ذكرى ستانلي كوبريك.. المخرج الذي طوّع الخيال والتاريخ/ عبد الكريم قادري
العبقرية في الفنون والآداب شيء نسبي، من الصعب على المُتلقي فهمها وتحديد الأسباب النهائية التي ولّدتها، وكل ما يتم تحديده يبقى مجرد تكهنات، قابلة لأن تكون حقيقية وقابلة لأن تكون لا، كلها أو جزء منها، لكن هذا ما لا يحدث عادة في النتائج العلمية التي يصل لها علماء الرياضات والفيزياء وغيرها من العلوم الأخرى التي تعتمد على الأرقام ولغة الحساب. وأن تفسّر وتبحث عن أسباب عبقرية المخرج ستانلي كوبريك أمر صعب ونسبي، لكن يمكن أن تعثر على ما يميزه عن الآخرين، وربما لن تصل لنتيجة ترضي وتقنع جميع الأطراف، أو كما قال الكاتب والسيناريست الأميركي فريدريك رافائيل (90 سنة): “إن أكثر ما يميز المخرجين المميزين هو أنه من المستحيل فهم تميزهم”، فقد تجد بعض البشائر أو الهالات الوجدانية التي يتركها كل فيلم من أعمالهم لدى المشاهد، وهي عادة ما تجعل الناقد السينمائي يبحث عن تفسيرها وتحديدها ورسم معالمها بشكل مقنع، لكن مهما اجتهدت فلا يمكن بلورة حوصلة نهائية على هذا التميز وعلى تلك العبقرية، لكن هذا لا يمنع رصد بعض النقاط التي يمكن ان تلخص تجربة هذا المخرج، لأن العبقرية حسب بعض المفكرين الذين تحدثوا عن الفلسفة في السينما هي الاستعداد الفطري للتغير، وهي الموهبة التي تدفع إلى التغيير وترك البصمة، وهذا ما قاله الأكاديمي والناقد الروسي أوليغ أورسون في سياق الدراسة التي نشرتها زميلته الباحثة كسينيا بيريتروخين بعنوان “فلسفة ستانلي كوبريك: من أليكس إلى باري ليندون والعكس” حين استشهدت بمقولته من خلال حديثه عن التميز، حيث قال بأن “العبقرية هي القدرة الفطرية للروح (الإبداع)، ومن خلالها تعطي الطبيعة قواعد للفن”، ومن هنا يجرد أوليغ المبدع أو المخرج من التكوينات الأكاديمية والتجارب وغيرها من المسارات التي يمر عليها المبدع، وهذا بعد أن ربط العبقرية بالاستعداد الفطري والموهبة، وهو الأمر الذي أكده الكاتب السينارسيت فريدريك رافائيل الذي تحدث عن موهبة ستانلي كوبريك، خاصة وأنه اقترب منه كثيرًا، وتعاون معه في كتابة سيناريو آخر أعماله السينمائية، وهو فيلم “عيون مغمضة على اتساعها” (159 دقيقة، 1999)، حيث قال عنه: “ما أفهمه هو أن كوبريك يعتبر نفسه مخرجًا عبقريًا أكثر من كونه عبقريًا تحوّل إلى مخرج. وكما هي الحال غالبًا مع المخرجين الجيدين، ربما أجد أنه يتوقع مني فقط تعويض نقص قدرته”.
من هنا تنعكس قدرة كوبريك وعبقريته، خاصة من خلال مقدرته على بلورة الأفكار الكبيرة إلى صورة سينمائية، وتجسيد العديد من المبادئ الأساسية في حياة البشر، مثل الحرية والعدل والمساواة والظلم واكتشاف المجهول، وتحويل العديد من المفاهيم الأخرى إلى صور تعبيرية، وهذا ما أكده زميله رفائيل من خلال قوله بأن كوبريك يملك القدرة على تحويل “مادية الحرية على وجه التحديد إلى صورة تكمل الإمكانيات التعبيرية، وتسمح لنا باكتشاف الفكر من خلال السينما حيث لم نكن نعرفها بتلك الصورة من قبل”.
