منوعات

أرشيف العرب بين إسطنبول ولندن وباريس… وتل أبيب/ سامي مروان مبيض

في نهاية العام 2006، أطلقت جامعة سانت أندروز الإسكتلندية، مركزاً للدراسات السورية، كان ولا يزال تحت إشراف البروفيسور المعروف ريموند هينبوش. كان عملاً ريادياً بكل المقاييس، يهدف إلى نشر الدراسات وحثّ الباحثين، الجدد منهم والقدامى، على وضع أبحاث علمية رصينة، في السياسة والتاريخ والاقتصاد. ولكنه لم يكن الأول من نوعه، بعد افتتاح مركز مماثل للدراسات الخليجية في جامعة أكستر منذ سنة 1978.

وخلال السنوات العشر الأخيرة، ازداد الطلب وبشكل كبير جداً على الدراسات السورية، وقد فُتحت لها أقسام في عدة مراكز أبحاث عالمية. المشكلة إذن ليست في توفر الحاضنات العلمية، بل في الأرشيف السوري بحد ذاته، الورقي منه والبصري، المبعثر هنا وهناك، والذي لم يتمكن أحد من جمعه في مكان واحد حتى الآن. ينطبق هذا الكلام على الأرشيف اللبناني، العراقي والمصري أيضاً.

من يريد البحث في تاريخ منطقتنا المعاصر عليه التوجّه إلى ثلاث مدن رئيسية: إسطنبول، باريس ولندن. العثمانيون، عند انسحابهم من دمشق سنة 1918، أخذوا معهم كل ما يتعلق بتاريخ تواجدهم في سورية على مدى أربعة قرون من الزمن. وكل هذه الوثائق محفوظة بشكل ممتاز في تركيا، ومتوفرة لكل من يريد الدخول عليها، ولكنها طبعاً باللغة التركية حصراً.

في مدينة نانت الفرنسية هناك أرشيف ثان، يعود إلى السنوات 1920-1946، وهي مرحلة الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان. يجد فيه الباحثون تقارير دبلوماسية وأمنية، مع مراسلات خاصة وحكومية، حول أوضاع بلدان المشرق الاجتماعية والسياسية، جميعها باللغة الفرنسية. أمّا عن المعاهدات، فهي محفوظة في قسم خاص في وزارة الخارجية الفرنسية في باريس.

وحده الأرشيف العسكري الفرنسي متوفر بشكل كامل على شبكة الإنترنت، وفيه آلاف التقارير العسكرية، عن الثورات السورية ضد فرنسا، ومراسلات الضباط الفرنسين المرسلة من دمشق وحلب وبيروت إلى باريس. نجد فيها تقارير أمنية ودراسات عسكرية، مع شرح مفصّل لما كان يدور في ذهن هؤلاء الضباط خلال فترة عملهم في الشرق الأوسط.

أمّا عن الأرشيف البريطاني (The British National Archives) فهو محفوظ في لندن، وفيه مجموعة كبيرة جداً من الوثائق المتعلقة بالوطن العربي، تصل إلى الملايين. الإنكليز كانت تقاريرهم أعمق وأدق من تقارير الفرنسيين، وهي محفوظة بشكل أمتن من الأرشيف الفرنسي، حيث لا يحق للباحثين مثلاً تصوير المستندات بكاميرات هواتفهم الذكية، ولا حتى إدخال قلم حبر معهم لكيلا يعبث أحداً بهذه الوثائق التاريخية. من يُريد نسخ أي معلومة فعليه إما تدوينها بقلم رصاص حصراً أو الطلب من الموظف المسؤول سحبها بواسطة “سكانر” لقاء مبلغ مالي رمزي. بعض هذه الوثائق نشر في كتاب جمعه الصحفي البريطاني باتريك سيل، ولكن غالبيتها لا تزال محفوظة في لندن، لا يراها إلى من يذهب إلى مقرها في “كيو غاردنز”.

