعة عدم امتلاكهم أوراقاً تثبت إقامتهم الشّرعيّة في لبنان. وهذه المرّة تتضّح المخاوف من تطوّر أهداف هذه الحملة، وصولاً إلى عمليّة الترحيل القسري، أي تسليم مواطنين سوريين هربوا من نظام بلادهم الّذي لا يفهم سوى لغة الاعتقال وإعادتهم إليه. وقد حصل ذلك فعلاً منذ عدّة أسابيع، حيث قامت القوّات الأمنيّة على الجانب السوري باعتقال أربعة عشر شابّاً، عادوا إلى سوريا طواعيةً، مُعتقدين أنّ النّظام السوري سيفي بوعوده المتعلّقة بعدم المساس بالعائدين إلى حضن الوطن.
لنتحدث صراحة طالما أن الأمور صارت بكل هذا الوضوح وعدم الاكتراث: فيما يخص قضيّة اللّاجئين السوريين على وجه الخصوص في لبنان، هذه القضيّة لا يخفى على أحد كيف تحوّلت منذ السنوات الأولى لاندلاع الثورة والحرب في سوريا إلى ورقة مقايضة، ورقة تستخدمها جميع الدّول الّتي تدّعي علناً بأنها ستكون الملاذ الآمن لكل سوري يهرب من بلده لاجئا إليها. لكن في السّر، ومن تحت طاولات القوانين الدّخلية لكل دولة، يتحوّل اللّاجئ إلى عبء عليها. ترميه في وجه العالم كلما ضاقت بها الأحوال الاقتصاديّة، التي يتسبب بها سياسيوها بالدرجة الأولى.
ما معنى لاجئ؟
لو أردنا قليلاً النّظر إلى المعنى الإنساني لهذه الكلمة، لوجدنا أنّ كلّ ما تشير إليه هو عجز الإنسان عن حماية نفسه وأهله وعائلته، في المكان الّذي يفترض أن يكون “وطناً” له، فيضطرّ إلى الهروب بسبب قلة حيلته إلى أماكن أكثر أماناً.
في هذه الحالة، هو يلجاّ. أي بمعنى يستجير بمن يظنّهم سيؤمّنون جزءا ممّا فقده في وطنه أو بين أهله. لكنّ المعنى السّياسي خلف هذه الكلمة، يحوّلها إلى ذريعة للضّغط على الخصوم في ساحات المعترك السياسي. فلا يتوانى بلد صُنّف ضمن قائمة البلدان الّتي تؤمّن اللجوء لمواطنين من بلدان أخرى، عن التخلّي في أصغر المواقف عن اللّاجئين وقضيّتهم. ولو أردنا الدّخول في التفاصيل الدّقيقة للحياة الاجتماعيّة الّتي يعيشها اللّاجئ، لوجدنا أنّ معنى كلمة لاجئ، يختلف حسب السّياق الّذي يتم ذكرها فيه. وأنا كسوريّ لاجئ لمست جميع المعاني الّتي أُشير بها إلينا، بدءاً من الأسلوب الّذي تلفظ به هذه الكلمة، وصولاً إلى إدراجها في الخطابات السّياسيّة، لتتحوّل إلى مفردة لا تدلّ سوى على التّحريض ضدّنا، للوصول إلى صفقات سياسيّة، لا تخفى على أحد. وهذا ما لمسناه في الخطاب التّحريضي الأخير لميقاتي الذي دعا فيه إلى إعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا.
لماذا لا يملك أغلب السّوريين في لبنان أوراقاً رسميّة وإقامات شرعيّة؟
من خلال العودة الى الوراء قليلاً، وتحديدا إلى العام 2015، حيث صدر وقتها (حسب مركز “وصول” لحقوق الإنسان) قانون يقتضي تعديل شروط خروج ودخول السّوريين، من وإلى لبنان، سنجد أنّ اللاجئين الذين دخلوا إلى لبنان بعد ذلك العام يخضعون لقوانين تعجيزية للغاية في محاولة استحصالهم على إقامة قانونية، حيث فرضت “المديرية العامة للأمن العام اللبناني” على اللاجئين سياسات وشروطاً بالغة القسوة والتعقيد، غير متناسقة وشبه مستحيلة التنفيذ لحصولهم على أوراق إقامة قانونية، ما يجعلهم أكثر عرضةً للتهميش والاستغلال وتعريضهم للعديد من الانتهاكات الأخرى. وبهذا لم يعد لدى اللاجئين القدرة على حماية أنفسهم عبر الطرق القانونية بسبب عدم حيازتهم على أوراق قانونية تمكنهم من تقديم شكاوى قانونية لدى المخافر.