عاش ستانلي كوبريك 71 سنة (1928-1999)، ولو لم يغيّبه الموت لكنا نحتفل هذه الأيام بعيد ميلاده الـ94 (ولد يوم 26 تموز/يوليو)، من هنا وجب طرح سؤال عبثي، ما الذي كان سيحققه في الـ23 سنة التي تفصل بين تاريخ وفاته والزمن الحالي؟ طبعًا الإجابات ستكون متعددة، وهناك من سيقول بأنه سيحقق الكثير خلال تلك السنوات، وأنا أتفق مع هذا القول، لكن هل يجب مثلًا أن نذهب صوب خانة الاحتمالات ونترك الإرث السينمائي الكبير الذي تركه خلفه، وهي المعطيات التي جعلته عبقريًا في مجاله، وتنعكس تلك العبقرية في مجملها من خلال الابتكارات أو الحلول العملية التي يجدها في كل فيلم، ومعظمها لم يسبقها له أحد، لهذا تحوّل كل فيلم من الأعمال التي أخرجها إلى مدرسة سينمائية، يتم النهل منها على مدى الأجيال، وهذا على مستوى العديد من الاتجاهات، خاصة في الاتجاه الفكري، وهذا ما نجده مثلًا في فيلمه الخالد “أوديسا الفضاء: 2001” (161 دقيقة، 1968)، الذي سبق عصره بعشرات السنوات، وأصبحت بعده أفلام الفضاء والخيال العلمي تيارًا سينمائيًا، خاصة من خلال طرح الأسئلة الاستشرافية، وكيفية تعامل الانسان مع الآلة، وأسرار الكون والمجرات، ومحاولة إثبات أن الإنسان يمر عبر العديد من المراحل المهمة، من بداية الخلق إلى غاية أن يقع في يد اختراعاته ليصبح عبدًا لها، إضافة إلى الأسلوب السينمائي الفريد الذي يعتمده في البناء وطريقة السرد التيحوّله إلى حكواتي ماهر.
كوبريك والرواية.. علاقة نديّة بين الأدب والسينما
نسج ستانلي كوبريك علاقة قوية بين الفن والأدب، لهذا استطاع أن يحوّل العديد من الروايات إلى أفلام سينمائية، بل إن معظم أفلامه تم اقتباسها من الرواية، لكنه يعطيها قراءة ومعالجة خاصتين، يشحن فيها تجاربه ورؤاه السينمائية، وهو الأمر الذي عكسه في فيلم “القتل” (83 دقيقة، 1956) الذي اقتبسه من رواية “استراحة نظيفة” للكاتب الأميركي ليونيل وايت (1905 – 1985)، وهو ثالث أعمال كوبريك السينمائية، بعد فيلم “الخوف والرغبة” (62 دقيقة، 1953) الذي يعد باكورة أعماله، والثاني هو فيلم “قبلة القاتل” (67 دقيقة، 1955)، والفيلمان للكاتب والسيناريست هوارد ساكلر (1929–1982)، والمميز في العملين هو أن كوبريك من أنتج وصور وقام بالمونتاج، وكذلك فيلم “دروب المجد” (88 دقيقة، 1957)، الذي قدّم فيه نقدًا لاذعًا للحرب وصنّاعها، وقد تم اقتباس قصته من رواية تحمل نفس العنوان للكاتب والروائي همفري كوب (1899- 1944)، وفيلم “سبارتاكوس” (184 دقيقة، 1960) وهو من أفلامه الخالدة، هو عمل ملحمي كتبه دالتون ترامبو، تم اقتباسه من رواية تحمل نفس الاسم من قبل هوارد فاست (1914–2003) ويروي الفيلم حسب ما جاء في ملخصه “قصة حياة العبد سبارتاكوس الذي ثار على الحياة غير الآدمية التي كان يعيشها العبيد في ظل الإمبراطورية الرومانية، وقاد ثورة العبيد الثالثة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية من أجل نيل حريتهم، وكلما تقدموا في طريقهم في البلاد كلما انضم إليهم الآلاف من العبيد من كافة أنحاء الإمبراطورية المترامية الأطراف حتى أصبحت الثورة التي كان يظن الرومان في البداية أنها بمثابة وخزات من بعض الحشرات – شوكة قوية تهدد كيان الإمبراطورية القوية، وأصبح لازمًا وضع حد لها مهما تكلف الأمر”.
