الصورة، هل ما زالت تحبس الراهن؟/ رشا عمران
“تقبض الصورة على الراهن”- يقول رولان بارت في كتابه “الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوغرافيا”. ربما يفسر بارت في قوله هذا السبب الذي كان يجعل البشر في الزمن الماضي (اكتشفت آلة التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر وحلت بسرعة محل البورتريه الفني) يستعدون للحظة التقاط الصورة، حيث كانوا يرتدون أجمل ما لديهم من ثياب ويذهبون إلى مكان التصوير كما لو أنهم ذاهبون لقضاء وقت في ضيافة آخرين، ثم يستعدون باحترام وتبجيل لهذا الحدث الاستثنائي: التقاط صورة للعائلة في هذه اللحظة من الزمن: تقف العائلة أو تجلس متقاربة بنسب في المسافات بين أفرادها محسوبة بدقة، وبتراتبية هرمية، حيث يجلس الوالد والوالدة على كرسيين متماثلين (يحدث أن يكون كرسي الوالد أكبر من كرسي الوالدة)، بينما يقف الأولاد خلفهما أو بجانبهما، تبعا لسن الأولاد، وإن كانت العائلة مؤلفة من ولد واحد فقط مع الأبوين فهو سوف يقف في المنتصف بينهما. وهكذا كانت الصورة تخضع لتراتبية اجتماعية كما لو أنها تنقل ليس فقط صور الأشخاص بل أيضًا صورة ما كان عليه المجتمع؛ كما لو أن الصورة هي تثبيت للزمن الذي التقطت به، وهو ما كان يجعل من اختيار مكان عرضها في البيت مسألة في غاية الأهمية، ليس فقط لأن أصحابها يريدون استعراضها أمام الآخرين، بل لأنهم يريدون أن يتمكنوا كل ما رأوها من مد لسانهم في وجه الزمن، فالصور قبضت على لحظة عابرة من الزمن وجعلتها حبيسة الإطار، سجينة في مساحة صغيرة، غير قادرة على الخروج والعبور كصاحباتها، أو هذا ما نتوهمه على الأقل، ففي الوقت الذي نحبس فيه تلك اللحظة الزمنية في صورة نضعها ضمن إطار بمساحة بأبعاد صغيرة نخلق أوهامنا الخاصة عن بقائنا إلى الأبد كما نحن في الصورة، كما نحن في لحظة التقاط الصورة، كما لو أننا امتلكنا تلك اللحظة الزمنية إلى الأبد، كما لو أننا نصر على التأكيد أننا وحدنا في تلك اللحظة من الزمن، ذلك أننا ندرك أن الموت سوف يجعلنا طي النسيان (تنسى كأنك لم تكن) كما قال محمود درويش؛ تجعلنا الصورة نثبت كينونتنا في لحظة ما كتوثيق أكيد على وجودنا في عالم الأحياء ذات يوم.
يمكننا أن نقول إذًا إن الصورة الفوتوغرافية الشخصية أو العائلية هي تهميش لفكرة الموت في الذاكرة، هل يصح هذا؟ نحن نعيش وفي هامش ذاكرتنا تعيش فكرة الموت، تترك مكانها في الهامش مرات كثيرة وتقترب من المتن، هكذا نعتقد، بينما الحقيقة هي أن الموت هو المتن وحياتنا هي الهامش، فالحياة عابرة متغيرة متحركة، بينما الموت دائم وثابت، ما نفعله في الصورة الفوتوغرافية أننا نستعير ديمومة الموت ونصدرها إلى الصورة الشخصية، هكذا نصبح ثابتين ودائمين، أو على الأقل هذا ما نريد تصديقه عبر صورنا الشخصية أو العائلية، ها قد جعلنا من اللحظة العصية على الثبات ثابتة.
