ورشة باريس حول الدور الفرنسي في الحرب السورية (تقرير)
ملخص تنفيذي:
عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، بالتعاون مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بباريس، في 24 أيار/ مايو 2022، ورشة لمناقشة مختلف الموضوعات المتعلقة بالدور الفرنسي والسياسة الفرنسية تجاه الصراع الدائر في سورية وعليها منذ 2011 حتى الآن.
افتتحت الورشة بعرض حول سورية اليوم التي أدى فيها قصور الثورة عن تحقيق التغيير السياسي إلى إضعاف أطراف الصراع، وجعل سورية اليوم مقسمة إلى أربع مناطق تعاني سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية، بإدارة حكومات تفتقر جميعها إلى الشرعية. وقد نتج عن ذلك هجرة أعداد كبيرة من الشباب إلى أوروبا من ناحية، وعودة تنظيم (داعش) إلى البادية السوري من ناحية ثانية، وصيرورة مناطق سيطرة النظام مصنعًا هائلًا لإنتاج مخدرات تهرَّبُ إلى البلدان الإقليمية وأوروبا. غاب الطابع السياسي للصراع في سورية كي يحل محله الطابع الإنساني، وابتعدت أوروبا بفعل ذلك عن الملف السوري قاصرة اهتمامها على تضييق النزاع مع روسيا. وفي سورية، تشرذمت قوى المعارضة، وباتت الفصائل العسكرية والائتلاف، بعد فقدانها المصداقية على الصعيد الدولي، رهن السياسية التركية.
تلا ذلك استعراض سياسة فرنسا خلال سنوات الصراع والعوامل المؤثرة فيها؛ إذ إن فرنسا كانت أول من قال بفقدان الأسد شرعيته، مبادرة وداعمة سياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا تطلعات الشعب السوري للتغيير، غير أن غموض الموقف الأميركي الساعي إلى إبرام الاتفاقية النووية مع إيران من جهة، وضغوط إسرائيل من أجل بقاء الأسد، أثرا سلبًا في الموقف الفرنسي والأوروبي عام 2012، حين لم تستغل دول الغرب فرص فرض حلٍّ انتقال سياسي وفق إعلان جنيف في حزيران/ يونيو 2012.
أدّى موقف الدول الغربية هذا إلى تشرذم المعارضة السورية، وغلبة الطابع السلفي والجهادي، وغياب مؤسسات معارضة سورية ديمقراطية قوية في المشهد السياسي من ناحية، بالإضافة إلى دخول الفصائل الجهادية الموالية لإيران دعمًا للنظام في مواجهة السوريين، والتغاضي عن استخدام السلاح الكيمياوي من قبل النظام الذي أجاز للأسد حرية العمل للحفاظ على نظامه. شيئًا فشيئًا ومع ظهور تنظيم (داعش) كعنصر تخريبي في المشهد السوري، واحتلال روسيا لجزيرة القرم التي جعلت من أوكرانيا اعتبارًا من عام 2014 أولوية أوروبية، ثم دخول روسيا عسكريًا إلى سورية عام 2015، فضلًا عن تفجيرات باريس في العام نفسه، اتخذ الصراع في سورية صيغة أخرى في خطاب فرنسا والقوى الغربية ومواقفها: محاربة الإرهاب!
كان عام 2016 عام التحول الكبير إزاء المأساة السورية التي باتت تعالج كمأساة إنسانية لا كمأساة شعب يرزح منذ خمسين عامًا تحت وطأة الاستبداد. وانعكس ذلك في سياسات فرنسا ومختلف الدول الغربية التي، بعد أن تركت لروسيا حرية التصرف في المصير السوري، باتت ترى -بحجّة الواقعية السياسية- أن سقوط الأسد لم يعد موضوع الساعة الآن. هذا مع بقاء رفض الأوروبيين للتطبيع مع نظامه أو رفع العقوبات والحصار الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي عنه.
أدى تطور المواقف الغربية من الصراع، ولا سيما استبعادها القوة في خطابها وسلوكها الدبلوماسي، إلى جمود كامل على الصعد جميعًا في مجال فرض حلٍّ سياسي يمكن أن يمضي بالمأساة السورية اليوم من وضعها كمعضلة سياسية للسوريين ولشعوب المنطقة وأوروبا إلى عملية سياسية تصل بالشعب السوري إلى تحقيق حريته وكرامته.