كما اقتبس قصة فيلم “لوليتا” (152 دقيقة، 1962) من رواية تحمل نفس العنوان للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف (1899-1977)، إضافة إلى فيلم “دكتور سترينجلوف” (94 دقيقة، 1964) الذي تم اقتباسه من رواية تحمل عنوان “حالة استعداء قصوى” للكاتب بيتر جورج (1924-1966)، واقتبس قصة فيلم “أوديسا الفضاء: 2001” من رواية خيال علمي للكاتب آرثر كلارك (1917–2008)، وهذا ما فعله مع فيلم “البرتقالية الآلية” (136 دقيقة، 1971) والتي اقتبسها من رواية تحمل نفس العنوان للكاتب أنتوني برجس (1917-1993)، كما اقتبس قصة فيلم “باري ليندون” (184 دقيقة، 1975) من رواية تحمل عنوان “حظ باري ليندون” التي كتبها وليام ميكبيس ثاكري سنة 1844، وهو نفس الشيء الذي فعله مع فيلم “البريق” (144 دقيقة، 1980) الذي اقتبسه من رواية ستيفن كينغ (1947-)، وكذلك فعل مع فيلم “فول ميتال جاكيت” (116 دقيقة، 1987) الذي اقتبسه من رواية تقترب من السيرة الذاتية بعنوان “أوقات قصيرة” كتبها الجندي السابق في الجيش الأميركي جوستاف هاسفورد (1947–1993)، وهو نفس الأمر الذي فعله مع آخر أفلامه “عيون مغمضة على اتساعها” والتي اقتبسها من رواية تحمل عنوان “قصة حلم” للكاتب النمساوي آرثر شنيتزلر (1862-1931).
من خلال العملية الإحصائية التي قمنا بها وجدنا بأنه من بين الـ14 فيلمًا التي أخرجها كوبريك 12 منها تم اقتباسها من أعمال روائية، وهذا ما يعكس ثقافة كوبريك في الاطلاع وثقته الكبيرة في ما تقدمه المدونة الأدبية، من هنا يظهر بأنه غير متزمت للرأي الذي ينتصر لصفاء السينما وعدم خضوعها للأدب، بل نسج بينهما علاقة تعاون وندّية، كما اعتمد في خمسة من أفلامه على الرواية حتى تُعينه في بعض الأحيان على تشكيل الأحداث وفي نفس الوقت يشحن من خلالها خيال المتلقي ويرسم له صورًا أخرى غير تلك التي يراها أمامه في الصورة، وقد اعتمد على هذه الخاصية في خمسة من أفلامه، أي جعل من الراوي دعامة أساسية في تشكيل الأفلام المذكورة وبنائها.
ولفهم أفلامه أكثر نقدّم قراءة لبعض النماذج من تلك الأفلام والتي تركت بصمة واضحة في تاريخ السينما.