دائمًا ما كان يلفت نظري في البيوت التي أزورها تلك الصور الشخصية والعائلية المعلقة باعتناء شديد على جدران الصالة أو موزعة على حوامل أنيقة على المناضد. ثم أتذكر أنه لم يكن لدي مطلقًا أرشيف صور تخصني، حتى بعد أن أنجبت ابنتي الوحيدة، لم أكن أهتم مطلقًا بالتقاط صور لها، لم أعرف أين اختفت صورها التي التقطها لها الأهل والأصدقاء في طفولتها. لم تكن لدي أيضًا صورة لوالدي الراحل، ولا لوالدتي التي تعيش منذ زمن طويل بعيدة عني. حينما أفكر بالصور أنتبه أن ذاكرتي تحتفظ بصور كثيرة من حياتي، كما لو أنها أرشيف حقيقي، ما معنى أن أضع صورًا لابنتي في كل مراحل حياتها؟ أو صورة لوالدي المتوفى؟ لابنتي حياة كاملة ولحظات عابرة كثيرة ولوقتي معها لحظات في غاية الجمال لا يمكن لجدار أن يسعها كلها لو أنني صورتها. اختزال علاقتي بها بصورة هنا وأخرى هناك يعني محاولة نسيان عدد هائل من لحظات السعادة معها. كذلك أبي أراه دائمًا في كل مراحل حياته، لن تجعلني صورته أتذكره إن قررت نسيانه؛ العقل هو من ينسى لا العين. العين أداة للرؤية، بينما يعيش من نحبهم في باصرتنا لا في أعيننا. ربما سأعلق على جداري صورة لأحد من أحبائي أو لي إن كانت بورتريها معمولًا بيد فنان تشكيلي، ففي فن البورتريه يترك الفنان شيئًا منه، مزاجه ورؤيته، عواطفه أيضًا، بينما الصورة الفوتوغرافية الشخصية محايدة لأن أداتها محايدة، لن يستطيع المصور الفوتوغرافي مهما كان بارعًا إضافة شيء إلى الحقيقة الماثلة أمامه؛ في التشكيل (البورتريه) مهما كان دقيقا سوف نلاحظ الإضافات.
في وقتنا الحالي طرأت تغييرات كبيرة ومذهلة على تقنيات التصوير الفوتوغرافي، أصبحت الكاميرات بعدساتها المتبدلة خاصة بالمصورين المحترفين الذين يمتهنون مهنة التصوير الضوئي. بينما حوّلت الهواتف الذكية المحمولة بعدستيها الأمامية والخلفية جميع البشر إلى مصوري فوتوغراف، مثلما حولت الفلاتر المرافقة لعدسات الهواتف الجميع إلى محترفين. يكفي الآن أن أمسك هاتفي وأتخذ الوضعية المناسبة وألتقط صورة لي أمررها على الفلتر لتكون جاهزة للعرض. حائط الفيسبوك استبدل به جدران الغرف والصالات، نادرًا ما يوجد الآن بيت يعرض أصحابه صور العائلة على الجدران أو الطاولات، صارت صفحات التواصل الاجتماعي منافسًا قويًا لجدران البيوت، ذلك أن صفحات العالم الأزرق أكثر علنية من جدران البيوت، وعدد من سيشاهد صورنا الشخصية تضاعف آلاف المرات، صورنا الشخصية في وضعيات وأماكن مختلفة، تلك الصور التي كنا نخجل أن يراها أحد، صورنا في غرف النوم لحظة الاستيقاظ، صورنا في أماكن النزهات الخاصة، صورنا ونحن نرقص، صورنا ونحن مرضى وفي المستشفيات، صورنا في لحظات الاحتضار، صورنا مع أحبائنا وعشاقنا وأصدقائنا، صورنا بالغة الخصوصية باتت مكشوفة للجميع، هكذا بكل بساطة وبتواطؤ جمعي على فعل ذلك.
ومثلما استبدلنا جدران البيوت بحيطان الفيسبوك والإنستغرام وغيرهما، صارت لأجهزة المحمول التي لنا ذواكر مهولة السعة، تتسع لكل ما نخزنه فيها من صور لم تجد مكانًا لها لا في هامش ذاكرتنا الشخصية ولا في متنها. هكذا صارت صور من نحبهم متاحة لنا في أي وقت، لم نعد نحتاج لاستحضارها سوى لمسة بسيطة على هواتفنا المحمولة. لم تعد الصورة فقط من يقبض على الراهن، صار الراهن كله بقبضة التكنولوجيا التي تسيدت كمتن واسع ونحتنا نحن البشر بصورنا وذواكرنا وأوهامنا نحو الهامش الضيق.
قديمًا أغرت الصورة الفوتوغرافية الكثير من الفلاسفة والنقاد للحديث عنها وربطها بسيكولوجية الفن وعلاقته بالموت والزمن والفيزياء، كانت الصورة الفوتوغرافية عالمًا كاملًا مثل قصيدة أو لوحة. أما اليوم، مع الوفرة الهائلة في الصور اليومية، الشخصية والعامة، ومع هذا البذخ في عرض لحظات حياتنا وأشكالنا، لم يعد في الصورة ما يغري الفلاسفة للحديث عنه، صار دور علماء النفس الآن ربما، الذين اكتشفوا أن هناك (نرسيس) كان يختبئ داخل كل شخص، وأتاحت له تقنيات التصوير الحديثة بالغة السهولة أن يعلن عن نفسه فينا وأن يتحول من أسطورة إلى كائن مبتذل يقع كل لحظة في غرام نفسه حين يراها على شاشة الهاتف المحمول.
ضفة ثالثة