واستكمالًا للعرض السابق، نوقشت تأثيرات الغزو الروسي لأوكرانيا على الصراع في سورية؛ فقد أدّى هذا الغزو وردّة فعل الدول الغربية عليه إلى تغييرات في العلاقات الدولية، لا تزال آثارها تتفاقم وتمتد على الصعد السياسية والاقتصادية. لكن آثاره على القضية السورية لم تتضح بعد. صحيح أن روسيا اضطرت إلى سحب بعض قواتها من سورية، إلا أن غزوها لأوكرانيا لم يغير مواقف الغرب تجاه الصراع السوري والدور الروسي فيه. فأميركا لا تريد أكثر من تغيير سلوك النظام، وفرنسا وأوروبا تقصران الاهتمام على الجانب الإنساني. ومن هنا يظهر التساؤل: هل ستدفع تطورات الحرب الأوكرانية الغربَ إلى معاقبة روسيا وحليفتها إيران في سورية، عبر سحب توكيلها بالملف السوري والدفع في اتجاه تنفيذ القرارات الأممية؟ ألا يمكن أن يشجع ذلك السوريين ويدفعهم نحو عمل مؤسساتي منظم بدعم من أصدقاء الشعب السوري لمواجهة مثل هذا التغير؟
وفي الختام، نوقش الدور الذي يمكن أن تلعبه فرنسا وأوروبا مستقبلًا نتيجة تعقيدات الوضع في سورية. من الممكن البدء بخطوات جزئية قمينة أن تؤدي في النهاية إلى فتح الطريق نحو الحل الحاسم: إصرار أوروبا على إيصال المساعدات للسوريين عبر الحدود، عدم الانصياع لابتزاز روسيا الساعية إلى تقديم المساعدات عبر مؤسسات النظام، فرض متابعة صارمة لمصير المساعدات بين يدي النظام، تفعيل محاكمة مجرمي الحرب السورية أمام المحاكم الأوروبية وضمانة عدم إفلاتهم من العقاب. يمكن لذلك أن يسمح في الوقت المناسب بمباشرة العمل لحلٍّ سياسي يقوم على انتقال سياسي حقيقي يعتمد قيام نظام مدني وديمقراطي. تلك خطوة حاسمة يمكن لفرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي العمل على وضعها موضع التنفيذ، ما دام هذا الحل يضمن أيضًا مصالح بلدان أوروبا على صعد الحد من الهجرة والأمن القومي.
التقرير
عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، بالتعاون مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، في 24 أيار/ مايو 2022، ورشة لمناقشة الدور الفرنسي والسياسة الفرنسية تجاه الصراع الدائر في سورية وعليها. ناقشت الورشة مجموعة من الموضوعات التي تتعلق بسياسية فرنسا ومواقفها تجاه الصراع الدائر في سورية وعليها، منذ 2011 حتى الآن.
ناقشت الورشة أربع نقاط:
1) الأوضاع القائمة في سورية اليوم
2) الدور الذي لعبته فرنسا في الصراع في سورية حتى الآن
3) التأثيرات المحتملة للحرب في أوكرانيا على الصراع في سورية
4) الدور الذي يمكن لفرنسا أن تلعبه للدفع بحلّ سياسي لهذا الصراع.
شارك في الورشة 20 شخصية فرنسية، من دبلوماسيين وأكاديميين وباحثين، إضافة إلى 15 شخصية سورية، من أكاديميين وباحثين مقيمين في فرنسا. وتعرض هذه الورقة خلاصة النقاشات التي دارت، وقد عكست الورشة وجهات نظر متباينة في بعض محاور النقاش.
سورية كما هي اليوم:
على الرغم من الأمل بأنّ الثورات لا تموت، فإن الثورة السورية قد فشلت في تحقيق التغيير السياسي الذي استهدفته، حيث تحوّل الربيع العربي فيها إلى أزمةٍ لامست تخوم الكارثة، على أكثر من صعيد، وقد غدت أطراف الصراع جميعها، سواء النظام أم المعارضة، ضعيفةً ومنهكةً، وباتت معتمدةً على دعم إقليمي ودولي، وأصبحت سورية اليوم مقسّمة إلى أربع مناطق سيطرة[1]، فيها أربع حكومات تفتقر جميعها إلى الشرعية، وتفتقر كلّ منطقة منها إلى الاستقرار والأمن. وتعاني المناطق الأربعة سوء الأوضاع الاقتصادية وتدهور شروط العيش الكريم ومقوماته، والوضع المعيشي الأسوأ هو في مناطق سيطرة النظام، ممّا يدفع أعدادًا كبيرة من السوريين الشباب نحو الهجرة إلى خارج سورية، وخصوصًا نحو أوروبا، على الرغم من أن العمليات العسكرية قد توقفت منذ 2019. ومن جهة ثانية، عاد تنظيم (داعش) للنشاط في البادية السورية، وأصبحت مناطق سيطرة النظام المصنع الأكبر في العالم لإنتاج المخدرات وإرسالها إلى البلدان الإقليمية ونحو أوروبا، وتدير بعض مؤسسات النظام و”حزب الله” عجلة هذا الإنتاج وتنسق عملية نقله إلى الخارج.