“دروب المجد”.. الحرب من وجهة نظر مختلفة
معظم الأفلام التي تطرّقت إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية عالجتها من وجهة نظر تمجيدية، سواء كمعركة أو إحياء دور بطل أو واقعة ما، لكن في فيلم “دروب المجد” 1957 لستانلي كوبريك كسر تلك السردية، واشتغل على تفاصيل الواقع بخيره وشرّه، ووجّه انتقادًا لاذعًا لما يجري داخل الجيوش تحقيقًا لنزوة جنرال أو هدف سياسي أو حربي والضحية دائمًا هم الجنود بوصفهم آخر من على السلم، تطرق فيه لدور وحدة عسكرية فرنسية تحاول أن تبلغ تلة آنت التي يسيطر عليها الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى، ورغم أن الأمر كان مستحيلًا من الناحية العملية غير أن قائد الوحدة أمر بالهجوم تحقيقًا لرغبة من هو أكثر منه رتبة، طمعًا في رتبة أعلى، وعندما خسرت الفرقة أراد الجنرال الانتقام من خلال إعدام مئة شخص بتهمة الجبن، لكن قائد المجموعة الكورونيل داكس (كيرك دوغلاس) وقف في وجهه ورفض، وبعد مفاوضات تم الاتفاق على إعدام ثلاثة أشخاص من اختيار قادة الفرق، وهذا ما حدث، وقد تم اختيار المعنيين بالقرعة أو عن طريق الولاء أو لغايات شخصية، بعيدًا عن الجبن أو الشجاعة، والمحزن أن أحدهم لديه العديد من الأوسمة الحربية نظير شجاعته، والثاني تم اختياره من قائده لأنه كان شاهدًا على جبنه وقتل زميله عن طريق الخطأ، أما الثالث فقد تم اختياره لشكله وغرابته حتى لا يتم التأثير على باقي الفرقة، وأقيمت لهم محاكمة عسكرية بدون سجلات اتهام مكتوبة وحكم عليهم بالإعدام، لكن الكولونيل الذي ترافع عنهم لم يسكت بعد تنفيذ الإعدام وقبله، وقد سعى لفتح تحقيق حول الجنرال الذي أمر قائد المدفعية بأن يقصف جيشه، ليتم التضحية به هو الآخر ككبش فداء يحمل على ظهره فشل الفرقة ككل.
فيلم “دروب المجد” الذي تم اقتباسه من رواية تحمل نفس العنوان للكاتب همفري كوب (1899-1944) يحمل همًا إنسانيًا مشتركًا، وقد استطاع كوبريك بمعالجته الذكية أن يحافظ على الرواية وينقل معانيها، وأكثر من هذا سكب في الفيلم نفس المخرج السردي وسخريته وعبثية التاريخ والحروب.
“القتل”.. حين يتعاطف المشاهد مع اللصوص
تنعكس جمالية فيلم “القتل” (83 دقيقة، 1956) الذي أخرجه وكتبه ستانلي كوبريك في طريقة البناء المتشابك والدقيق، تحس أنك أمام شخص يعرف جيدًا دور الهيكلة الجيدة في تقديم أي عمل، انطلاقًا من قصة بسيطة ومكررة، لكنها مختلفة ومميزة عندما قدمها بطريقة خلاّقة، ويعود الفضل الثاني إلى اختيار الممثلين الذي ابتعد فيه كوبريك عن الممثلين الوسيمين وأصحاب العضلات المفتولة، بل اختار مجموعة لديها سمات خاصة، من خلال طريقة الكلام أو التعبير أو قوة الملامح، وأكثر من هذا اعتمد على وتيرة سريعة في المونتاج والتنقل من مشهد لآخر بطريقة سلسة وبدون إطالات يمكن أن تخلق نوعًا من الملل وتخنق التفاصيل، خاصة وأن هكذا نوعية من الأفلام يمكن أن تقتل لذة المشاهدة بسهولة في حال كان هناك نوع من الملل، وقد اعتمد على خاصية التلاعب بالزمن من خلال التركيز على مشهد البداية والعودة إلى الخلف لقص حكاية كل فرد من العصابة، لتنتهي عملية القص مع بداية عملية السطو الكبير، حيث أنه تقدم وتأخر زمنيًا العديد من المرات، لكن هذا الاختلاف الزمني لا يجرح ولا يقطع خيط المشاهدة، بل قوّاه وجعله أكثر جدوى وفاعلية، أما القصة ورغم بساطتها وبعيدًا عن كون أفرادها مجرمين، فإن كوبريك كعادته لا يسلبهم إنسانيتهم وعاطفتهم، وتعامل معهم بشكل محايد، لم يدن اللصوص ولا السرقة والتعامل معها كجريمة، وكأنه أجاز عملية السرقة كون الهدف هو أموال المراهنة على الأحصنة، أي لعبة قمار، لكن في الأخير ولأن المال جاء بسهولة طيّرته الرياح عاليًا في آخر لحظة من العملية بعد أن تم تنفيذها بنجاح.
