الناس

نحن لا نطالب إلا بحياة ممكنة خارج حدود سوريا/ اليس سبع

منذ أن سمعت للمرة الأولى هتافات المتظاهرين في سوريا عام 2011، وأنا أبحث عن معنى واقعي للحريّة. معنى يمكن تطبيقه في واقعنا وبلادنا دون الحاجة لتدمير المجتمع وإعادة بنائه. هذه الكلمة التي كانت سبباً في بداية الخراب والقتل في بلادي، أو الأصح لم تكن السبب تحديداً، إنمّا ما أوقعته في نفوس حكامنا من مخاوف من فقدان السيطرة وتخفيف حدّة الحبل الملتف حول رقابنا منذ أجيال. الحريّة تنطوي على معانٍ شاملة لا يمكن فهمها أو عيشها بين ليلةٍ وضحاها، وخاصةً بين الشعوب المقموعة والمحرومة من كل أشكال الوعي.

لم أعش سوى ثمانية عشر عاماً من حياتي داخل سوريا. كانت كافية لتدمير قدرتي على ممارسة الحريّة، وخنقي بالمخاوف المتوارثة بين شعوبنا. أحاول النبش في ذكريات طفولتي لأستنبط منها أمثلة أشرح فيها – لغير السوريين – عن معنى أن يربي النظام أجيالاً كاملة على اللاوعي وانعدام الثقافة. معنى أن تعيش في نطاق الحاجة الدائمة للكدّ بهدف تأمين الطعام والشراب والمأوى، التي لا تبقي أيّ فراغ في أوقاتنا للبحث عمّا يوجد خارج الحدود التي رسموها لنا. لكني لا أملك ما يكفي من الإبداع لأختصر نظاماً بهذه الدكتاتورية بعبارات محدودة.

لا غرابة في ما نجده اليوم في مجتمعنا من تعصّب وطائفية، وما نسمعه من أفكار ونقاشاتٍ متخلّفة. كيف للمجتمع أن يتطوّر في دول تقيم الحظر على جميع الكتب والروايات والأفلام التي تتحدث عن الحريّة والاختلاف؟ كيف للمجتمعات أن تتغير في دول يُعتبر فيها إبداء الرأي جريمة وتبدو مهنة القتل المهنة الأسهل والأكثر انتشاراً؟

حين وصلت إلى ألمانيا، اعتقدت أنّني لن أواجه أحد المدافعين عن النظام أو الرافضين للثورة مجدداً. ولكن الحريّة التي حصل عليها معظم من أقابلهم، لم تستطع تحرير عقولهم من القيود التي صممها لنا النظام السياسي والتعليمي والاجتماعي في سوريا. تحتاج لقوة هائلة من الوعي لتحطّم تلك المفاهيم الاستعبادية التي تربيت تحت كنفها، وتحتاج لعائلة، أو جماعة ما محيطة بك، تمتلك الحد الأدنى من الشعور بالرضا والقبول بحياة العبودية، لتزرع بداخلك القدرة على الخروج عن القطيع، وعمّا يراه معظم من حولك على أنّه شكل الحياة الطبيعية.

تعتبر عبارة: “كنا عايشين وماشي حالنا، اللي ما بيعجبه النظام يسافر بدون ما يخرّب البلد” الإجابة الأشهر بين السوريين غير المتعصّبين للنظام أو للمعارضة، حين تبدأ بأيّ نقاش يتعلّق بالثورة. وهي إحدى الدلائل على الفهم الخطأ لنسبة كبيرة من الشعب السوري عن الحريّة والكرامة، وجهلهم بالحقوق الطبيعية للإنسان التي يجب أن يمتلكها بشكل بديهي، وليس على النظام أن يتفضّل بها على الشعب.

اعتدت أن أعاتب والدي ممازحةً ومقهورةً أحياناً، في السنوات الثلاث الأخيرة التي قضيناها في سوريا: “رفقاتك كلهم سافروا، أنت الوطني الوحيد اللي تركتنا بالبلد”. والدي الذي قدّم سنوات من شبابه للوطن في المعتقلات السياسية بسبب إيمانه بالحريّة، ورسم لاحقاً الكثير من الأحلام في بداية الثورة، يقيم الآن في أبعد نقطة عن الوطن. وقد تخلّى عن الكثير من حماسته الثورية ليحافظ على عائلته ويحفظ القليل من الأمان لمستقبله.