إن أبرَز صورة للتناقض في مشاهد الصراع في سورية اليوم هي غياب الطابع السياسي للأزمة السورية، مع أنها أزمة سياسية بالدرجة الأولى، حيث تحوّل الاهتمام بها من التركيز على الجانب السياسي إلى التركيز على الجانب الإنساني، فبعدما كان هناك تدخّل مباشر من وزراء خارجية الدول الفاعلة، مثل روسيا وأميركا، في 2014، لمناقشة خطوات الحلّ والانتقال السياسي؛ بات الملفّ السوري اليوم يُناقش على مستوى أقلّ من ذلك بكثير، وباتت الأطراف ذات الوجود العسكري على الأرض حاضرة في أيّ مداولات حول سورية، وتتحكم في الدور السياسي، وأصبحت فرنسا -والاتحاد الأوروبي عمومًا- بعيدةً عن ملفّ سورية وعمّا يتم في جنيف، وصار جلّ اهتمامها ينصبّ اليوم على تضييق دائرة النزاع مع روسيا، وليس على البحث عن حلّ للقضية السورية، وهذا مما يُطيل أمد الأزمة ومعاناة السوريين.
ويُعدّ غياب مؤسسة سياسية قادرة تمثل الشعب السوري وتمثل المعارضة أحدَ أهمّ سمات الصراع في سورية، منذ انطلاقة الانتفاضة في آذار 2011 حتى اليوم، إذ إن قوى المعارضة ما زالت مشرذمة، وأصبحت الفصائل العسكرية وكذلك الائتلاف رهن السياسة التركية، فضلًا عن أنها لا تملك مصداقية كافية في نظر اللاعبين الدوليين.
سياسة فرنسا خلال سنوات الصراع والعوامل المؤثرة فيها:
مع انطلاق انتفاضة الشعب السوري في آذار 2011، ضمن موجة الربيع العربي، كان موقف فرنسا منسجمًا مع مواقف الدول الغربية عمومًا بدعم تطلّعات الشعب السوري للتغيير، وتجلى ذلك على نحو بارز في مؤتمرات أصدقاء الشعب السوري التي بلغ عدد الدول المشاركة فيها أكثر من 120 دولة. وقد اتسم موقف فرنسا بالفاعلية تجاه الربيع العربي منذ انطلاقته، وكانت أول من قال إن “الأسد فقد شرعيته”، وقدّمت دعمًا سياسيًا للمعارضة السورية، وخاصة في المرحلة الأولى، كما قدّمت لها دعمًا عسكريًا محدودًا، وكانت أكثر حماسًا لمعاقبة الأسد على استخدامه السلاح الكيمياوي، في الغوطة الشرقية في آب/ أغسطس 2013. وعندما تسلّمت المعارضة مقعد سورية في الجامعة العربية خلال مؤتمر القمة التي عقدت في الدوحة في آذار/ مارس 2013، فكّرت فرنسا في أن تكون المعارضة في مقعد سورية بالأمم المتحدة أيضًا، ودعت لفتح مكتب للمعارضة في نيويورك لتعزيز دورها.
كان الموقف الأميركي المتردد والغامض، تجاه تحقيق انتقال سياسي في سورية، العاملَ الأهم في تحديد مواقف فرنسا ودول أوروبا من الصراع في سورية، حيث مال الموقف الأميركي إلى استرضاء إيران خلال مفاوضات النووي الإيراني التي كانت جارية، وضغوط موقف إسرائيل المعارض لذهاب نظام الأسد، ولضغوط لوقف روسيا الممانع لأيّ تغيير في النظام السوري، ولضغوط غياب البديل القادر على الإمساك بسورية في حال الانتقال السياسي.
أدى موقف دول الغرب الغامض من الانتقال السياسي إلى فوات سنة 2012 التي كانت سنة فارقة في الصراع الدائر في سورية، وقد كانت سنة استحقاق التغيير الحقيقي، وقد فوتتها دول الغرب، فلم تستغلها لفرض حل سياسي للصراع؛ إذ لم تضغط تلك الدول بما فيه الكفاية لتطبيق إعلان جنيف الصادر في 30 حزيران/ يونيو 2012، بتوافق روسيا وأوروبا وأميركا، الذي وضع صيغة مناسبة لانتقال سياسي تشارك فيه أطراف ثلاثة هي المعارضة والنظام وأطراف من المجتمع السوري، ولم تواجه دول الغرب مساعي موسكو لعرقلة تطبيق إعلان جنيف، مع أنها أعلنت موافقتها عليه، مما جعل العمل من خلال الأمم المتحدة صعبًا ومغلقًا، بسبب الفيتو الروسي. وأدى فوات هذه الفرصة إلى بروز جملة من الظواهر التي عقّدت مشهد الصراع في سورية وأطالت أمده، وأتاح ذلك دخول لاعبين جدد إلى حلبة الصراع، فتحوّل إلى أزمة صعبة الحل. وكان ذلك من الأسباب التي أدّت إلى التغيير في مواقف فرنسا ودول الغرب تجاه الصراع في سورية.
كان لشرذمة المعارضة، عسكريًا وسياسيًا، ثم لغلبة الطابع السلفي والجهادي عليها، من حيث المظهر والتسميات واللغة المستخدمة والشعارات والتصرفات، وخاصة منذ 2013، الدور الكبير في تعقيد مسار الصراع في سورية، وعلى الرغم من وجود إرادة دولية لتحقيق انتقال سياسي في سورية خلال السنوات الأولى، فإن البديل لم يكن قد تبلور، ولم يتبلور حتى اليوم، وطالما تردد السؤال: أين هي المعارضة؟! وهل هي قادرة على أن تمسك بسورية في حال ذهاب النظام، أم ستتحول سورية إلى فوضى، كما حدث في ليبيا؟! وقد وَضَعَ وضْع المعارضة هذا حجة قوية بيد روسيا لتواجه بها الغرب. واليوم، لا يوجد مَن يُمثّل السوريين، ولا يوجد “زيلينسكي” سوري، غير أن الدول الغربية الديمقراطية ذاتها لم تهتم بتكوين مؤسسات قوية للمعارضة الديمقراطية، وتركتها تحت رحمة الدول العربية والدول الإقليمية التي لم ترغب في بناء مؤسسات معارضة قوية، وما زالت أحوال المعارضة هذه مستمرة حتى اليوم، وما زال السؤال قائمًا.
من جانب آخر للمشهد السوري، دخلت قوات “حزب الله” بدءًا من النصف الثاني من سنة 2012 إلى سورية، ثم دخلت قوى متطرفة إلى حلبة الصراع، مثل النصرة “القاعدة”، وبدأ تشكّل فصائل جهادية، لها أهدافها الخاصة البعيدة كل البعد عن أهداف انتفاضة الشعب السوري، فكانت مرحلة تغيير جذري في طبيعة الصراع الذي تبلور سنة 2013، وبرز الموقف السلبي للإدارة الأميركية بعدم معاقبة النظام على استخدام السلاح الكيمياوي، بالرغم من أن فرنسا كانت تدعم معاقبته على جرائمه. وقد صرّح أوباما بأنه لن يتدخل في أي حرب دون موافقة الأمم المتحدة، وكان من المعروف أن مجلس الأمن لا يمكن أن يوافق أبدًا، مع وجود الفيتو الروسي والصيني. وكان هذا بمنزلة رسالة للأسد بأن الغربيين لن يتدخلوا كما في ليبيا، ولن يُسلّحوا قوات المعارضة بصواريخ أرض جو تُحيّد طيران النظام، الذي هو نقطة تفوّقه الوحيدة التي أتاحت له تدمير المدن وتهجير سكانها، وإخراج فصائل الجيش الحر ثم الفصائل الإسلامية منها.
في سنة 2013 و 2014، أصبح بروز تنظيم (داعش)، وتحوّلها إلى خطر داهم، الموضوع الرئيس في الغرب، ولم يعد إسقاط نظام الأسد الموضوع الرئيس، وحلّت مكافحة الإرهاب أولًا، وبعد ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم 2014، أصبحت أوكرانيا هي الأولوية الأوروبية. وبعد تدخّل روسيا عسكريًا في أيلول/ سبتمبر 2015، أصبح للموقف الروسي في القضية السورية وزنٌ أكبر من قبل. وتعمل روسيا على إبعاد المعسكر الغربي وإضعاف دور مجلس الأمن، وتعتمد رؤيةً مقيّدةً بالحلّ السياسي، إذ تتذرع بمسألة “السيادة” لتُقصي أي تدخل للمجتمع الغربي أو العربي في الأزمة السورية، ومن ثم يُترك الشعب السوري تحت رحمة نظام مستبد ارتكب مجازر كثيرة بحق الشعب السوري.
لعبت تفجيرات باريس، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، دورها في تركيز فرنسا على مكافحة الإرهاب، التي أصبح لها الأولوية في اهتمامات الرأي العام الفرنسي، وأصبح التركيز على الإرهاب، كموضوع انتخابات، أمرًا أساسيًّا في فرنسا.