بالإضافة إلى ذلك، فقد صدر عن المجلس الأعلى للدفاع في نيسان/ابريل 2019 قرارًا يقضي بترحيل اللاجئين السوريين الذين دخلوا بطريقة غير شرعية بعد تاريخ 24/4/2019. وعليه، فإن هذان القراران عرّضا عشرات آلاف اللاجئين السوريين إلى خطر العديد من الانتهاكات كالاعتقال التعسفي والترحيل القسري إلى سوريا والاضطهاد والتعذيب. إلى جانب هذين القرارين هناك قرارات أخرى كمثل خطة مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية والتدابير التي اتخذتها البلديات(منع تجوّل، منع اللاجئين من العمل…)، والتي تشكل ضغطًا وتحريضًا على اللاجئين نحو مغادرة البلد والعودة إلى سوريا وبالتالي فإن آلاف اللاجئين عادوا الى سوريا جراء السياسات القاسية والظروف المتردية في لبنان وليس لاعتقادهم أن سوريا أصبحت بلدًا آمنًا.
لماذا لا أملك ورقة تثبت إقامتي الشّرعيّة في لبنان؟
دخلت إلى لبنان أول مرة بطريقة غير شرعيّة، هرباً من ملاحقة النّظام السوريّ لي، على خلفيّة مجاهرتي بآراء معارضة لسياسته. وصعوبة الدّخول إلى لبنان وقتها، أجبرتني على ذلك، حيث كنت بحاجة إلى الخروج من سوريا بأي طريقة وأي ثمن.
وكان موضوع حصولي على تسوية لاستصدار بطاقة إقامة شرعيّة، هو من أكثر المواضيع الّتي حرصت على متابعتها بعد أن دخلت بسلام إلى الأراضي اللّبنانيّة، حيث قمت بتسليم نفسي لأقرب مركز أمن عام، بعد قرار أصدرته المديريّة تدعو السّوريين المقيمين بطريقة غير شرعية إلى الإسراع من أجل تسوية أوضاعهم. جرى توقيفي حينها لأكثر من أسبوعين. حصلت في نهايتهما على بطاقة إقامة مؤقّتة. ثمّ من خلال دفع مبلغ مالي وصلت قيمته في ذلك الوقت إلى 500 دولار حصلت على كفيل. وفعلاً، مُنحتُ إقامة لمدة عام كامل. حيث قمت في العام الّذي تلاه بتجديدها، من خلال دفع المبلغ نفسه للكفيل لكي يقبل أن يكفلني مرة أخرى.
كان تاريخ انتهاء الإقامة يتزامن مع شهر آذار/مارس من كل عام، وبما أنّ جائحة كورونا حالت دون قدرتي على تجديد إقامتي في عام 2020 اضطررت إلى كسرها لغاية الشهر الثامن من العام ذاته، حيث تلقّيت اتّصالاً من مركز الأمن العام يبلغني بضرورة الذّهاب إليهم لتجديدها بعد أن عادوا إلى العمل بشكل جزئي. وبالفعل ذهبت في اليوم التالي، بصحبة الكفيل، وجميع الأوراق المطلوبة للحصول على الإقامة، دفعت الرّسوم المترتّبة كاملة لإتمام ذلك، ثم طلب منّي الموظّف أن أعود بعد شهر للحصول على إقامتي بعد أن منحني بطاقة خضراء تشير إلى إقامة مؤقتة مدّتها شهر واحد.
عدت بعد انقضاء الشهر، وسألتهم ما إذا كانت إقامتي قد صارت جاهزة، لكنّ الموظّف نفسه، فاجأني ببطاقة تحمل إسمي، مختوم عليها أمر مغادرة(ترحيل طوعي) حسب ما قاله الموظّف.
كنت مصدوماً جدّاً، خاصّة أنّ المهلة الممنوحة لي كي أغادر لم تتجاوز 24 ساعة. ولم أستطع أن أفهم سبب هذا القرار. وحين حاولت الاستفسار أكثر، نظر إليّ الموظّف من دون اهتمام وقال بلهجة العارف أنّ الأمر مستحيل :”روح اسأل(مدير عام الأمن العام) عبّاس ابراهيم”.
مرّ عامان على تلك الحادثة، لأنّني كسوريّ لاجئ، لا يمكنني العودة إلى سوريا، ولا بلدان أخرى تسمح للسوري بالدّخول إليها سوى بدفع مبالغ ماليّة يصعب جدّاً في هذه الظّروف تأمنيها. ومازلت أقيم بلا أوراق شرعيّة سوى بطاقة أمر المغادرة الّتي لا أجرؤ حتّى على حملها في جيبي. منتظراً (الفرصة المستحيلة) لمقابلة مدير الأمن العام اللّبناني اللّواء عباس ابراهيم، لأسأله عن سبب أمر التّرحيل الّذي صدر بحقي.
هناك قرار بترحيلي رغم تقديمي الأوراق المطلوبة كاملة للحصول على الإقامة، مستوفيّاً كافّة الرّسوم المطلوبة لإتمام ذلك، مع العلم أنّ مئات السّوريّين في لبنان، حصل معهم الأمر ذاته. والآن، تلاحقنا حكومة الرئيس ميقاتي، لترحيلنا وتسليمنا إلى القاتل.
درج