اليوم، يملك والدي من الحريّة في أستراليا ما لم يحلم بتحققه في سوريا يوماً، لكن هل يشعر بقيمتها كتحقيق أيّ تغيير بسيط كان يتمنى أن تُحدثه الثورة في سوريا؟ أجرؤ على الاجابة بدلاً منه بـ “كلا”. الحرية الوحيدة التي نتمتع بها في الغربة، حرفياً، هي قدرتنا على شتم النظام السوري بصوت مرتفع، وذلك دون الخوف من أن يتم اعتقالنا وتعذيبنا والزج بنا في سجون النسيان.

يتجلى تأثير النظام السوري على أفكار ومخاوف الشعب في الغربة بمواقف بسيطة مختلفة. في حال امتلكت الجرأة على انتقاد أيّ من القوانين أو الأنظمة في شوارع ألمانيا، بعد تلفتك يميناً وشمالاً، لا بد أن تتلقى تعليقاً ساخراً من أحد الأصدقاء مثل “لو حكيت هالحكي بسوريا كانوا شحطوك”. عدم تدريب عقولنا على التفكير وتقبل الاختلاف بالرأي يجعل جميع النقاشات فاشلة وذات نهايات وخيمة، ويدفع الكثيرين للاستمرار بإسقاط الأحكام على الآخرين، وتصوّر الحريّة بحدود معتقداتهم وتوجهاتهم الضيقة. رغم إيمان الرجل بأهمية الحريّة، فهو لا يعتبر المرأة كياناً يستحقها، ورغم مطالبة الكثيرين بحقهم في ممارسة ما تمليه عليهم معتقداتهم وعقائدهم، يحاولون تهميش من يخالفونهم في الطائفة الدينية أو الميول الجنسية أو التعريف الجندري. وهذه صور أخرى لسوء فهم الحريّة.

سبق أن كتبت مقالاً بعنوان: “لماذا أقدّم ولاءً لأرض لم أحصل على أقل حقوقي فيها؟”، وقد قوبل بالكثير من الانتقادات والشتائم، وعدد من الاتهامات بالتخلي عن الوطن وانعدام الشرف وغيرها من الاتهامات التي لا يحق لأحد أن يزفّها لغيره دون معرفة عميقة به. البعض ألقوا عليّ بعض المواعظ عن المقاومة والتشبث بالأرض. وأعترف بأن تعليقاتهم دفعتني للتساؤل مرات عديدة: هل يمكن أن نكون قد تخلينا عن الوطن بسهولة؟ هل يعتبر سفري إلى ألمانيا هروباً من المقاومة والدفاع عن الوطن؟ لكن الإجابة عن أسئلة كهذه تعتمد على تعريفنا للوطن والوطنية، وعلى الطريقة التي يختارها كل منّا للمقاومة، والتي يجب أن لا تنحصر بشكل واحد.

ألا نقاوم، نحن السوريون، في الغربة مشاعر متضاربة يومياً بسبب ما نتعرض له، فقط لكوننا سوريين؟ ألا نحمل حتى بعد مرور سنوات ذنب ولادتنا على تلك البقعة من الأرض، ونحاول إيصال صورة أفضل عنها؟ أليست الكتابة شكلاً من أشكال المقاومة؟ هل علينا أن نبقى تحت رحمة النظام عاجزين ومذلولين حتى نتمكن من الخلاص من هذه الاتهامات؟ لا مكان في العالم يملك حياة تشبه الحياة في سوريا اليوم، ونحن لا نطالب إلا بحياة ممكنة خارج حدودها.

قال لي أحد أصدقائي قبل مدة، بعد إخباره بمواصفات الوطن الذي أحلم بالعيش على أرضه، أن لا وجود للحريّة التي نبحث عنها في أيّ مكان. وبعد اختبار الحياة في ألمانيا، أؤكّد قوله بأن حدود الحريّة دائماً تُرسم بدرجة ما بأيدٍ أخرى لا يمكن أن نطالها أو نعارضها بسهولة. ورغم جميع محاولاتنا للنجاة من الدكتاتورية والتخلص من أثرها على أفكارنا، يبقى مفهوم الحريّة معلّقاً ومشتّتاً في أذهاننا، وأحلامنا عنه لا تتطابق مع الواقع أينما كنا.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى