واشنطن:إلغاء حق الإجهاض..قد يجنب الديموقراطيين خسارة انتخابية كبيرة
المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات
أثار قرار المحكمة العليا الأميركية، في 24 حزيران/ يونيو 2022، إلغاء اعتبار الإجهاض حقًا دستوريًا فدراليًا، حالةً من الاستقطاب في الولايات المتحدة، قبل أقل من أربعة أشهر على انتخابات التجديد النصفي للكونغرس. ويُعدّ هذا القرار تراجعًا عن قرار سابق صادر عن المحكمة العليا عام 1973 نصّ على أن حق المرأة في الإجهاض، ضمن شروط، محميّ بالدستور. وبموجب الحكم الجديد، أصبح من حق كل ولاية منفردة تشريع، أو تنظيم، أو حتى حظر عمليات الإجهاض. وعلى الفور، أعلنت ولايات يسيطر عليها الديمقراطيون أنها ستلجأ إلى تحصين حق الإجهاض في دساتيرها، في حين سارعت أخرى تحت سيطرة الجمهوريين إلى بدء إجراءات حظره أو تقييد شروطه. ويأمل الديمقراطيون أن يساهم رد الفعل على قرار المحكمة، التي يسيطر عليها المحافظون، بواقع ستة قضاة مقابل ثلاثة قضاة ليبراليين، في تحسين فرصهم في الحفاظ على أغلبيتهم في الكونغرس، فضلًا عن الحفاظ على حاكمية بعض الولايات، في مواجهة استطلاعات الرأي التي تتنبأ بفوز جمهوري في الانتخابات النصفية المقبلة.
رهانات الديمقراطيين وحساباتهم
يسعى الديمقراطيون لإعادة تعريف الخلفية التي ستجري على أساسها الانتخابات النصفية، من كونها استفتاءً على الأوضاع الاقتصادية المتردية وتنامي معدلات التضخم تحت إدارة الرئيس جو بايدن، إلى أن تكون استفتاءً على التوجه المحافظ للمحكمة. ويطمحون إلى أن تحفّز هذه الخلفية الجديدة قواعدهم والناخبين المستائين من أداء إدارة بايدن اقتصاديًا، وخصوصًا أن قرار المحكمة العليا حول الإجهاض يأتي ضمن سياق أعمّ يسعى من خلاله الجمهوريون لإعادة صياغة جملة من القيم والتوجهات والسياسات المجتمعية بما يتناسب مع رؤيتهم.
وكانت المحكمة العليا أسقطت، قبل يوم واحد من حكمها في قضية حق الإجهاض (23 حزيران/ يونيو)، قانونًا في ولاية نيويورك يحدّ من قدرة المواطنين على حمل السلاح في الأماكن العامة، على الرغم من تصاعد أعمال القتل العشوائي بالأسلحة النارية في الولايات المتحدة، وتمرير الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس قانونًا يضع بعض الضوابط على من يحقّ له حمل السلاح. وفي قضية أخرى، ألغت المحكمة، في 27 حزيران/ يونيو، الحظر المفروض على إقامة الصلوات العامة في المدارس الحكومية على أساس أنها “حرية فردية”، ولا تدخل ضمن نطاق الفصل بين “الكنيسة والدولة”. وفي 30 من الشهر نفسه، وضعت المحكمة قيودًا تحدّ من قدرة وكالة حماية البيئة على تنظيم انبعاث الغازات السامة وثاني أكسيد الكربون. وفي كل هذه الحالات، كان التصويت داخل المحكمة على أساس أيديولوجي؛ ستة محافظين مقابل ثلاثة ليبراليين.
ويحذّر الديمقراطيون قواعدهم الانتخابية من أن خسارتهم الكونغرس في الانتخابات المقبلة قد تعني مزيدًا من التوجهات الاجتماعية المحافظة وإلغاء القوانين التي تضمن حق المساواة للأقليات في الاقتراع. ويعيد الديمقراطيون إلى الأذهان نجاح الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، في عام 2016، في منع الرئيس الأسبق، باراك أوباما، من تعيين وزير العدل الحالي، ميريك غارلاند، قاضيًا في المحكمة العليا بعد وفاة القاضي المحافظ، أنتونين سكاليا، ليأتي بعد ذلك الرئيس، دونالد ترامب، ويملأ الشاغر. كما يُذكّرون بتمكّن ترامب والجمهوريين من تعيين قاضيَين محافظَين آخرَين بعد ذلك في المحكمة العليا، بسبب سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ. ويقول الديمقراطيون إن تعزيز أغلبيتهم الضئيلة في مجلس الشيوخ سيمكّنهم، إن حافظوا على مجلس النواب أيضًا، وفي ظل إدارة ديمقراطية، من سنِّ وتمرير قوانين تعيد تشريع قانون الإجهاض، وقوانين أخرى على الصعيد الفدرالي. وتواجه الأغلبية الديمقراطية الضئيلة الحالية في مجلس الشيوخ (50-50، مع صوت مرجّح لنائبة الرئيس كاميلا هاريس) تحدّيًا كبيرًا في ظل رفض عضوَين ديمقراطيَين، هما جو مانشين، من ولاية ويست فيرجينيا، وكيرستن سينيما، من ولاية أريزونا، الموافقة على تمرير قانون يحمي حق الإجهاض بالأغلبية البسيطة، من دون الحاجة إلى 60 صوتًا. ومن هنا، جاء تصريح بايدن الذي قال فيه إن الإجهاض سيكون “على قائمة الاقتراع هذا الخريف. الحريات الشخصية ستكون على قائمة الاقتراع”.
ويراهن الديمقراطيون في هذا السياق على أمرين: الأول، تراجع التأييد الشعبي للمحكمة العليا، التي يفترض أن تكون قراراتها غير مسيّسة وتعمل على تفسير نصوص الدستور من دون تحيزات. لكن هذا يكاد يكون غير ممكن، لأن من يقوم بتسمية قضاتها هو الرئيس، في حين يصدّق عليهم مجلس الشيوخ، وهو ما يعني بالضرورة وجود اعتبارات أيديولوجية وسياسية في هذه العملية. وقد شهد العقد الأخير مزيدًا من التسييس للمحكمة العليا إلى الحد الذي دعا البعض إلى التشكيك في شرعيتها ومساءلة أحكامها.
وبحسب استطلاعٍ للرأي أجرته Reuters/Ipsos بعد قرار المحكمة إلغاء اعتبار الإجهاض حقًا دستوريًا، فإن نسبة من يقيّمون المحكمة تقييمًا إيجابيًا تراجعت إلى 43 في المئة في مقابل 57 في المئة يقيّمونها تقييمًا سلبيًا. ويُظهر الاستطلاع بونًا واسعًا بين الديمقراطيين والجمهوريين في هذا الصدد؛ إذ قال 60 في المئة من الديمقراطيين إن تأييدهم للمحكمة العليا تراجع عما كان عليه قبل ستة أشهر، في مقابل 23 في المئة فحسب من الجمهوريين. الأمر الثاني الذي يراهن عليه الديمقراطيون أن استطلاعات الرأي تُظهر أن غالبية الأميركيين يعارضون قرار المحكمة بنسبة 59 في المئة، في مقابل 41 في المئة يؤيدون القرار، وبناء عليه، يأمل الديمقراطيون أن يأخذ الناخبون قرار المحكمة العليا، وتأييد الجمهوريين له، في الاعتبار في الانتخابات القادمة.
الاقتصاد أم حق الإجهاض؟
تشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية الأميركيين ترى أن الاقتصاد هو العامل الأكثر أهمية في تحديد وجهة تصويتهم في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. وبحسب استطلاع أجرته USA Today/ Suffolk University، قبل صدور قرار المحكمة الذي سُرِّب نصّه في أيار/ مايو 2022، أكد 59 في المئة من المستجيبين أن تصويتهم سيكون على أساس الاقتصاد، في مقابل 29 في المئة قالوا إنهم سيصوتون على أساس الموقف من الإجهاض. وأشار 7 من كل 10 أشخاص إلى أن قرار المحكمة لن يكون له تأثير في اختيارهم في الانتخابات المقبلة. ويُظهر الاستطلاع نفسه أن نسبة التأييد الشعبي لأداء الرئيس بايدن تبلغ 39 في المئة، في حين يقول 47 في المئة إنهم لا يثقون بقيادته. وإضافة إلى ذلك، يرى 71 في المئة من الأميركيين أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ، وتعكس هذه النسبة مستوى القلق الذي يسيطر عليهم، وهي عادة ما تقود إلى انتكاسات انتخابية للحزب الذي يسيطر على البيت الأبيض والكونغرس. ولا تقف مشكلات الديمقراطيين عند هذا الحد؛ إذ يشير تحليل أجرته وكالة أسوشيتد برس إلى أن أكثر من مليون ناخب في 43 ولاية قد تحولوا إلى الحزب الجمهوري في العام الماضي، على نحو أساسي في ضواحي المدن. وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد يعني ذلك أن عشرات الآلاف من ناخبي الضواحي الذين كانوا قد انقلبوا على ترامب في انتخابات عام 2020 ربما عادوا إلى الحزب الجمهوري.
ومع ذلك، تبقى هناك فرصة أمام الديمقراطيين إذا نجحوا في وضع القضايا الثقافية والقيم الديمقراطية في قلب المعركة الانتخابية المقبلة واستغلوا مخاوف جزءٍ لا يُستهان به من الأميركيين، وخصوصًا بين النساء المستقلات المقيمات في الضواحي والنساء اللائي يحملن درجات جامعية، من التوجه المتزايد نحو أجندة يمينية محافظة يحاول فرضها جناح يميني متطرف في الحزب الجمهوري. ولا يُخفي الجمهوريون قلقهم من هذه الإمكانية، فقد نُقل عن ترامب قوله إن قرار المحكمة العليا قد يكون “سيئًا بالنسبة إلى الجمهوريين”. وبحسب استطلاعٍ للرأي أجرته NPR-Marist، فإن 71 في المئة من النساء البيض الحاصلات على تعليم جامعي يؤيّدن حق الإجهاض، في حين قالت 66 في المئة من النساء اللاتي يعشن في الضواحي إنهن يعارضن قرار المحكمة، وهاتان كتلتان تصويتيتان مهمتان لكلا الحزبين في الانتخابات. في حين يشير استطلاع آخر أجرته Emerson College بالشراكة مع All In Together، إلى أن 38 في المئة من الناخبين قالوا إن إلغاء المحكمة العليا اعتبار الإجهاض حقًا دستوريًا جعلهم أكثر اهتمامًا بالتصويت هذا العام، في حين قال 56 في المئة إن القرار جعلهم مهتمين، إلى حد ما، بالتصويت. لكن الأكثر أهمية هنا هي نسبة الـ 60 في المئة بين النساء اللائي تُراوح أعمارهن بين 18 و29 عامًا وقلن إن قرار المحكمة سيجعلهن أكثر اهتمامًا بالتصويت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. وهذه هي الشرائح التي يراهن عليها الديمقراطيون. وبالفعل، بدأت اللجان السياسية الانتخابية المرتبطة بالحزبين الديمقراطي والجمهوري في إنفاق ملايين الدولارات على حملات إعلانية مؤيدة للإجهاض أو معارضة له، وخصوصًا في ثلاث ولايات ترجيحية، هي ميشيغان وويسكونسن وبنسلفانيا.
خاتمة
سيكون الاقتصاد ونسب التضخم العالية وأسعار الوقود المرتفعة، على الأرجح، العوامل الأكثر أهمية في تحديد وجهة الانتخابات الأميركية النصفية المقبلة، وسيصبّ ذلك في مصلحة الجمهوريين؛ على اعتبار أن الديمقراطيين يسيطرون على البيت الأبيض والكونغرس، وإذًا، سيجري تحميلهم نتائج الوضع الاقتصادي الصعب شعبيًا. لكن، إذا استطاع الديمقراطيون استغلال ردود الفعل السلبية التي أثارتها قرارات المحكمة العليا الأخيرة، وخصوصًا في ما يتعلق بمسألة الإجهاض، فقد يتمكنون من تجنّب خسارة انتخابية كبيرة، وبخاصة في ضوء توجه عدد من اللجان السياسية الكبرى المؤيدة للإجهاض إلى إطلاق حملة إعلانية بقيمة 150 مليون دولار حتى يوم الانتخابات.