ولعب تبدّل الدور التركي منذ 2016 دورًا في تبدّل مواقف الدول الغربية، وجعل علاقة فرنسا والغرب عمومًا مع تركيا أصعب، فبعد سيطرت قوات PYD الكردية على منطقة شرق الفرات، بحماية القوات الأميركية، أصبحت أولوية تركيا هي مواجهة التهديد الذي تشكله القوات الكردية للأمن القومي التركي.
ولعبت التوافقات الروسية التركية، بعد التوتر الشديد الذي ساد بينهما عقب إسقاط الأتراك للطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، دورًا في تحوّل تركيا إلى التنسيق مع روسيا أولًا[2] (تسليم حلب، مناطق خفض التصعيد، مسار آستانة وسوتشي، اللجنة الدستورية). وبالتالي؛ أصبحت تركيا تنسّق مع روسيا بالدرجة الرئيسة، بدلًا من التنسيق مع الدول الغربية في حلف الناتو. وقد أدت هذه الخطوات إلى تهميش مسار جنيف ودور الأمم المتحدة، وأدت إلى تقليص الدور الفرنسي ودور أوروبا وأميركا والمجتمع الدولي.
منذ 2016، تراجع اهتمام فرنسا والاهتمام الغربي عمومًا بسورية وأصبح ذلك واضحًا، إذ بات الغرب عمومًا يتصرّف وفق منطق ردة الفعل على ما يحدث، وليس برؤية استباقية وتخطيط ومتابعة، وأخذ يراقب سلوك روسيا في سورية: هل تنحو إلى تعزيز وجودها أم إلى الانسحاب، وأصبحت السياسة الفرنسية لا تعرف أين تذهب، وقد ترك الأوروبيون والأميركيون الصراع السوري لروسيا، ولم يعودوا يبحثون عن حلّ، واقتصر الموضوع عندهم على إدارة النزاع. وقد أسهم موقف أميركا وأوروبا غير المبالي في تهميش مسار جنيف والأمم المتحدة، وتعزيز المسار الروسي – التركي – الإيراني: “آستانة وسوتشي”، وقد أسهم ذلك في تهميش القضية السورية، وتجميد البحث عن حلّ سياسي حقيقي؛ فازداد المشهد تعقيدًا.
تبلور تراجع اهتمام فرنسا بالصراع في سورية في إبّان رئاسة الرئيس ماكرون، حيث نقلت فرنسا البندقية إلى الكتف الآخر، وأعطت الأمر للتواصل مع كل الأطراف، وأصبحت تحدد مواقفها انطلاقًا من حسابات الربح والخسارة، وليس انطلاقًا من قيم الجمهورية الفرنسية وقيم فرنسا المعاصرة، وأصبحت تحدد موقفها من النظام بناءً على تكاليف التعامل مع النظام، مقارنة بتكاليف عدم التعامل معه، ولكن الملاحظ الآن أن الحكومة الفرنسية لا تجد أي فائدة ملموسة من هذا التقارب مع نظام الأسد.
يعكس الإعلام الفرنسي اليوم درجة فتور اهتمام الحكومة الفرنسية بالملفّ السوري، وقد كان التركيز الإعلامي الفرنسي والعالمي على سورية، في السنوات الثلاث الأولى حتى العام 2014، كبيرًا وظاهرًا، ولكنه تحول إلى التركيز على (داعش) بعد بروزها، وخاصة بعد تفجيرات باريس، وأصبح العنوان “داعش أولًا” بدلًا من “رحيل الأسد أولًا”، ثم حاز التدخّل الروسي نهاية أيلول/ سبتمبر 2015 اهتمامَ الإعلام الفرنسي، ومن بعد غياب الصراع في سورية عن الإعلام الفرنسي والغربي، يعود حضور سورية، إعلاميًا، من باب ربط أفعال روسيا في كلّ من أوكرانيا وسورية[3].
لكن، لا يمكن لنظام الأسد إلا أن يكون عدوًا لفرنسا، بقيمها الديمقراطية والإنسانية. ومن الطبيعي أن تهتم فرنسا بإيجاد حل سياسي في سورية، إن أمكن ذلك، وأن تتمسك بدعم القرار 2254 سياسيًّا، غير أن السياسة تتسم بالواقعية، وهي ترى مع بقية دول الاتحاد الأوروبي وأميركا أنّ سقوط بشار الأسد لم يعُد قائمًا الآن، وأن النظام باقٍ حاليًّا على الأقل، ولا تتبنى شعار إزاحته الآن، وعلى الرغم من ذلك، ما زال الأوروبيون متمسّكين بعدم تطبيع العلاقات مع النظام، وباستمرار العقوبات والحصار الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي، وبمنع أي خرق للحصار، وبعدم المساهمة في إعادة الإعمار أو تمويله، قبل تحقيق حل سياسي وتطبيق كامل للقرارات الأممية 2118 و 2254. ومطالبة النظام السوري بالإفراج عن المعتقلين، وتقديم دعم إنساني للسوريين المحتاجين وإيصال المساعدات الإنسانية، أيًّا كان موقف روسيا، ثم تعزيز الحوار الذي يشمل جميع الأطراف: معارضة وأكراد وهيئة تحرير الشام (HTS).
من جهة أخرى، فإن السياسة “الواقعية” والتعامل مع الأمر الواقع لا يحلّان المشكلة، بل يكرّسانها، ومن الضرورة التركيز على إنتاج الشرعية السياسية في سورية، أكثر من تكريس القوى القائمة، لأن في تكريسها تكريسًا للتقسيم.
من خلال متابعة مسار الصراع، يمكن ملاحظة أن استبعاد استعمال القوة من الخطاب الغربي أرسل رسالةَ تطمين للأسد جعلته يُفرط في تشدده؛ فلو أُطلقت بضعة صواريخ بجانب قصر الأسد، لكان لها أثر مختلف على مسار الأحداث، ولو تم تقديم صواريخ مضادة للطيران -وهذا ما لم يحدث- لحَدّ ذلك من الدمار على مدار السنوات، ولأُجبِر النظام على الانصياع للقرارات الأممية، ولو كانت هناك ضربة حقيقية من قبل الغرب لتراجع النظام عن بطشه واضطر إلى الانصياع، ولو دعمت فرنسا والدول الغربية الأتراك في قضية المنطقة الآمنة، لكان الوضع في سورية مختلفًا اليوم. وثمّة رأي بين خبراء كثر بأن تردد الدول الغربية في اتخاذ خطوات قوية لفرض حل سياسي ممكن (مثل الضغط على موسكو لتطبيق إعلان جنيف1) قد أدى إلى تدهور الوضع أكثر في سورية، إلى الحد الذي حوّلها إلى مأساة إنسانية ومُعضلة سياسية للشعب السوري، ولشعوب المنطقة، ولأوروبا، وللعالم ككل.
تأثيرات الغزو الروسي لأوكرانيا على الصراع في سورية:
أحدث الغزو الروسي لأوكرانيا تغييرات في العلاقات الدولية؛ حيث تُظهر مواجهة دول الغرب القوية للغزو أن علاقات روسيا مع الغرب قد دخلت في مرحلة صعبة، وأن الحوار بين روسيا والغرب تحوّل إلى صدام غير مباشر، وأن تطبيع علاقات أي دولة مع النظام الذي تسيطر عليه روسيا أصبح أصعب. وقد اضطرت روسيا إلى سحب جزء كبير من قواتها من سورية إلى أوكرانيا، ولكن ما زال لها وجود وقوات، فروسيا مهتمة بسورية، ولا يتوقع أن تتركها إن استطاعت.
جاء انسحاب روسيا الجزئي من سورية في صالح إيران التي سارعت إلى احتلال المواقع التي انسحبت منها روسيا، وبذلك عززت جودها في مناطق عدة.
من جهة أخرى، تسعى تركيا للاستفادة من مناخات الحرب الأوكرانية، وتعلن أنها تستعدّ لبدء عملية في مناطق سيطرة (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد) لتوسيع منطقة سيطرتها شمال شرق سورية.
وخلقت الحرب في أوكرانيا خلافًا بين روسيا وإسرائيل، ووضع ذلك الخلافُ إسرائيلَ في موقف حرج، لكونها لا تريد إيقاف ضرباتها ضد الميليشيات الإيرانية في سورية.
عاد الإعلام الغربي اليوم ليذكّر بما فعلته روسيا في سورية، وبخاصة في حلب، ولكن ليس من أجل إحياء الاهتمام بالقضية السورية، بل للنيل من سمعة روسيا، وهذا الأمر جزء من استراتيجية الغرب في مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا. ففي الوقت الذي نجد فيه اليوم آلاف الصحفيين الغربيين في أوكرانيا يُغطّون أخبارها، لم تحظَ سورية، حتى في وقت الذروة قبل 2015، إلا بالقليل من هذا الاهتمام. والآن، هناك عدد قليل من الصحفيين يتابع ما يجري في سورية، ويقوم بعضهم بزيارة الأرض، ومن يزورون سورية لا يتحدثون عن الأزمة السورية وعن سبل الحل، بل يتحدثون عن الجهاديين أو الأكراد وقضاياهم.