قصة الفيلم وحسب ما جاء في ملخصه ترتكز حول: “جوني كلاي (سترلينغ هايدن) مجرم يخطط لعملية سطو أخيرة قبل أن يترك عالم الجريمة ويتزوج من صديقته ويعيش حياة الاستقرار. يبدأ جوني التخطيط لسرقة مليوني دولار من غرفة عد الأموال في حلبة سباق الأحصنة، فيُعد فريقًا مُكوَّنًا من شرطي فاسد وصراف رِهان من أجل أن يساعداه في الدخول إلى الغرفة، إضافة إلى قناص لكي يطلق النار على أفضل حصان في السباق، فيصرف انتباه الجمهور، وأحد المصارعين”.
“لوليتا”.. أزمة أستاذ جامعي في منتصف العمر
ذهب كوبريك في فيلم “لوليتا” (Lolita) (152 دقيقة، 1962) في اتجاه علاقات الحب المعقدة التي تحدث عادة بين شخصين مختلفين في العمر والاهتمام والثقافة، وكأن كوبريك يطرح سؤالًا جوهريًا اهتم به الإنسان منذ الأزل، وهو ما الذي يمكن أن يحدث بين رجل في منتصف العمر عرف الدنيا وخباياها وبين مراهقة لم تخرج بعد من مرحلة الطفولة ولم تعرف من الحياة سوى قشورها ومباهجها، هل سيستمر حبل الود هذا؟ أم هناك العديد من الأسباب التي تقطعه؟
كان ستانلي في هذا الفيلم أكثر دقة، قدّم تفسيرًا عمليًا للعناصر التي تحيط بهذا المحب، وهو هامبرت (جيمس ماسون)، أستاذ جامعي بريطاني يدرس منهج الشعر في جامعة أميركية، شاعر ومحب للأدب، أما المراهقة الشقراء فهي ابنة شارلوت (شيلي ونترز) أرملة يائسة متعطشة لعلاقة جنسية تذهب عنها سنوات الوحشة العاطفية التي تركها فيها زوجها الراحل، وصادف أن كان هامبرت في بيتها يبحث عن غرفة ليؤجرها حتى مرور فصل الصيف، كان مترددًا في أول الأمر، لكن عندما رأى لوليتا بلباس السباحة في الحديقة غيّر رأيه وقبل الأمر، ليتزوج بالأرملة وعينه على المراهقة التي رأى بأن الزواج سيقربه منها أكثر، وتشاء الصدف أن تطلع شارلوت على مذكراته وتقرأ أوصافه القبيحة في حقها، تخرج غاضبة من البيت وتصدمها سيارة على الفور، ليخلو الجو بعدها لهامبرت الذي فكّر أصلًا في قتلها، أصبح الآن في مواجهة مباشرة مع لوليتا التي جلبها من المخيم الصيفي ودخل معها في علاقة جنسية عند عودته وإقامته معه في البيت، لكن هناك العديد من المعطيات التي ستهدم هذه العلاقة الشاذة، إذ كانت الفتاة بمثابة ابنته، على الأقل من وجهة نظر المجتمع والأخلاق والمحيط الذي يعيش فيها، لكن شك الناس كبر، وجمال المراهقة أغوى حتى الكاتب المسرحي كلير كويكلي (بيتر سيلرز) الذي تقمص العديد من الشخصيات لإرهاب هامبرت وتخويفه ليسيطر على لوليتا، أدى دور طبيب نفسي من المدرسة وقد ضغط عليه ليجعلها تشارك في مسرحيته، وكذلك أدى قبله دور شرطي محقق، وكل هذا ليحلو له الجو وينفرد بلوليتا التي سرقت هو الآخر قلبه، لكن في حالته فقد كان حبًا متبادلًا، أما في حالة هامبرت فقد كان بمثابة الحماية لها من دور الأيتام والطيش.