الأرشيف الإسرائيلي

من المفترض أن يكون أرشيف إسرائيل العسكري والأمني أغنى من أرشيف كل من لندن وباريس وإسطنبول، تحديداً فيما يتعلق بمرحلة ما بعد سنة 1948. ولكنه “مُقفل” بقرار رسمي من كل الحكومات المتعاقبة في تل أبيب، وكان آخرها حكومة بنيامين نتنياهو التي رفعت مدة حجب الوثائق من ثلاثين إلى سبعين سنة. وقد برر المؤرخ الإسرائيلي جوشوا فرويندلش هذا القرار قائلاً:

“أنا مقتنع، وتحت الظروف الراهنة، بأن هذه الأوراق لا تصلح للمشاهدة العامة”. وقد اتخذ هذا القرار بعد أن قامت إسرائيل بفتح بعض ما لديها من وثائق حول حرب فلسطين الأول سنة 1948، وسمحت لبعض المؤرخين الإسرائيليين بالاطلاع عليها. ولكن النتائج لم تكن لصالحها أبداً، فقد ثبت كل ما قيل عن تهجير وتطهير وقتل جماعي للفلسطينيين العزّل، فسرعان ما أعادت الحكومة إغلاقها مع تمديد مدة الحجب إلى 70 سنة. وبذلك، فإن أوراق “نكسة حزيران” مثلاً ستبقى مغلقة حتى العام 2037، ووثائق احتلال بيروت لن ترى النور قبل سنة 2052. كذلك الأمر فيما يتعلق بظروف وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الغامضة سنة 2004، فلن نعرف إن كان لإسرائيل دور في تصفيته حتى العام 2074.

عندما يحدث ذلك، لن يكون هناك أي شاهد عيان على قيد الحياة ليُثبت حقيقة أو زيف تلك الأوراق والوثائق. جميعهم وجميعنا سنكون قد رحلنا عن هذا العالم، وستتمكن إسرائيل من قول ما تشاء، نقلاً عن الأموات، من دون خشية من أي مسائلة قانونية. والمصيبة تكمن طبعاً بعدم وجود أرشيف مماثل في الوطن العربي، للاستناد عليه أو الاستئناس به، فلا سورية احتفظت بوثائق حروبها مع إسرائيل ولا مصر.

الأرشيف الوحيد المتاح في سورية اليوم هو متحف الوثائق التاريخية في منزل رئيس الحكومة الأسبق خالد العظم، في حيّ سوق ساروجا الأثري. بعض أوراقه تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، ولكن ليس فيه شيء عن مرحلة ما بعد قيام الوحدة المصرية السورية عام 1958. وقد جاءت الانقلابات العسكرية المتتالية في سورية ومصر والعراق لتطيح بالكثير الكثير من أوراق تلك الدول الرسمية، التي تم تلفها عمداً لأنها مرتبطة بعهود “بائدة”.

معظم صُنّاع التاريخ في الوطن العربي توفّوا، ولم يتركوا وراءهم لا أوراق ولا حتى مراسلات، بل اعتمدوا فقط على تدوين مذكراتهم الشخصية التي تخدم قصة الراوي وتظهر أمجاده في معظم الأحيان، أكثر من خدمة الحقيقة نفسها. لقد كان لدى الفلسطينيين أرشيف محترم ودقيق، جمعوه بكدِّ وتعب، يروي قصة أراضيهم وحقوقهم ورجالاتهم وقضيتهم، ولكن هذا الأرشيف دُمّر بالكامل وسُرقت منه خرائطه وأوراق الملكية الفلسطينية (الطابو) بعد اجتياح بيروت العام 1982. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون يدرك تماماً أهمية ذلك الأرشيف الفلسطيني، وقد عمل منذ وطأت قدماه مدينة بيروت على حرقه ونقل بعض أوراقه فوراً إلى تل أبيب. وفي هذا الأرشيف “المسروق” الكثير الكثير عن سكان هذا المشرق، ضاع في عتمة التاريخ والانقلابات العسكرية والحروب، يبدو أنه لن يرى النور أبداً.

رصيف 22

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button