لو حصلت سورية على جزء من الدعم الذي حصلت عليه أوكرانيا، لكان الأمر في سورية مختلفًا اليوم، ولو أعطت الدول الغربية المعارضة السورية الإمكانات الفعلية لتحقيق تغيير مبكّر في سورية، لجنّبها ذلك الدمارَ الهائل، ماديًا ومجتمعيًا، ولما وجدت القضية السورية ذاتها في هذا الوضع المعقد اليوم.
لم يغيّر الغزو الروسي لأوكرانيا مواقف الغرب تجاه الصراع في سورية وتجاه الدور الروسي في سورية؛ فما زالت الإدارة الأميركية تعلن أنها تستهدف “تغيير سلوك النظام”، وهي تعلم أن النظام غير قابل لتغيير سلوكه، وما زالت الإدارة الأميركية الحالية تجمّد تطبيق قانون قيصر، وما زالت فرنسا وأوروبا تكاد تقصر اهتمامها على الجانب الإنساني، وعلى جانب الإرهاب وعودة (داعش) للظهور في البادية السورية، وما زالت مؤتمرات آستانة وسوتشي تُعقد وغايتها الالتفاف على مسار جنيف، وما زالت اللجنة الدستورية ماضيةً في اجتماعاتها المكوكية التي لا تنتج شيئًا، وما زال المبعوث الخاص بيدرسون مستمرًا في مساعيه الفاشلة لتحقيق أي تقدّم، وصار من الحكمة استبداله واستبدال هذه العملية ككل، والعودة إلى طاولة مفاوضات شاملة، وفق جنيف 1 والقرار 2254.
من جهة أخرى، يصعب أيضًا توقع تطورات الغزو الروسي لأوكرانيا على السياسة الدولية وعلى القضية السورية، وبالرغم من حرص الجميع على احتوائها ضمن الحدث الأوكراني، فإنها ستترك آثارًا واضحةً على علاقات الغرب مع روسيا، وهذا يفتح باب السؤال: هل ستدفع تطورات الحرب الأوكرانية الغربَ إلى أن يعاقب روسيا في سورية ومعها إيران التي تتحالف معها، وإلى أن تسحب الدول الغربية توكيلها لروسيا بالملف السوري، مع ما يترتب على ذلك من تغييراتٍ في سياسات الغرب تجاه سورية تجعل تكاليف الوجود الروسي في سورية كبيرة بالحجم الذي يُجبر روسيا على إعادة الملف السوري إلى طاولة التفاوض الفعال، بدلًا من مسار اللجنة الدستورية المغلق، وطرح تنفيذ قرارات الأمم المتحدة 2118 و 2254، وتقديم كل أنواع الدعم لتحقيق ذلك؟! إن هذا الاحتمال يبدو ممكنًا، إلا أنه يحتاج إلى عمل مؤسساتي منظّم، من نُخب المعارضة السورية المشرذمة والمشتتة حتى الآن، بدعمٍ من بقايا أصدقاء الشعب السوري.
نظرة إلى المستقبل والدور الذي يمكن أن تلعبه فرنسا وأوروبا:
نتيجة لتعقيدات الوضع في سورية اليوم، وغياب أي عمل جدي للوصول إلى حلّ سياسي يقوم على قرارات الشرعية الدولية، ونتيجة لعدم تحقيق أي تقدّم؛ يصبح الجزم بمستقبل سورية مخاطرة، وربما يتطلب الأمر سنوات أخرى لبروز إمكانية عمل شيء، حيث ترى فرنسا، وكذلك أوروبا وأميركا، أن السياق الحالي لا يسمح بمبادرات كبيرة، ولا سيما أن جميع تلك الدول مشغولة بسياقات أخرى، مثل مواجهة روسيا في أوكرانيا، ومواصلة مكافحة إرهاب (داعش) التي تعود للظهور في سورية والعراق.
ومن جهة أخرى، يمكن القيام بأعمال جزئية تمهّد الطريق لمبادرة أكبر تحدث التغيير؛ كأن تُصِرّ أوروبا على إيصال المساعدات للسوريين المحتاجين عبر الحدود، وأن ترفض الانصياع لابتزاز روسيا الساعية لتقديم مساعدات الشمال عبر مؤسسات النظام، وأن تفرض متابعة أشدّ لما يفعله النظام بالمساعدات الإنسانية التي تُقدّم عن طريقه كي تصل إلى مستحقيها، وأن تضغط لإصلاح عمل منظمات الأمم المتحدة الإقليمية، فهي تدير اعتمادات مهمة، لضمان التزامها بالحياد وعدم الانحياز لصالح النظام، وأن تفعّل محاكم أوروبا ملاحقة مجرمي الحرب السورية، وتضمن عدم إفلاتهم من العقاب وإحالتهم إلى المحاكم. وهناك كثير من القضايا التي لها شهود ووثائق، ويحتاج تفعيل الملف القانوني إلى إرادة سياسية، وأن تعمل أيضًا لمنع خرق الحصار المفروض على النظام ومنع التطبيع معه، ولعزل سورية من مجلس حقوق الإنسان أسوة بعزل روسيا.