ذهب كوبريك في هذا الفيلم إلى أماكن عميقة في شخصية المثقف/ الكاتب، لكنه لم يدنه أو يحكم عليه، فقط قدّم المعطيات كما هي وتركها في سياقها الدرامي، وكأنه يحاول أن يفك شيفرات روحه المتشظية والهائمة في ملكوت الخيال والواقع ويترك الأمر للمتلقي ليحكم بنفسه انطلاقا من معاني المشاهد ورؤى الفيلم ككل.
فيلم “لوليتا” صرخة الحب المكتوم والمستحيل، هي بجماليون جديدة نحتها كوبريك عن طريقته، وهذا بالتعاون مع الروائي فلاديمير نابوكوف الذي كتب معه السيناريو، وهو صاحب الرواية التي اقتبس منها العمل، ولقد حذفت الرقابة الأميركية الكثير من المشاهد من السيناريو، من بينهما مثلًا أن كوبريك لم يضع سنًا للمراهقة، لكن الممثلة سو ليون التي أدت الدور كان عمرها في ذلك الوقت 14 سنة، كما تم حذف العديد من المشاهد الجنسية التي استطاع كوبريك أن يوحي بها دون أن يتحدى هذا المنع.
“أوديسا الفضاء”.. صراع الانسان مع العالم الخارجي
ولّد ستانلي كوبريك في فيلمه الخالد “أوديسا الفضاء: 2001” (161 دقيقة، 1968) شحنات جمالية بصرية لا تنتهي، تُغذي العين وتزرع في الروح خيوطا ممتدة من اللذة القصوى، تذهب بالمتلقي صوب اللون والشكل والطقوس البصرية الجديدة، يعرف من خلالها قيمة الموجودات التي خلقها كوبريك وفريقه انطلاقا من الخيال الجامح والجنون الفني الذي يسكنه، وأكثر من هذا فتح في فيلمه هذا العشرات من أبواب التأويل ذات المنطلق الفلسفي التي تبحث في قيمة الإنسان والوجود والمآلات والحداثة والتكنولوجيا والفضاءات الخارجية الممتدة التي تخبئ هي الأخرى ملايين الأسرار التي لا يعرفها البشر، فقط اجتهادات الخيال والرؤيا الجامحة، كما فتح حوارية فكرية بين الإنسان والآلة، أيهما الأبقى ومن هو صاحب اليد العليا الذي سيقضي على الآخر، هل الآلة التي خلقها الإنسان لخدمته ستتمرد عليه وتتسيد عليه، أو يبقى الإنسان هو صاحب الفضل في تسييرها وتكييفها حسب مقتضياته ومتطلباته، لكنه ووسط هذه المعطيات المخيفة يشرع كوبريك شق الباب ليدخل منه القليل من الأمل ليظهر من خلاله تفوق الإنسان وتغلبه.
كان كوبريك في هذا الفيلم رجلا رائيا، أخذ من الماضي أساطيره ومن حاضره أسئلته الملتهبة التي تراود الإنسان، ومن الموسيقى أعذبها وأكثرها قلقا وعمقا، جمع هذه الأشياء وأخرى وشكّلها بريشة العارف بالهدف والمبتغى، وأخذ يرسم طريق النجاح على مهل، حيث استدعى في ذلك الوقت أكثر كتاب الخيال العلمي موهبة وهو آرثر سي كلارك، وبدآ معا رحلة كتابة الرواية والسيناريو، كل فرد ينهل من معارفه لرسم اللوحة النهائية، ليصدر في الأخير الفيلم والرواية، ليكون في جنريك الفيلم حسب مقترح كوبريك: “سيناريو ستانلي كوبريك وآرثر كلارك، مأخوذ من رواية لآرثر كلارك وستانلي كوبريك”، كما كتب كلارك لاحقا: “أقرب توصيف للحقيقة يمكننا طرحه هو أن السيناريو كان ينبغي أن ينسب إلى ’كوبريك وكلارك’ وأن تنسب الرواية إلى ’كلارك وكوبريك’”.
ضفة ثالثة