على الرغم من أن السياسة تقوم على منطق عدم المبادرة، عندما يكون محكومًا عليها سلفًا بالفشل، فإن الاستسلام للواقع يتعارض مع إرادة التغيير الذي تتوفر له العديد من عناصر النجاح. ويبقى الأمر الأهم هو الوصول إلى حل سياسي في سورية، لإنهاء معاناة السوريين، ولإزالة المخاطر التي يشكلها استمرار الوضع السوري الحالي، وخاصة إعادة إنتاج (داعش) في البادية السورية، ولن يتم القضاء على الإرهاب الذي يصل إلى أوروبا من الخارج، من دون إغلاق نوافذ الإرهاب ومصادره، عبر تحقيق حل سياسي يقوم على الانتقال السياسي الحقيقي في سورية، وهذا الانتقال السياسي يضع أيضًا حدًا للمصدر الرئيس اليوم في العالم لتصنيع المخدرات وتصديرها، بعد أن اتخذ نظام الأسد و”حزب الله” من تصنيع المخدرات وتجارتها مصدرًا ماليًا رئيسًا لخزينته، وأداة ابتزاز لأوروبا ودول الخليج وتركيا، عبر التهديد بإغراق العالم بالمخدرات. وكل هذا يضع على عاتق فرنسا والاتحاد الأوروبي وأميركا مهمّة العمل بجدية أكبر لإطلاق مبادرة تُنتج حلًا في سورية، ولعلّ الأهم في الأمر أن تختط فرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي سياسة مستقلة تجاه القضية السورية، وألا تبقى الولايات المتحدة المتحكّم في سياسة فرنسا وأوروبا تجاه القضية السورية.
[1] ) 1) منطقة سيطرة النظام، 2) منطقة شرق الفرات التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” المعروفة بـ (قسد)، وتسيطر عليها قوات PYD الكردية، 3) مناطق السيطرة التركية الثلاث في شمال غرب سورية، 4) منطقة سيطرة “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقًا) في محافظة إدلب.
[2] ) بموجب التفاهمات الروسية التركية الجديدة، انسحبت قوات المعارضة من حلب الشرقية، وتم تسليمها للنظام في كانون الأول/ ديسمبر 2016، وفي كانون الثاني/ يناير 2017، أطلق مسار آستانة، بشراكة ثلاثية روسية تركية إيرانية، وفي أيار/ مايو 2017، أطلق مسار “خفض التصعيد”، بتوافق روسي تركي إيراني، في المناطق الأربع التي كانت تسيطر عليها قوى معارضة لنظام الأسد، وانتهت الأمور إلى سيطرة النظام بدعم روسي على هذه المناطق، ثم استكمل هذا بمسار اللجنة الدستورية، وترافق معها دخول قوات تركية الى الأراضي السورية، بعد عملية “درع الفرات” في 2017، ثم عملية “غصن الزيتون” في 2018، ثم عملية “نبع السلام” 2019.
[3] ) بات تركيز الإعلام الغربي اليوم على نجاحات السوريين الفردية الفنية والعلمية والثقافية ونشاطاتهم، مثل افتتاح المطاعم والتفوق الدراسي للطلاب، كما تحظى الملاحقات القضائية لمجرمي النظام باهتمام إعلامي واضح.
مركز حرمون للدراسات المعاصرة
موضوع الورشة كان تحليل سياسات فرنسا تجاه الصراع في سورية وعليها خلال السنوات الماضية، والعوامل المؤثر فيها والمشكلة لها واحتمالاتها المستقبلية. وكانت الورشة على أربع جلسات لكل منها محور محدد ضمن هذا السياق: -تشخيص حالة الصراع في سورية الآن، وما يحمله من مخاطر. -تحليل الدور الذي لعبته فرنسا في الصراع في سورية حتى الآن. -التأثيرات المحتملة للحرب الروسية على أوكرانيا على الصراع في سورية. -الدور الذي يمكن لفرنسا أن تلعبه للدفع بحل سياسي لهذا الصراع. وكان التقرير هو خلاصة للنقاشات التي دارت خلالها. لجنة تنظيم الورشة.
مركز حرمون للدراسات المعاصرة
“نعم المعارضة لم تتسلم مقعد سورية في الجامعة العربية، فقط احتلت المقعد في مؤتمر القمة التي عقدت في الدوحة في آذار 2013”. لجنة تنظيم الورشة.
مركز حرمون للدراسات المعاصرة